لا يخلو العنوان من غرابة بقدر ما يحمل بعض إثارة، حتى إن كان الهارموني الجامع مفقوداً، أو يكاد يكون غائباً، فما الذي يأتي بالشاعر الجواهري إلى القاهرة وبالتحديد إلى جامعة الدول العربية؟ هل انبعث كطائر العنقاء من الرماد؟ أم إنه لم يغادرنا أصلاً، على الرغم من مضي ثمانية عشر عاماً على رحيله؟
ربما يريد بعضنا استحضار الجواهري، ليطلّ على انتفاضات الشباب العربي، الذي انطلق في موجة عارمة مطالبة بالتغيير، وكانت شعاراته الأساسية: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، خصوصاً وقد كنّا في قلب ميدان التحرير الذي اكتسب رمزية خاصة، ليس على الصعيد المصري، بل على الصعيدين العربي والعالمي. قد يكون استذكار الجواهري والتذكير من باب الوفاء، لأنه هو من غنّى للشباب وسعى لرفع شأنه بقصائده الرائعة والمحرّضة.
على الرغم من تضحيات الشباب وتفانيه استبعد من المشهد، سواء بعودة القوى التقليدية، أو بمحاولات استثماره من جانب قوى ركبت موجة التغيير وهيمنت لاحقاً على الساحة السياسية، وحاولت أن تطبعها بطابعها، بالانتخابات أو بغيرها، وسواء كانت جماعات دينية إسلاموية أو غير ذلك، فإن دوره تنحّى إلى الخلف، الأمر الذي ساهم في ظهور بوادر من الخيبة والقنوط في صفوفه. وقد كانت عملية تنحية الشباب الحلقة الأولى في حركة الارتداد والالتفاف على التغيير، واعتقدَ البعض إن الطريق للتسيّد وفرض الاستتباع والهيمنة يمرّ عبر إبعاد القوى الحيّة في المجتمع.
وعند الحديث عن الشباب ما علاقة جامعة الدول العربية؟ وهل للشباب حضور في فعالياتها وأنشطتها؟ بل هل للمجتمع المدني الذي يضم طاقات شبابية موقع في ميثاق الجامعة وتوجهاتها على الرغم من تأسيس مفوضية له؟ وبعد ذلك ما علاقة الجواهري بمثل هذا الاستدراك والتداخل؟
قد يكون الجواب من باب علاقة الفكر والأدب والثقافة بالعمل العربي المشترك، عبر عملية تنوير وتشارك وتواصل وتفاعل يكون فيها الشباب بشكل خاص، والمجتمع المدني بشكل عام من الفاعلين الأساسيين. ومثل هذا التصور كان وراء حوار جاد ومسؤول وعلى مدى بضعة شهور دعت إليه في إطار منظومة متفاعلة مؤسسة الفكر العربي، سواء باجتماعات للخبراء أو بورش عمل وحلقات نقاشية، وفيما بعد توّج بمؤتمر مشترك مع جامعة الدول العربية، حمل شيئاً من التجديد في التوجه والأسلوب والأداء.
ومن أبرز ما فيه هو منح الشباب، والأصح الإقرار للشباب بالدور الفاعل والمؤثر في حلقات هذه المنظومة التي أثارت أسئلة متنوعة. وحسب علمي ومعرفتي المتواضعة في العمل العربي العام، بل والعمل المدني على المستوى الدولي منذ أكثر من خمسة عقود من الزمان، لم أعرف تجربة مماثلة للدور الذي لعبه الشباب في هذه الفعالية.
ومنذ أن كنت شاباً وحتى أصبحت كهلاً، بل تجاوزت مرحلة الكهولة، لم أنقطع عن حلقات ودوائر فكرية وثقافية وحقوقية ومهنية متعددة، وبالرغم من أن الحديث فيها عن الشباب، أو حتى إن بعضها مخصصة له، لكن القرار الشبابي كان غائباً، فيما يتم تحضير كل شيء ليصدر باسمه من الغرف الخلفية، وليعلن على الشباب.
التوجّه الجديد وغير المسبوق بدأ في مؤتمر فكر 14، حين أعلن عن هدف التكامل العربي لمناسبة الذكرى ال70 لتأسيس جامعة الدول العربية، بالعمل من الأدنى إلى الأعلى ومن الأسفل إلى فوق، بسبب تراجع العمل العربي المشترك. ولأن ملاحظة تفتيت الدولة الوطنية وتشظيها أصبحت خطراً ماثلاً مصحوباً بالفوضى والعنف، فإن الحفاظ عليها واستنهاض عناصر القوة في هوّيتها الوطنية أصبحت ضرورة، خصوصاً التوازن والاحترام ما بين الهوّية العامة الجامعة والهوّيات الفرعية.
ولأن إدراك خطر الإرهاب والتطرّف والتعصّب يحتاج إلى مواجهة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية، فقد نوقشت قضايا التسامح واللاعنف والحوار والتفاهم ونبذ الطائفية واعتماد وسائل سلمية لحلّ الخلافات السياسية وغير السياسية، مع إعطاء اهتمام للجانب الأمني والاستخباري للتصدّي للإرهاب وللإرهابيين.
