حين هاتفني السيّد علي الحكيم ليخبرني إن جدّه السيد بحر العلوم يرقد في مستشفى الجامعة الأمريكية وإنه سأل عني قلقت كثيراً لتقدّمه في السن وللعذابات التي اجترحها ، وقلت له سأزوره غداً بالتأكيد، ثم سألته هل ثمة أمر جدّي، فأبلغني أنه أجرى عملية في الركّبة (لتغيير المفصل)، وعندها شعرت بالإطمئنان. كان ذلك قبل ثلاث سنوات. وعندما خرج من المستشفى في اليوم التالي هرعت لزيارته ووجدت بيته عامراً، وخصوصاً في المرّة الثانية للزيارة، وما إن رآني حتى هتف بصوت عال " وقد يجمع الله الشتيتين بعدما" فأكملت الشطر الثاني " يظّنان كل الظّن أن لا تلاقيا " وهو بيت شعر للشاعر قيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، وكان قد مضى عدّة سنوات على آخر لقاء بيننا.
وعلى الفور دخلنا في حوار استكملته في الزيارة الثاني واستمعت إليه تفصيلاً عن الوضع السياسي وتداخلاته وعقده واستمرار انغلاق الآفاق، مصحوباً بغصّة ومرارة لا حدود لهما. وكنت أتمنّى حضور التكريم الذي أجري له في بيروت بمبادرة من مركز الإمام الحكيم، وفي الحديث عنه، إلاّ أنه تعذّر حضوري بسبب سفري ارتباطاً بموعد مسبق وقد اعتذرت منه، وكان أخي حيدر حاضراً.
حين سمعتُ خبر دخوله في غيبوبة قلتُ أتمنّى أن يخرج منها سالماً، فما زال أمامه الكثير، فمقام وقامة مثل السيد محمد بحر العلوم، الأديب، والمؤلف، والقاضي، والسياسي ورجل الدين، الذي اضطرّ للعيش في المنفى نحو ثلاثة عقود ونصف من الزمان، واكتسب تجربة غنيّة وخبرة غزيرة بحلوها ومرّها، وبنجاحاتها وإخفاقاتها، يجعل منه عامل جذب ونقطة استقطاب، وليس مصدر تنافس أو تباعد، خصوصاً وقد ازدان بالحكمة، وهو الأمر الذي ينقص الكثير من الجماعات والشخصيات السياسية.
ولعلّها مفارقة أن يكون بحر العلوم المولود في النجف العام 1927 قد ولد في العام ذاته، الذي ولد فيه الشاعرحسين مردان والروائي غائب طعمه فرمان والفنان محمود صبري والشاعر مصطفى جمال الدين .
أول لقاء لي معه بعد الاحتلال في النجف في مطلع شهر تموز (يوليو) العام 2003 حين وصلتها لإلقاء محاضرة، قال لي " والله لقد عادت لي الحياة من جديد حين عدتُ إلى النجف" ووجدت صحته قد تحسّنت فعلاً. قال اليوم عشاءكم عندنا، قلت له سنضطّر للعودة إلى بغداد قبل بداية منع التجوال، ولكننا سنشرب الشاي عندك، وهذا ما حصل بحضور مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء، وكان حينها مُبتهجاً وفرحاً، ودعاني للمشاركة أمام الحاضرين متحدثاً بكلام قد أستحق بعضه وقد لا أستحق، وقلتُ له "وعين الرضا عن كل عيب كليلة..."، واعتذرت منه وغادرنا النجف، وكان أن وجدت جنوداً أمريكان يأكلون الكباب في أحد مطاعمها، فلم أستطع الاستمرار بوجودهم بالقرب منّا وهاجت حينها قرحتي القديمة، واضطررنا لترك المطعم.
عرفتُ بحر العلوم في النجف بحكم العلاقات العائلية والاجتماعية والجيرة، ومنذ فترة مبكّرةٍ، وخصوصاً مع بدايات وعي وانخراطي في العمل الوطني في إطار الحركة الشيوعية (أواخر الخمسينات)، لاحظت حيويته ونشاطه في إطار التيار الديني، وقد تابعت لاحقاً مسيرته الأدبية، ولاسيّما حين أصبح رئيساً للرابطة الأدبية، التي جمعت نخبة من الأدباء والكتاب، وإنْ كان غالبيتهم من منحدرات دينية، لكنها ضمّت أيضاً مجموعة من ميول أخرى، وبالتدريج بدأت أتعرّف على مدرسته الفكرية والاجتماعية وشخصيته المنفتحة، فهو سليل عائلة عريقة، وكان جدّه الأقدم السيد محمد مهدي بحر العلوم (1155-1212) ذا شهرة واسعة، حتى إن هناك من يقول إن الفترة التي عاش بها السيد محمد مهدي كان يطلق عليها "عصر السيد محمد مهدي بحر العلوم"،حيث كان في النجف وحدها آنذاك نحو 200 شاعر، في حين لم يزد نفوسها على 30 ألف نسمة، ويعود نسب الأسرة إلى الإمام الحسن، وانتقلت من الحجاز إلى العراق وسكنت البصرة والكوفة وهاجرت إلى إيران وعادت إلى العراق، فسكنت النجف وكربلاء.
