يخضع المجتمع الأردني، بكامل تفاصيله، لسلسلة متغيرات، فرضت نفسها عليه في العقدين الأخيرين، أدت في نتائجها إلى إحداث تغييرات تبدو أكثر من سلبية، وتضغط بكل ثقلها وأوزانها على بنية القيم الاجتماعية الأردنية.
وتخضع هذه المتغيرات بدورها للضغوط الاقتصادية والسياسية، التي ألقت بكل ظلالها على كامل مساحة المنطقة والإقليم، وأنتجت فيما أنتجته قيما اجتماعية أخلاقية تبدو في كامل تفاصيلها جديدة كل الجدة على المجتمع الأردني، الذي يتمتع تاريخيا بقيم اجتماعية وأخلاقية عروبية وإسلامية أصيلة.
ولا يخفى على أحد أن العامل السياسي ومشكلات الإقليم وتعقيدات القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، ثم سلسلة اللجوءات التي احتواها الأردن خلال العقدين الأخيرين، انتهاءً بأزمة اللاجئين السوريين، قد ساهمت مجتمعة، وإلى حد بعيد، في تعقيد المشهد الاجتماعي الأردني، بعد تعقيدها للمشهد الاقتصادي المحلي، كما يظهر ذلك في ارتفاع معدلات البطالة، واتساع مساحة الفقر، وتدني الناتج المحلي الإجمالي قياسا بحصة الفرد منه.
لقد تحول الاقتصاد الأردني خلال الثلاثين سنة الماضية إلى اقتصاد لا يعتمد كثيراً على قيم الإنتاج الوطني، بل يعتمد أكثر على المعونات والمساعدات والقروض الخارجية. وجرف هذا التحول معه، ضمن أسباب أخرى، الشعب نفسه؛ للاعتماد على الوظيفة الحكومية بالدرجة الأولى، وتَرَكَ معظم قطاعات الإنتاج الأخرى لليد الوافدة لتديرها وتشغلها، مما أدى إلى إحداث تحولات وتغيرات في نفسية المواطن. وهنا بدأت تزدهر ثقافة العيب بكل سلبياتها، وأصبح الاقتصاد الأردني اقتصاداً رعوياً غير منتج.
إن اتساع مساحات الفقر وجيوبه في المملكة خلال العقدين الأخيرين، أدى إلى الدفع بالمواطن للاعتماد على ريعية الدولة. وعندما غيرت الدولة مسارها واتجهت نحو التخلص من سياستها الريعية بالتدريج، أدى ذلك إلى ابتعاد الدولة عن طبقة "الزبائن المباشرين" المستفيدين منها، مما جرّ بعضا من أفرادها إلى التحول لمعارضة هذا "الزعل الريعي"، كما التحول إلى صناعة مراكز قوى تقوم شكلا بدور المعارضة غير المسلحة بأي برنامج سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فتحتكم فقط الى العقلية الزبونية التي حكمت علاقتها بالدولة طيلة العقود الماضية.
وعلى امتداد هذه المسطرة القيمية، فإن ارتفاع منسوب الفقر والفقراء في المملكة أدى أيضا، وبالضرورة الحتمية، إلى تذويب الطبقة الوسطى في المجتمع الأردني الذي وجد نفسه محاصراً بين طبقتين: طبقة تملك السلطة والمال، وطبقة أخرى تخضع لشروط وظروف الفقر وقضاء اليوم في البحث عن المعونات لسد رمقها.
الاستقطاب أمر لم يكن معروفاً في المجتمع الأردني، فجاء هذا الاستقطاب الحاد، الاقتصادي الاجتماعي، لينتج طبقة تبدو جديدة كلياً على المجتمع الأردني، هي طبقة الجياع التي تمثل نسبة تتزايد في المجتمع. وهي الطبقة التي ستشكل لاحقاً الخطر الأكبر على الدولة وعلى استقرارها إذا لم نبادر إلى معالجة مشكلة الفقر وتأمين مشاريع ووظائف لمئات آلاف الشباب العاطلين عن العمل، وتوزيع مكاسب التنمية على كل الفئات والمحافظات، والحد من أثر تلك العوامل والآفات التي ابتلي بها المجتمع مؤخراً.