ولأن الاهتمام بالمجتمع المدني ومنظماته أصبح مطروحاً، فقد كان فتح النقاش بشأنه حيوياً، خصوصاً بشؤونه وشجونه، ولاسيّما علاقته بجامعة الدول العربية. كل ذلك في إطار الحضور الشبابي الذي ناقش الحجج التقليدية والجديدة لاستبعاده، تارة بزعم عدم نضجه وأخرى قلّة تجربته وثالثة اندفاعاته وردود فعله، ورابعة عدم إمكانية ضبطه أو تطويعه، ولهذا فقد كان إعطاؤه دوراً متميزاً في إنضاج ظروف حوار عقلاني، يشارك فيه الخبراء والممارسون ويديره وينسّق أعماله ويقترح أولوياته بعد الحوار والنقاش، الشابات والشبان أنفسهم وليس غيرهم، مسألة اتسمت بالجدّة والجرأة والمبادرة.
فالشباب بما امتلكوا من مؤهلات جديدة أضافتها إلى خصائصهم الثورة العلمية - التقنية وثورة الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والاتصالات، كان لهم قصب السبق في التصدّي لعملية التغيير، عقلاً وتخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً وممارسة بسواعدهم وعلى أكتافهم حملوا الآخرين أحياناً.
الممارسة كانت استثنائية حين يعهد للشباب بالإدارة والتنسيق واستخلاص الاستنتاجات والدروس والعبر بمزاوجة ذلك مع عقول الخبراء والأكاديميين، لتقديمها في الجو المهيب وفي الجلسة الختامية، وبحضور أمين عام الجامعة نبيل العربي والأمين العام السابق عمرو موسى وبحضور رؤساء حكومات ووزراء خارجية سابقين ووزراء وسفراء وشخصيات فكرية وثقافية وازنة.
كان حديث الشابات والشبّان عن تجربتهم الشخصية مفتوحاً وشفافاً ووجدانياً مملوءاً بالمشاعر والأمل والشعور بالمسؤولية، ولم يخلُ من انفعالية، خصوصاً وهم يتولون مسؤوليات كبيرة. تحدثوا عن الصعوبات التي واجهوها والتحديات التي قابلوها، وذلك في إطار نظرة انتقادية حيوية لازمت العمل العربي المشترك.
صفّق الحاضرون بحرارة لكل شابة متحدثة ولكل شاب، ثم جاء دور الخبراء وأصحاب المعرفة، فلم يستطع أحد أن يتجاهل تلك التجربة واضطرّ إلى التوقّف عندها، ملاحظة أو تقييماً أو مقاربة.
وحين جاء دوري تركت البحث الذي سبق أن نوقش من جانب 14 خبيراً في جلسات عدّة، وأعدت صياغته ليقدّم إلى المؤتمر مع خطوط عريضة لأربع ورش عمل ولأبحاث الخبراء الآخرين، وقررت أن أضع البروتوكول جانباً، وأن أتوجّه بالحديث عن الشباب ولهم، وهم الذين من دونهم لا يمكن لحركة فكرية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أن تنمو وتتطوّر، لأنهم عصب كل تغيير.
لم يكن لي من بد، وأنا أتحدث عن الشباب وتطلّعاته ودوره في الحراك الشعبي والثورات والانتفاضات العربية الأخيرة، وخذلانه ومعاناته وشحّ الحريات الذي لا يزال يعاني منه، وكونه وقود الحروب والنزاعات، الاّ أن استذكر الشاعر الجواهري بكل هيبته وعنفوانه. صرفت النظر إذاً عن البحث الذي ناقش المجتمع المدني المغيّب ودوره المنشود وتعديل الميثاق بحيث يستجيب للتطورات الدولية وإعادة النظر بنظام التصويت وبحث موضوع الخلافات العربية- العربية، أقول نحيّت ذلك جانباً لأنه مدوّن وتوجّهت إلى الجواهري مستعيناً به على تلخيص الموقف، وخير ما وجدته قصيدته في العام 1959 الذي خاطب فيها الطلبة والشباب:
أزفُ الموعدُ والوعدُ يعنُّ
والغدُ الحلو لأهليه يحنُّ
والغدُ الحلو بنوه أنتم
فإذا كان لكم صُلبٌ فنحنُ
والغدُ الحلو بكم يشرق وجه
من لدنه وبكم تضحك سنُّ
يا شباب الغد إنّا فتية
مثلكم فرّقنا في العمر سنُّ
البديع البدعُ في أن يلحقهم
في مضامير الصبا عوّدٌ مسّنُ
جو القاعة الذي كان يميل إلى الجدية والصرامة أحياناً، بدا عليه شيء من الاسترخاء، أما الشابات والشبان، الذين تحدثوا بثقة كان بعض الارتباك عليهم، فقد ارتسمت على وجوههم ابتسامات مشرقة، فأجواء الشعر والجواهري والحديث عن الشباب فيها بعض متعة ورقّة وإقرار بواقع أليم.
وفي جلسات خاصة كان الجواهري حاضراً بعد ذلك، ومعه الشباب:
نزق الشباب عبدتهُ
وبرئتُ من حلم المشيب
يا من يقايضني ربيع
العمر ذا المرْج العشيب
بالعبقرية كلّها
بخرافة الذهن الخصيب
http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/3e14118f-2776-4a37-81fc-5052f79...