تعرفت على الأستاذ حسن سعيد الكرمي (1905-2007) حين دعوناه لإلقاء محاضرة في قسم الصحافة والاعلام عام 1990، وقبلها زرته في شقته مع والدنا رحمهما الله وكانت تجمعهما صداقة فكر، وذكرى لقاءات في لندن ابان زيارات والدنا لدار الوثائق البريطانية ليقرأ ملفاتها المتعلقة بتاريخ الأردن.
تحدث الكرمي للطلبة عن تجربته في اذاعة لندن، ونشرت (صحافة اليرموك) محاضرته القيمة، ثم تناولت الغداء معه على مائدة رئيس جامعة اليرموك ، الأستاذ الدكتور علي محافظة، واستمعت اليه يحدثنا عن جوانب من حياته وتجاربه، استذكرت بعضها وانا اطالع مذكراته (في الحياة والثقافة العربية) التي صدرت مؤخرا عن (منتدى الفكر العربي)، وقد حرر مادتها بدراية ومقدرة (سهام حسن الكرمي وكايد هاشم) وقدمها أمين عام المنتدى الدكتور محمد ابو حمور.
آلمتني ذكريات السنوات الأولى عن قسوة الحياة ابان العهد العثماني حين سجن والده اواخر عام 1915 وحكم عليه «بالإعدام من جملة ثلاثة عشر زعيما بتهمة الاشتراك في حركات سرية للانفصال عن الدولة العثمانية ثم خفف حكم الإعدام الى السجن المؤبد ونقل الى سجن القلعة في دمشق» ، لكن اطلق سراحه عام 1917 «بمساعي الشيخ أسعد الشقيري ورضا باشا الركابي». ( الإشارة هنا الى علي رضا باشا الركابي الذي عين أول رئيس وزراء في سوريا المحررة، وكذلك كان ثالث رئيس وزراء في الإمارة الأردنية).
ويتذكر حسن الكرمي تلك الفترة بقوله: «في أثناء سجن الوالد كان العيش صعبا على الوالدة وعلينا، فاضطررنا الى الهجرة الى قرية (كفر زيباد) هربا من الحرب لأن طولكرم أصبحت في خط النار بعد سقوط غزة ويافا. وأذكر أننا جميعا من أخوة وأخوات كنا نعمل بأيدينا في مزرعة لنا لم نستفد من جهودنا لأن الجراد غزا المنطقة سنة 1916 وقضي على كل شيء» (ص 18).
في عام 1918 حدثت نقلة هامة: «ولما سقطت دمشق وتأسست اول حكومة عربية هناك برئاسة رضا باشا الركابي، تعين الوالد عضوا في المجمع العلمي العربي فانتقل الى دمشق وانتقلنا معه في خريف 1918 ودخلت مدرسة عنبر في الصف الرابع الابتدائي» (ص18).
ومن المؤكد ان تعيين والده جاء في مملكة فيصل السورية بعد اندحار الدولة العثمانية مما لم يعمل المحرران على ايضاحه بهوامش جانبية تفّصل ما قد لا يفهمه قارئ اليوم عن أحداث الأمس الزاخر بأحداث الثورة العربية ومنجزاتها قبل ان تتمكن منها اتفاقات سايكس- بيكو واحتلال دمشق على يد غورو، بعد مقاومة بطولية في ميسلون استشهد في معمعانها وزير الدفاع البطل يوسف العظمة.
يصف لنا حسن الكرمي في مذكراته أيامه في مدرسة عنبر في دمشق، ومزاملته لرجال برزوا في تاريخ سوريا من مثل صلاح البيطار وخالد بكداش (رئيس الحزب الشيوعي).
ويعين والده قاضيا للقضاة في عمان، وينتقل حسن بمشورة والده الى الكلية العربية في القدس عام 1924 ويزامل رجالات برز منهم سليمان النابلسي وبهاء طوقان، وراسم كمال، ونبيه بولص.
وفي الكلية عمل جورج انطونيوس (وربما هو مؤلف كتاب يقظة العرب المشهور؟) وأقنع حسن لقبول التدريس براتب سبع جنيهات في المدرسة البكرية في القدس مقابل ان يهيأ له اتمام دراسته في «الكلية الانجليزية».
بعد تخرجه عام 1930 وزواجه نقل حسن للعمل في الرملة التي وجدها»مقسومة بين مسلمين ومسيحيين وكان بيتي في القسم المسيحي»، لكنه قضى فيها «أسعد وأهنأ» ايام حياته، وفيها ولدت ابنته سهام عام 1931 (التي عملت بوفاء على اخراج مذكرات والدها الى حيز الوجود).
ويبتعث حسن الى لندن عام 1937 للدراسة، ويعود لفلسطين للعمل معلما لكن الوضع صار عام 1938 خطيرا درجة انه قرر اعتزال « العمل ولزمت بيتي خوفا من الاغتيال» (ص 50).
وظل الحال متوترا حتى عام 1939 حين اعلنت الحرب العالمية الثانية « عندها اختفى كل نشاط ارهابي في جميع فلسطين، كما لو ان ذلك النشاط كان بأمر وايقافه كان بأمر» (ص 52).
وعمل حسن في ذلك العام «في قسم الأخبار في اذاعة فلسطين»، لكن عمله في اذاعة لندن لم يبدأ قبل عام 1947، وقدم فيها برنامجه الذي حقق له الشهرة (قول على قول).
مذكرات حسن الكرمي غنية ومهمة، خاصة فيما يتعلق بالحياة في فلسطين قبل عام 1948 فيقرأ المرء بين سطورها واقعا يرويه بأمانة رجلا عايش الأحداث المؤلمة عن كثب.