ومع ازدهار "الواسطة"، وهي من أضر الممارسات في المجتمع، ترسخ في ذهن شرائح واسعة من المواطنين أن الدولة ليست لهم ولن تكون، بل هي حكر على فئة قليلة من الناس. ولم تلتفت الحكومات في حينه إلى معاني وتداعيات تدفق العمالة الوافدة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي كان من المفترض أن تقوم به الحكومات منذ عقود من الزمن.
وأمام اتساع مساحة الفقر، فان التداعيات التي تتبعها بالغة الخطورة هي الأخرى. أهمها أن مفاهيم المجتمع تتغير، وتصبح منظومات المجتمع الأخلاقية والقيمية مختلفة.
إن وضعنا الداخلي في هذا الجانب يتدهور ويتراجع بشكل كبير. وحالة الإنكار التي يعيشها المسؤول أدت إلى فقدان ثقة المواطن بالسياسات وبالمسؤولين على حد سواء. وإن تحالفات السلطة والمال، وشيوع مفاهيم خاطئة عن أن السلطة تجلب المال، والمال يجلب السلطة، هما جزء لا يتجزأ من المفاهيم والقيم التي أحدثت تغييرات خطيرة في بنى المجتمع الأردني، وفي بنية الدولة نفسها. ويظهر ذلك في الجرأة على الاعتداء على المال العام، وبروز ظاهرة الفساد المالي والسياسي معاً، والترهل الإداري. وقد جاءت كلها نتيجة سياسات خاطئة لم تتم مراجعتها وتقييمها في أوانها.
وبالرغم من أن الأردن يحظى بإعجاب واحترام كبيرين في المجتمع الدولي، إلا أن هذه الحالة لا يبدو لها تأثير يذكر في السياسات الداخلية المحلية، ولا تنعكس إيجابا على علاقة الدولة وسياساتها بالمواطنين، وبما يؤدي إلى خلق فجوة أخرى بين سياسات الدولة الخارجية وسياساتها الداخلية، ويزيد من الصراع الطبقي.
إن اتساع مساحة الفقر والفقراء، وظهور طبقة الجياع، أفرزا سلسلة متتالية من الظواهر الاجتماعية الطارئة على المجتمع الأردني. فلم تعد قيمة التسامح التي يشتهر بها الأردنيون كافية تماما لضبط العلاقات الاجتماعية، بل تحولت هذه القيمة إلى ما يشبه "القيمة التراثية"! فصار من المألوف جدا استخدام العنف في العلاقات اليومية بين أبناء الوطن، ولأسباب بسيطة.
إن التحول في نمط العلاقات الاجتماعية من مجتمع التسامح إلى مجتمع العنف، هي ظاهرة ما تزال في بداياتها، ويمكن معالجتها إذا ما أعيد لقيمة التسامح اعتبارها وتأثيرها في المجتمع، من خلال معالجة المشكلات الرئيسة التي تشكل عامل ضغط نفسي واجتماعي على سلوكيات المواطن الأردني في تعاملاته اليومية مع جيرانه ومواطنيه وشركائه في وطنه.
ولعل من أبرز مظاهر التحول في المجتمع الأردني، ظهور الانغلاق الفكري، وازدهار الغيبيات، وعدم القبول بالآخر، واتساع خطاب الكراهية. هذا فضلا عن التحول في وسائل وطرق الحوار بين المواطنين أنفسهم. وهي مظاهر بمجملها تدق ناقوس الخطر، وتدفعنا إلى تنبيه صانع القرار إلى مجمل تلك التحولات التي أثرت سلبا على القيم الفضلى للمجتمع الأردني، وذهبت بها مذاهب جديدة قد تتطور -لا قدر الله- إلى أن تصبح جزءاً من قيم وسلوكيات المجتمع.
ان ما نشهده من انهيار شبه كامل للنظام العربي، مع التقليل من خطورة مشكلاتنا الاستراتيجية، خاصة ما يتعلق منها بسياسات إسرائيل في فلسطين، والتحولات الخطيرة التي نمر بها، هذه جميعا ستهدد بنية المجتمع الأردني بكامله. وإن انهيار النظام العربي أيضا لن يسمح للأردن بالاتكاء على بعض الأنظمة، التي هي إما منشغلة الآن بنفسها، أو ستنشغل بها لاحقا، وبما سيجعل الأردن وحيدا في مواجهة أخطاره من دون أن يجد أحدا يمد له يد العون والمساعدة.
