في لقطة غير مسبوقة صوّت البرلمان اليوناني على الاعتراف بدولة فلسطين. والأهمّ من ذلك أن هذا التصويت كان بالإجماع. جاء ذلك خلال جلسة استثنائية عقدها البرلمان بجميع أعضائه وضمّت ممثلين عن الأحزاب المختلفة، وترأسها نيكولاس فوتيسيس رئيس البرلمان. ولكي تستكمل هذه اللقطة جانبها الوجداني والإنساني فقد دعي إلى حضورها رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن)، كما حضرها رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس.
الجلسة البرلمانية الاستثنائية كما وصفها رئيس البرلمان فوتيسيس، انعقدت استنادًا إلى الدستور، وجاء التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين بطلب من الحكومة اليونانية حسبما تقتضي مواده. وقد طالب رئيس البرلمان الأعضاء الذين يوافقون على الاعتراف بالوقوف. وكان المشهد أقرب إلى الاحتفالي، حين وقف جميع أعضاء البرلمان (بلا استثناء) وكأنهم في استعراض بروتوكولي، وأكثر من ذلك شهدت القاعة تصفيقًا حارًّا شارك فيه أبو مازن.
قدّر لي أن أشاهد لقطة مقاربة لذلك في المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية الذي انعقد في ديربن (أغسطس - سبتمبر/ آب - أيلول 2001) حين قرّرت نحو ثلاثة آلاف منظمة للمجتمع المدني دمغ الممارسات الإسرائيلية في فلسطين المحتلّة بالعنصرية. يومها وقفت بعض المنظمات الصهيونية للاعتراض على هذا الموقف، فلم تلق إلا ازدراء آلاف الحاضرين مع صيحات ملأت القاعة "Go Out"، فاضطرّ ممثلوها للانسحاب، وهدّدت بعدها الولايات المتحدة وبعض حلفائها بالانسحاب من المؤتمر الحكومي.
"الاعتراف اليوناني وقبله الاعتراف السويدي واعترافات أخرى غربية، تعني أن وجود دولة باسم فلسطين سيكون عامل استقرار وسلام في الشرق الأوسط، خصوصًا إذا تمكّن الشعب العربي الفلسطيني من تحقيق حقوقه العادلة والمشروعة"
ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين التي أعلن عن قيامها بقرار منالمجلس الوطني الفلسطيني في اجتماع الجزائر عام 1988؟ وقد حظي الإعلان منذ ذلك الحين باعتراف أكثر من 100 دولة خلال مدّة قصيرة، ووصل عدد الدول التي اعترفت بالإعلان إلى نحو ثلثي أعضاء الأمم المتحدة، ثم تقرّر التقدّم باعتراف من جانب الأمم المتحدة في عام 2012 بصفة عضو مراقب، وانضمّت دولة فلسطين بعد ذلك إلى العديد من المنظمات الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية مطلع عام 2015، وتقدّمت بملفّات عديدة لإقامة دعوى ضد "إسرائيل" وممارساتها العنصرية الاستيطانية التي تشكّل جريمة دولية، إضافة إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها، وهي مستمرة في سياستها المنافية لأبسط القواعد الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان.
الاعتراف اليوناني وقبله الاعتراف السويدي واعترافات أخرى غربية، تعني أن وجود دولة باسم فلسطين سيكون عامل استقرار وسلام في الشرق الأوسط، خصوصًا إذا تمكّن الشعب العربي الفلسطيني من تحقيق حقوقه العادلة والمشروعة، وبالأخص حقه في تقرير مصيره بنفسه وعلى أرض وطنه، وحق عودة اللاجئين وتعويضهم طبقًا لقرار الجمعية العامة رقم 194 لعام 1948. ولعلّ ذلك ما عبّر عنه رئيس البرلمان اليوناني خلال افتتاحه جلسة التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين. وكان قد أشاد في معرض حديثه بقرار الجمعية العامة في دورتها "الـ67" بمنح فلسطين صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد أشاد في كلمته بهذه الخطوة المتميّزة، مؤكدًا على ضرورة تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وضرورة تطبيق قواعد القانون الدولي، لاسيّما فيما يحدث في الأراضي العربية المحتلة.
وعلى الرغم من الممارسات العنصرية والاستيطانية والقمعية ضد الشعب العربي الفلسطيني، فإنه لا يزال متمسكًا بخيار السلام العادل، ولأجل ذلك انطلقت انتفاضته الأخيرة المعروفة باسم انتفاضة القدس، بعد محاولات تدنيس المسجد الأقصى، حيث قدّم حتى الآن ما يزيد على 150 شهيدًا وضعفهم من الجرحى والمعوّقين.
ولا يمكن الحديث عن حل واقعي، يستجيب لمتطلّبات الحدّ الأدنى وينهي الاحتلال ويرفع شيئًا من الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب العربي الفلسطيني، دون قيام دولة قابلة للحياة على الأراضي الفلسطينية، ولاسيّما المحتلة بعد عام 1967، وكذلك تأكيد حقه في تقرير مصيره وعودة اللاجئين وتعويضهم وإعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وإنهاء ضمّها إلى "إسرائيل" بإبطال القرار الذي اتخذه الكنيست "الإسرائيلي" عام 1980، وتفكيك جدار الفصل العنصري، وإزالة الاستيطان، وتحرير الأسرى الفلسطينيين، وحل مشاكل الحدود والمياه وغير ذلك، وهذه الحيثيات وجدت طريقها إلى المبادرة العربية التي أعلن عنها عام 2002 في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد فيبيروت.