وإذا كان الجواهري الكبير قد أخذ إسم عائلته من كتاب لجدّه الأقدم واكتسبت لقبها الحالي "الجواهري" نسبة إلى كتاب فقهي موسوعي، ألفّه أحد أجداد الأسرة وهو الشيخ محمد حسن النجفي، وأسماه "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " ويضم44 مجلداً، لُقِّب بعده بـ"صاحب الجواهر"، ولُقبت أسرته بـ"آل الجواهري"، ومنه جاء لقب الجواهري، فإن بحر العلوم أخذ إسمه من تبحّرهم بالعلوم وانصرافهم إلى الدين والأدب والفقه، وبرز منهم أعلام كثيرون، مثلما أخذنا إسم العائلة شعبان من جبل في اليمن ، وهو جبل النبي شعيب، وكان الأقدمون يذيلون اللقب بشعبان أو بني الأشعوب أو الشعبانيون الحميرون القحطانيون، إلى أن أطلق الشيخ عامر الشعبي، إسمه فأخذته العائلة، بدءًا من العلاّمة يحيى سديد الدين حيث تم حذف الإسم الطويل : آل شعبان الحميري القحطاني، واكتفينا باسم آل شعبان وبالتدريج وللسهولة حذفنا الألف واللام.
كان من أبرز علاقات بحر العلوم الملازمة له في النجف الدكتور مصطفى جمال الدين الذي جاءها من لواء (محافظة) الناصرية للدراسة في الحوزة العلمية، وكان عمره 11 عاماً، إضافة إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المولود في النجف العام 1936 والذي عاش أكثر من ثلاثة عقود فيها، حتى بعد أن اضطرّ والده العودة إلى لبنان بقي فيها، والأمر كذلك بالنسبة للسيد محمد حسين فضل الله المولود في النجف العام 1935 والذي ترعرع وشبّ فيها، حتى بلغ عمره نحو 33 عاماً، فغادرها إلى لبنان بتكليف خاص.
وإذا كنتُ قد تعرّفت على السيد جمال الدين في العراق، فقد تعرّفت على الشيخ محمد مهدي شمس الدين في لندن واستكملت ذلك في بيروت. وقد أنستُ بفيض مشاعر رجال الدين الثلاثة بحر العلوم وجمال الدين وشمس الدين ، وكذلك بطيبة أنفاسهم ورقّة طباعهم وعمق تفكيرهم، وقدرتهم على التعامل مع مختلف الأوساط دون حساسيات.
وقد كتبتُ قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان كيف أن هذا الثلاثي المنفتح حاول تجديد التوجّهات الدينية والمناهج الدراسية للحوزة العلمية التقليدية، وهي محاولة مستحدثة في الخمسينيات والستينيات، وقد سبقتها محاولات كثيرة مثل ما أطلق على محاولة جنينية في العقد الثاني من القرن العشرين وبالتحديد في العام ،1918 حين اتخذت عصبة شبابية من طلاّب الحوزة العلمية اسم " معقل الأحرار" في مدرسة الأخوند،والتي ضمّت سعيد كمال الدين وسعد صالح وعباس الخليلي والشاعر أحمد الصافي النجفي، وشارك معهم أحد الإيرانيين المدعو " علي الدشتي" الذي غادر إلى إيران وأصبح له شأن كبير فيها.
أما الأربعة الآخرون فقد شاركوا في ثورة العشرين، واضطرّوا بعد فشلها إلى الهرب لحين تسوية أمورهم، باستثناء أحمد الصافي، الذي ظلّ في إيران نحو ثمان سنوات وترجم "رباعيات الخيام" واختار المنفى وطناً له، لاسيّما بعد انتقاله إلى لبنان وسوريا حتى أصابته شظية خلال الحرب الأهلية اللبنانية فعاد إلى بغداد ، ليتوفى فيها بعد عام تقريباً (العام 1977). ويمكن اعتبار أطروحات السيد أبو الحسن الاصبهاني المتوفي العام 1946 أحد المجدّدين من آيات الله التي كان لها حضور كبير لم ينل درجته أحد من قبله ومن بعده إذا استثنينا السيدعلي السيستاني لاعتبارات أخرى لم تكن السياسة بعيدة عنها، لكن الظروف التي عاش فيها السيد أبو الحسن كانت مختلفة عن الظروف الحالية، حيث كانت الأمية مستشرية والتخلّف مستفحلاً، وإنْ كان يقابله بدايات حركة تنوير محدودة، لكن الأوضاع العامة لم تكن لتستوعب الآراء المتقدمة للعلاّمة السيد أبو الحسن وقبله الشيخ حسين النائيني وكتابه الشهير " تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة".