إن جزءاً رئيساً من أسباب نمو تلك المشكلات والتحولات، تعود إلى سياسات الحكومات المتعاقبة؛ بترك الجهاز الإداري يترهل حتى أصبح في بعض مواقعه معطلاً لمصالح الناس، كما انخفضت كفاءة الجهاز كمؤسسات وأفراد، من دون وعي كاف بطبيعة وخطورة تلك المشكلات القائمة. ومع وجود ماكينة إعلامية؛ رسمية وغير رسمية، تجافي الموضوعية في عرضها للأوضاع المجتمعية، فإنها فقدت مصداقيتها عند المواطن. فيما أصبح من السهل على بعض المسؤولين والموظفين تغطية الحقائق وإظهارها بعكس واقعها الحقيقي.
ليس في عرضي لهذه المتغيرات مبالغة أو تشاؤم أو مزاودة. ولست من الحالمين الرومانسيين. لكنني أرى أن زحف الأحداث علينا يتم بخطوات صغيرة، يكاد لا يشعر بها بعض المسؤولين، إلا أن تراكم هذه الظروف والأحداث يؤدي بعد فترة إلى خلق تيار جارف. ومن هنا قالت العرب في قديم الزمان: "درهم وقاية خير من قنطار علاج".
لقد بقي الأردن طيلة العقود التسعة الماضية جزءا لا يتجزأ من منظومة القيم العربية والإسلامية الأصيلة. وظل الأردن رمزا لدولة التسامح والعيش الحميم، والشعب المضياف الذي ينتصر لقيمه العروبية ولكرامته وعنفوانه. إلا أن جملة التحولات التي أشرت إلى أهمها في هذه العجالة، تستدعي من أصحاب القرار التنبه إلى خطورة تلك التحولات التي تجري تحت السطح وفوقه. وهي تحولات ظاهرة لا تحتاج لكبير جهد لملاحظتها ورصدها. أما تجاهل وجود هذه التحولات السلبية، فسوف يوطن هذه السلبيات في الفرد وفي المجتمع. وإذا ما استوطن الفقر –مثلاً– في مجتمع ما، فإن القيم والمفاهيم تهتز بشدة، وتصبح كل الاحتمالات واردة، ويصبح من الصعب جداً إعادة الأمور إلى نصابها. الشجاعة مطلوبة في مواجهة هذه الحقائق والأوضاع.
هناك من سيسأل، وله كل حق في ذلك: ما هي الحلول؟ وكيف نخرج من هذه الحالة؟
لا يمكنني وضع حلول واستراتيجيات في هذه العُجالة. لكنني أقول إن الخطوة الأولى هي التوافق على أن هناك اتفاقا بشأن التشخيص، وأنه أصبح من الضروري معالجة الأمر. وثانياً، يجب أن يكون القرار السياسي في هذا المجال واضحاً وحاسماً، حتى تكون كل أجهزة الدولة في خدمة تنفيذ وحماية القرار السياسي هذا. ويجب أن تتولى التنفيذ مجموعة واسعة من الموظفين أو الشخصيات الكفؤة ذات السمعة واليد النظيفة. ودوائر الدولة ومؤسساتها أنشئت لكي تقوم كل واحدة منها بالتعامل الكفؤ مع اختصاصاتها ومهامها، وثمة نظرية صائبة تقول إن الإدارة الجيدة تحل نصف مشاكل الدولة. ثم تضع كل وزارة أو مؤسسة خطة العمل، متقيدة بمبادىء خريطة الطريق العامة للمملكة. ومع مرور الزمن، تتم مراجعة التشريعات، ليصار إلى حصول انسجام (هارموني) بين المدخل والمنتج.
والتركيز يجب أن يكون على التعليم والصحة، لأن تدهور الأوضاع وتدهور سلوكيات الفرد، عائدان أساساً إلى تدهور نوعية التعليم. ومع مرور الزمن، يجب أن يتغير الجهاز الإداري وينتهي الترهل والبيروقراطية القاتلة. أما القطاع الثالث، فهو تأمين العلاج الطبي المجاني بطريقة أو بأخرى. هذه هي الأدوات الثلاث الأساسية التي يجب التعامل معها بشجاعة ونزاهة.