EN | AR
سعود الفيصل.. رجل في ثوب الملوك
الثلاثاء, تموز 14, 2015
عبدالله بشارة

">ما كان الملك فيصل مكتفيا بقيد أولاده بالسلالة الملكية، فقد كان من أصحاب الايمان بالعلم كرافع للتميز، والواقي من خيانة الدهر، والحامي من الانغماس في الجهالة، فكان خياره ابعاد الاولاد إلى جواهر العلم والمعرفة، وان تباعدت، وهكذا راح الأمير سعود إلى برنستون، وأشقاؤه إلى صروح علمية أخرى، وعندما قابلته لأول مرة في بداية السبعينات، كان عنوانه «نتاج برنستون» أحد أبرز معاهد التفوق في أميركا، ومن ذلك اللقاء المختصر عرفت أن صاحبي معجون بالعلم ومدفوع نحو المعرفة ومرسوم للتفوق، ولم تكن مفرداته هي المؤشّر على ذلك، وإنما رنات الصوت المهذبة الناطقة بما نسميه عسل الكلام في الأدب والخلق، ومن ذلك العلم ومن هذا الأدب طالت قامته، واستقبلته الدنيا بحنان، والأصدقاء باعجاب، والمعارف بالحيرة، والأهل بالفخر، ووالده العظيم فيصل بالرضا.
استمعت إليه في قاعة الأمم المتحدة فارعاً بالبلاغة اخاذا بالحجة، آسرا بالحسن ومحاربا بالقناعة، رافعا صوت المملكة إلى العلو، وجاهزاً لمبارزات المنطق، ودشّن منذ ذلك الوقت ثقل المملكة في الساحة الدبلوماسية العالمية. 
في مجلس التعاون، كان حليفا لي عارفاً بأن الدول تضع اللوم على رقبة الأمين العام، وكان يهمس لي بعد اللقاءات، بأن خطوات المجلس سالكة على الدرب الصحيح، في تواضع دائم ملتصق بأصحاب القامات، فتشعر بأن لسانه مرآة لكيانه، وأنه ابن صناع التاريخ الذين جمعوا الشجاعة بالحصافة، والقيادة بالجود، وعرفوا أن الحكم ليس أبهة مظاهر، وإنما موهبة تأتي من عبقرية المكان ومن ابداع الانسان، لا أنا ولا غيري يستطيع أن يتملك سحر سعود الفيصل في تجنيد المؤيدين، وتجريد المعادين وتحييد المشاغبين.
شاهدته في قاعة الجامعة العربية وعدم الانحياز والمؤتمر الاسلامي يتأفف من رزالة المفردات التي يتقاذف بها الثوريون العرب في ما بينهم، خاصة تجاه مصر بعد كامب ديفيد، فلا لسانه ولا مشاربه ولا البيئة التي تربى فيها قادرة على أن تتعايش مع هذا النوع من البذاءة، فيخرج متبرما متحاشيا هذا التلوث اللفظي غير المألوف. 
هذا المخلوق النادر يصير نسرا مع الغزو بشعور المخدوع، ومن أسقط العوام الذي تسيد بغداد في ملهاة تشبه قصص هيتشكوك، مخرج أفلام الدهشة، ويشهر سيفه في وجه العدوان متمثلا في جهد لا يتعب، ولسان لا يرهب، وعقل لا ينضب، يطوف الصحاري والبحار ويتجاوز المسافات، محاورا قادة العالم، ليكسب الآخرين نحو تحرير الكويت.
كنت أبحث عنه في ذلك الفصل النحيس، فاسمع عنه في اليابان وبعدها بقليل في اوروبا متجولا لمصلحة مبدأ نحته في إيمانه بأن الكويت عائدة لأهلها، ويسألني دائما عن المرحوم الشيخ جابر الأحمد أمير الكويت، في لهفة التخفيف عنه، وعن راحة الكويتيين في الرياض.
والحق أن تحت دماثة سعود الفيصل ولطافته، تتواجد صلابة حديد في الارادة، وشجاعة الفرسان في المواجهة، وأحيانا أقول إن حياته في جمالها الأخلاقي، وغزارة تجاربه، وقوة ارادته، وتلاقي الخلقة مع الأخلاق، كلها تشكل لوحة جذابة تشبه اللوحات في أساطير اليونان القديمة.
راح الامير سعود الفيصل إلى مثواه الأخير في جنات النعيم، حيث مسكنه مع الصالحين البارزين، وترك العالم فقيرا من دونه، مخلفا إرث النادرين، الذين قَلَّ ما يكرر الزمن إنجابهم، كان ملاكاً في ثوب الملوك الزاهي

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©