وإذا أضفنا السيد محمد حسين فضل الله إلى الثلاثي بحر العلوم وجمال الدين وشمس الدين، فأعتقد إن الصورة ستكون أكثر وضوحاً، ليس في مجال الفقه والدراسة الحوزوية فحسب، بل اقبالهم على الأدب الحديث والشعر العمودي الكلاسيكي، وانفتاحهم على الشعر الحر، كما كان يسمّى، وإنْ ظلّوا جميعهم يتمسّكون بالوزن والقافية، وحتى وإن وجدت شيئاً من قصائد التفعيلة في شعرهم، فإنها لم تكن "الغالب الشائع، بل النادر الضائع"، وقد تأثروا في قراءاتهم بالسيّاب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونزار قباني، وغيرهم من شعراء الحداثة، إضافة إلى تأثرهم بالجواهري رائد القصيدة الكلاسيكية الجديدة.
وفي تقريضي لغزليات مصطفى جمال الدين المنشورة في صحيفة العرب القطرية العدد 7428 تاريخ 13/10/2008 وقبل ذلك بسنوات في صحيفة الزمان اللندنية، وكذلك في كتابتي عن النجف وسسيولوجيتها، وخصوصاً في كتابي عن سعد صالح "الوسطية والفرصة الضائعة"، تناولت التأثير المبكّر لهذه العلاقة الثلاثية التي استدامت حتى مغادرتهم جميعاً دنيانا. ومن درجة تعلّقهم ببعض، فقد أطلقوا اسم " ابراهيم" على أبنائهم البكر وكلّهم يكنّون بأبي ابراهيم.
وقد بلور الارهاصات الأولى للتجديد أحد مجايلي الأربعة المتطلّعين إلى التغيير، وذلك على نحو منهجي ونقدي وفي إطار مشروع إسلامي شامل، ونعني به المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر، الذي اختفى قسرياً في العام 1980، ومعه أخته بنت الهدى، وأعلن في وقت لاحق عن تصفيتهما خارج نطاق القانون والقضاء على يد النظام السابق، رغم أن هذا الإعلان لم يكن رسمياً.
III
في النجف التي كانت ترزح تحت ثقل التقاليد القاسية، كان هناك الكثير من الارهاصات والتمرّدات سواء على الجانب السياسي والفكري، أو الجانب الثقافي والاجتماعي، فالنجف كانت قد عقدت اتفاقاً مع التمرد، وظلّت مستعصية وترفض الاستكانة، فإضافة إلى اندلاع ثورتها العام 1918، وتنكيل المحتلين البريطانيين بها، فقد كانت معقلاً أساسياً للثورة في العام 1920، مثلما كان محطّة للفكر والثقافة والأدب والفقه والدراسة، باعتبارها جامعة مضى عليها أكثر من ألف عام، أي منذ أن جاءها الإمام الطوسي هارباً في العام 448 هجرية والمتوفي في 460 هجرية، ويعتمر في داخلها الكثير من التناقضات الجديدة والقديمة، التقدمية والمحافظة، الدينية والعلمانية، الإيمانية اليقينية والتساؤلية العقلية، وهكذا، ولذلك ظلّت تعيش هذا التناقض بين " المجتمع المنغلق والفكر المنفتح"، كما أسماه جمال الدين في كتابه "الديوان"، واستعاد هذه الرؤية المقاربة السيد هاني فحصفي كتابه "ماضٍ لم يمضِ" حين خصّ النجف بخصوصيته مثّلت أحد وجوهها المعروفة.
وكنت في حوار مع السيد هاني فحص، إضافة على حوارات ولقاءات مع السيد بحر العلوم والسيد جمال الدين، قد أشرت إلى أن هناك وجه آخر للنجف، وقد تكون تجربتهم بعيدة عن ذلك، سواء على الصعيد الاجتماعي لكسر التزمت والدعوة للانفتاح وموجة التحرّر التي تلقفتها النجف بحماسة بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، إضافة إلى دور اليسار وحضوره الذي يمتدّ إلى عمق المؤسسة الدينية، سواءً رجال الدين أو "خدّام" في الروضة الحيدرية للإمام علي أو قرّاء المنابر الحسينية أو الشعراء الشعبيين، ناهيكم عن النساء النجفيات والجمال النجفي، والرأي العام الذي يترنّح بين البداوة أو على طرفها، حيث تقبع النجف كآخر معلم حضاري وتأتي بعد الصحراء، وبين المدنية حيث الانفتاح والاختلاط بأمم وحضارات وشعوب ولغات وسلالات أخرى.
