EN | AR
هل المجتمع المدني ضد الدولة؟
الأربعاء, يناير 6, 2016
د. عبدالحسين شعبان

قبل حلول موجة ما يسمّى بالربيع العربي والتغييرات التي حصلت في عدد من البلدان العربية، لم تؤخذ دعوة المجتمع المدني إلى الإصلاح على محمل الجد، وازدادت أوضاعنا العربية سلبية وسوءًا ، الأمر الذي هيّأ لاندلاع انتفاضات وثورات وتمرّدات ، استطاعت الاطاحة ببعض الأنظمة، ولكنها في الوقت نفسه أثارت غرائز كثيرة مكبوتة، فانتشرت الفوضى وعمّ العنف واستشرى الإرهاب وتهدّدت الدولة الوطنية بالتآكل، في أمنها وممتلكاتها العامة وكيانيتها، لدرجة أن الكثير من القوى بدأت تحتمي بمرجعيات ما قبل الدولة، مثل الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية والجهوية وغيرها. ومثل هذا الأمر قاد إلى خيبات ومرارات لا حدود.

قبل اندلاع الانتفاضات شاعت بعض المصطلحات من قبيل «الإصلاح القسري والإصلاح الطوعي« أو الإصلاح «بالقوة« والإصلاح «باللين« أو «الإصلاح العنفي والإصلاح السلمي«، أو «الإصلاح الثوري والإصلاح التدرجي« أو «التوافقي« أو «الإصلاح المنفلت والإصلاح المنضبط«، أو «الإصلاح الفوقي والإصلاح التحتي«، إلى ذلك نُسب الإصلاح إلى مواقعه، فقيل «الإصلاح الداخلي« و«الإصلاح الخارجي«.

ولعلّ هذا يعني فيما يعنيه وجود اختلافات حول المعنى والمضمون والآليات والوسائل، ناهيك عن وجود عقبات جدّية بوجه الإصلاح والديمقراطية حالت وتحول دون إحداث التغيير المنشود، وهذه المعوّقات الداخلية والخارجية تتداخل بترابط عضوي بين ثنائية الشراكة والقطيعة، وبخاصة بعلاقة المجتمع المدني بالدولة، وإلتبست إلى حدود غير قليلة علاقات السلطة والمعارضة، والفعاليات الاجتماعية والمدنية، الأمر الذي عمّق سبل الافتراق والاحتراب وضاعف الهوّة بين التطوّر الدولي في هذا الميدان، وبين القيود والكوابح التي ما تزال تعرقل التنمية والديمقراطية والإصلاح في مجتمعاتنا.

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أننا عندما نتحدث عن الإصلاح الديمقراطي، فلا نقصد بذلك الحكومات وحدها، لأنها مهما حاولت وسعت، إلاّ أنها لا يمكن أن تتصدىّ لهذه المهمة الطويلة والمعقدة بمفردها فقط ،على الرغم من أنها المسؤولة الأساسية. الحكومات بحاجة إلى شراكات حقيقية من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية والمهنية، للاضطلاع بدورها في عملية الإصلاح الديمقراطي، وهي مسؤولة أيضاً عن نجاح أو أخفاق عملية الإصلاح وإن كانت بدرجات أدنى. 

وعندما نتحدّث عن الإصلاح الديمقراطي ، فإننا لا نعني ميداناً من الميادين أو حقلاً من الحقول، وإنْ كان الميدان السياسي يشكل أساساً مهماً، إلاّ أنه لوحده لا يمكن أن يوصلنا إلى مجتمع الإصلاح والديمقراطية، ولعلّ الإصلاح السياسي يشكّل مدخلاً مهماً للإصلاح الشامل، الدستوري والقانوني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والديني وغير ذلك.