جدير بالذكر أن موقف اليونان من القضية الفلسطينية يعتبر متميّزاً، وخصوصًا على المستوى الدولي، حيث كانت باستمرار إلى جانب حقوق الشعب العربي الفلسطيني في المحافل الدولية، ولهذا ليس غريبًا أن يتخذ البرلمان اليوناني قرارًا بالإجماع لصالح الاعتراف بدولة فلسطين. كما أن لهذا القرار أبعاده الرمزية من حيث التوقيت، فهو يتزامن مع استمرار الانتفاضة الفلسطينية المندلعة مند عدّة أشهر، ويأتي وكأنه هدية يقدّمها الشعب اليوناني لفلسطين بمناسبة العام الجديد 2016، حيث كان التصويت عشية عيد ميلاد السيد المسيح.
"الحصول على الأغلبية الكبيرة مسألة غير معتادة في اليونان، بسبب الاستقطابات والاختلافات الفكرية والسياسية والانقسامات الحزبية، فما بالك حين يتعلق الأمر بالإجماع، فإنه يكاد يكون نادرًا، وهو ما لم يحدث إزاء قضايا وطنية عديدة وخطيرة، والاستثناء الوحيد كان قرار التصويت لصالح الاعتراف بدولة فلسطين"
وشهدت اليونان، في السنوات والأشهر الأخيرة، تجاذبات سياسية واجتماعية واختلافات برلمانية حادة، فيما يتعلق بالأزمة المالية والاقتصادية التي كادت تطيح باقتصادها وبعلاقتها بالاتحاد الأوروبي، لدرجة كانت على شفا حفرة، الأمر الذي عمّق من حدّة الاختلافات ووسّع من شقة التعارضات في الساحة السياسية، لكن هذه الاختلافات والتعارضات نُحيّت جانبًا حين تعلّق الأمر بفلسطين، بل استعيض عنها بموقف موحد وإجماعي، وذلك في لحظة من التجلّي الإنساني.
الحصول على الأغلبية الكبيرة مسألة غير معتادة في اليونان، بسبب الاستقطابات والاختلافات الفكرية والسياسية والانقسامات الحزبية، فما بالك حين يتعلق الأمر بالإجماع، فإنه يكاد يكون نادرًا، وهو ما لم يحدث إزاء قضايا وطنية عديدة وخطيرة، والاستثناء الوحيد كان قرار التصويت لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، لرمزيتها ومكانتها ذات الطابع الخاص في العقل الجماعي اليوناني.
وكان رئيس الوزراء اليوناني قد أعلن أمام الرئيس محمود عباس، أن بلاده سوف تستخدم اسم فلسطين رسميًّا في الوثائق اليونانية، وزاد على ذلك "إن أثينا ملتزمة بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة وذات سيادة، على أساس حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية"، ولعلّ ذلك سيكون مقدّمة لاعتراف الحكومة اليونانية بدولة فلسطين، حسبما تقتضيه القواعد الدبلوماسية والدستورية والقانونية الدولية، أي أن الحكومة (السلطة التنفيذية) هي التي ينبغي أن تتخذ القرار بالاعتراف بدولة أخرى، حسب الأصول المرعية، وعلى أساس ذلك تتم إقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء، أو تحديد درجة التمثيل الدبلوماسي، طبقًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.
الموقف اليوناني الإجماعي للاعتراف بدولة فلسطين، أعاد إلى الأذهان مواقف اليونان المتميّزة تاريخيًّا إزاء القضية الفلسطينية، حيث رفضت أثينا عام 1947 قرار التقسيم الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وفلسطينية، وقد لقيت بسبب هذا الموقف نقدًا شديدًا من جانب الغرب، وتكرر الموقف ذاته حيث أفسحت اليونان المجال لانطلاق قوافل الحرية لكسر الحصار على غزة.
لقد جاء الموقف الأخير تتويجًا لمواقف اليونان المناصرة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، خصوصًا حين يتعلق الأمر بمقتضيات العدالة الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، حيث تزداد عزلة "إسرائيل" أكثر من أيّ وقت مضى ويتعزز الاعتقاد بأن إقامة دولة فلسطينية يمكن أن يرسي الأمن والسلم الدوليين في المنطقة ويعمق إمكانية الوصول إلى حلول سلمية عادلة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، التي تمثل معايير الحد الأدنى، ولقواعد القانون الدولي المعاصر، تلك التي لا تزال "إسرائيل" تعارضها متحدّية المجتمع الدولي، حيث تشنّ العدوان تلو الآخر وتنتهك أبسط قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان جماعيًّا وفرديًّا.
الموقف اليوناني هو تجسيد لإنسانية القضية الفلسطينية، ودعوة للعالم أجمع للوقوف إلى جانبها لأنها تمثل المسألة الأكثر جدارة على صعيد العدالة الدولية.