كانت جامعة النجف تضم خليطاً متنوّعاً، حيث يجتمع الإيراني والأفغاني والباكستاني والهندي والتيبتي والتركي، إضافة إلى اللبناني والسوري والكويتي والسعودي والبحريني، وغيرهم، ولم يكن هناك من بدّ حين يضطرّ هؤلاء جميعهم الانصهار بالنجف وباللغة العربية، إذا أرادوا التقدّم في ميادين الدرس، وكم حملت النجف معها بسبب ذلك، من تناقضات سلالية ولغوية وتقاليد اجتماعية وأصول عرقية وحضارات مختلفة وثقافات متنوّعة، وإن ظلّ طابعها العروبي بما فيه العشائري إلى حدود معينة طاغياً؟ ولعلّ هذا التناقض والصراع الذي يعتمل داخل الشخصية النجفية، يعود إلى الازدواجية في الشخصية العراقية التي كان أحسن من عبّر عنها علي الوردي في دراساته حول طبيعة المجتمع العراقي، خصوصاً تناوله الصراع بين البداوة والحضارة وما يتركه من تأثيرات، كما تحدث الشاعر الجواهري عنها في مذكراته التي نشرها العام 1988 (جزءان) بعنوان "ذكرياتي".
وقد كتب الشيوعي المخضرم " صاحب جليل الحكيم" مذكراته تحت عنوان "النجف- الوجه الآخر" حيث أطلّ على كل تلك التناقضات، كما كتب عبد الحسين الرفيعي وهو من الشخصيات البعثية، كتاباً عن النجف وجغرافيتها وسسيولوجيتها وتناقضاتها، وهي إطلالة أخرى على الوجه الآخر للنجف، وكنت قد ألقيت محاضرة في الكويت بتحريض من الصديقين جهاد الزين وحامد حمود العجلان، ومحاضرة أخرى في الجامعة اليسوعية في بيروت، تعرّضت فيها إلى جوانب غير منظورة، وأخرى مسكوت عنها، وثالثة يتم تجنبها أو الحديث عنها بعمومية كبيرة، لتلك المدينة جامعة التناقضات أو ما أطلق عليه "جوار الأضداد"، إذ قد يكون ثمة في الأمر افتئاتاً على الحقيقة، حين تقول إن النجف مدينة دينية وتكتفي بذلك، فهي في الوقت نفسه لها جانب فكري وثقافي واجتماعي غير ديني، وقد لعبت التجارة دوراً آخر في تكوينها وفي شخصية المدينة وشخصيات النجفيين، بحكم النظر إلى الآخر والاختلاط والتعامل المباشر.
لقد شهدت النجف تطوّراً كبيراً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 على الرغم من المشاكل والتحدّيات الكثيرة التي واجهتها،فقد ارتفعت نسبة دراسة البنات ثلاث مرّات ما قبل الثورة، وكانت لجان محو الأمية تنتشر في الأحياء والمناطق الشعبية، بل إن حقوق المرأة كانت مطروحة بتعمّق الوعي السياسي والحقوقي، ويجتمع حولها تيّار أخذ بالاتّساع، ولاسيّما بعد صدور قانون رقم 188 للأحوال الشخصية لعام 1959، على الرغم من قوة التيار المحافظ وانحياز أوساط سياسية قومية لصالحه، وهو ما يذكّرنا بالجواهري الكبير يوم تحدّى المحظورات، عندما رفضت الاتجاهات الدينية تأسيس مدرسة للبنات في النجف، فكتب قصيدته الشهيرة العام 1929 وهي بعنوان " الرجعيون" التي يقول في مطلعها :
إذا لم تُقصِّرْ عُمرَها الصدَّمَاتُ
ستَبقى طويلاً هذه الأزماتُ
جريئونَ فيما يَدَّعونَ كُفاة
إذا لم يَنَلْها مُصلحونَ بواسلٌ
بانقاذِ أهليهِ همُ العَثَرات
ومِنْ عَجَبٍ أن الذينَ تكفَّلوا
كما اليومَ ظُلماً تُمنَعُ الفتيات
غداً يُمْنَعُ الفتيانَ أنْ يتعلَّموا