وبهذا المعنى فالإصلاح لا يعني الحكومة وحدها، وكذلك لا يعني المجتمع المدني وحده أو هذا التيار أو هذا الفريق أو الاتجاه السياسي أو العقائدي أو الديني، بل هو مصلحة عليا للشعب ولكل الأمة، خصوصاً من خلال الشراكة والتفاعل والمسؤولية المشتركة بين الدولة والمجتمع. 

ولأن الإصلاح شامل، فإنه تعبير في اللحظة التاريخية عن مسار كوني وسياق عالمي وتاريخي، لا يمكن عزل هذا البلد أو تلك الدولة عنه، أنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، وخصوصاً في ظلّ العولمة وثورة الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات وتحوّل العالم إلى «قرية كونية« والتفاعل والتداخل والتشابك بين أجزائه المختلفة، فلم يعد بإمكان بلد ما أن يعيش في عزلة أو خلف ستار حديدي أو يمنع مواطنيه من التأثّر بما يجري في العالم، فالتلفزيون والكومبيوتر والإنترنيت والموبايل، وتكنولوجيا المعلومات، أصبحت وسائل تدخل البيوت دون استئذان أو ترخيص وتؤثر في العقول والاتجاهات والأنظمة والمجتمعات على نحو عاصف. 

ولهذا السبب أيضاً لا يمكن اليوم التعكًز على بعض القضايا الوطنية وبحجّة السيادة أو عدم التدخل بالشؤون الداخلية، للتضحية بقضية الإصلاح أو مقايضة الديمقراطية والتنمية، لأن ذلك سيؤدي إلى تبريرات وتسويغات من شأنها استمرار النُظم المستبدّة والمناوئة للديمقراطية والإصلاح، مثلما لا ينبغي بحجة الإصلاح ارتهان الإرادة الوطنية وإخضاع المصالح الوطنية والقومية للقوى الخارجية وللمشاريع الأجنبية، أي قبول منطق الاستتباع والهيمنة والتعويل عليها لإنجاز مشروع الإصلاح الديمقراطي. 

إن المعادلة الصحيحة، والتي يجب اعتمادها بالاستفادة من دروس الماضي القريب، ناهيك عن الحاضر، هي إن الشروع بالإصلاح والتوجّه نحو التنمية، يُضعف من فرص التدخل الخارجي، ويحول دون إعطاء مبررات إضافية للتدخّل المفروض إقليمياً ودولياً، والعكس صحيح أيضاً، وذلك ما أكدته التجربتان التونسية والمصرية، في حين كان التدخّل الخارجي في ليبيا وسوريا مدمّراً، أما تجربة اليمن فهي تحتاج إلى إعادة قراءة في ظلّ تداخلات مع المحيط الإقليمي.

يمكننا القول استنتاجاً: كلّما تنكّرت السلطات الحاكمة لاستحقاقات الإصلاح والديمقراطية، أو سعت المعارضات السياسية للاحتماء بالخارج والتعويل عليه بحجة العجز أو الجزع من مواصلة النضال لتحقيق الإصلاح الديمقراطي وانسداد فرص تطوير الأوضاع السياسية من الداخل، كلّما كان التداخل الجراحي الخارجي خطيراً، وتذهب، بل وتتبدّد معه خطط الإصلاح والآمال، ولعلّ النموذجين الأفغاني والعراقي يشيران على نحو صارخ إلى حقيقة باهرة هي الأخرى، تكمن في أن رفض الإصلاح والديمقراطية داخلياً، قاد إلى احتلالات وفرض إرادات، وإنْ كان ذلك تحت حجج وذرائع متناقضة، ولكن وفي كلا الحالتين كانت الضحية هي؛ الديمقراطية والإصلاح والتقدم الاجتماعي والتنمية ومصائر الشعوب ومستقبلها. صحيح أن للقوى الخارجية مصالحها وخططها، لكن بعضهم كان يعطيها مبرّرات ومسوّغات إضافية للتدخل وإملاء الإرادة.

إن الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي سواء بانتفاضة أو بتراكم في التطور، يتطلّب الإقرار بالمساواة بين المواطنين وبمبادئ المواطنة الكاملة، الأساسان في الدولة العصرية، وهذان الأمران يحتاجان إلى إقرار واعتماد التعدّدية الفكرية والتنوّع السياسي والقومي والديني في مجتمعاتنا، وضمان الحرّيات للأفراد والجماعات، وبخاصة حرّية التعبير وحرّية التنظيم السياسي والنقابي والمهني وحرّية الاعتقاد وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، باعتبارها حقاً أساسياً، يضمن حق تولّي المناصب العليا والوظائف العامة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة أو الاتجاه السياسي أو الانحدار الاجتماعي أو الجنس أو المعتقد أو لأي سبب آخر. كما يستلزم الإصلاح والدمقرطة: فصل السلطات وتأمين استقلال القضاء، الذي لا ينبغي أن يكون لغير القانون أي سلطان عليه. 

ولا يمكن هنا التذرّع بالخصوصية للتملّص من الاستحقاقات الدولية والآليات العالمية للإصلاح، مثلما لا ينبغي التجاوز على الخصوصيات وعدم احترامها بحجة «العولمة« والكونية، وإنما يمكن الاستفادة منها في رفد التيار العالمي من خلال خصوصياتنا، وليس التحلّل من التزاماتنا بالمعايير الدولية. 

وتستوجب حيثيات الإصلاح نبذ العنف من الحياة السياسية والركون إلى الوسائل السلمية واعتماد لغة وفقه الحوار والتعايش والاعتراف بالآخر، كما يتطلّب الإصلاح الديمقراطي إجراء انتخابات دورية لاختيار الشعب لممثليه. 

أما الآليات الخاصة بالإصلاح، فإنها يمكن أن تتأطر من خلال المشاركة الحقيقية للمجتمع المدني وعبر المساءلة والشفافية، واتخاذ إجراءات عاجلة لإلغاء الأحكام العرفية ورفع حالات الطوارئ، إذْ أن العديد من البلدان العربية لا يزال حتى هذه اللحظة يعيش في ظلّها منذ عقود، ويتطلّب الأمر أيضاً وقف العمل بالقوانين الاستثنائية وتأكيد اعتماد آليات تنسجم مع المعايير الدولية لاحترام حقوق الإنسان، واحترام الشعائر والطقوس الدينية بتحديد علاقة الدين بالدولة ونطاق وحدود كل منهما، لكي لا يحدث هناك نوع من التماهي أو التصادم، بما يجعل الدولة ومعاييرها لوحدها هي الضامن والحاضن للحقوق والحرّيات وعدم التجاوز عليها، ويعطي للدين المكانة الوعظية، الإرشادية، الروحية، التي تثري الجانب الأخلاقي والمعنوي في حياة الإنسان، دون تدخل بمسار الدولة أو آلياتها.

كما يتوجّب الأمر إحداث نقلة مهمة في الميدان التربوي بتغيير وتطوير المناهج الدراسية وتنقيتها من كل ما يتعارض مع حقوق الإنسان وحرّياته، وهذا يقود إلى التوقيع على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة باحترام حقوق الإنسان، وبالتالي الاهتمام بنشر الثقافة الحقوقية والديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، ويمكن هنا أن يلعب المجتمع المدني دوره كقوة اقتراح، سواء بتقديم مشاريع للبرلمان أو أنظمة وقواعد عمل أو برامج خاصة، كما يمكن الإسهام في التدريب والتأهيل. وهكذا يندغم عمل المجتمع المدني بالدولة، على الرغم من استقلاليته ومهنيته وعدم انخراطه في السياسة، خصوصاً بوضعه مسافة واحدة بين السلطة والمعارضة، وهو الأمر الذي يقود إلى التواؤم والتفاهم وليس التعارض والتناقض.
 

 

http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?Type=NP&ArticleID=688670

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©