د.عبد الحسين شعبان
أثار مشروع قانون المساعدات العسكرية للعراق من جانب الكونغرس الأمريكي ردود فعل مختلفة ومتباينة بين معارض ومؤيد، خصوصاً وقد ترافق مع زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني إلى واشنطن، حاملاً معه مشروع دولة كردية، سواء بصيغة كونفدرالية، هي واقع حال باستثناء الاعتراف، أو دولة مستقلة قيد التأسيس، وهو الأمر الذي سيأتي عاجلاً أم آجلاً، باكتمال مقوّماته أو نضج ظروف الإعلان عنه.
الجهات التي رفضت المشروع اعتبرت المساعدة «مشروطة»، ولكن هل هناك من شك في أنها سوف لا تكون كذلك؟ فواشنطن عندما احتلّت العراق، لم تكن «جمعية خيرية» جاءت لتقديم خدماتها «لوجه الله» كما يُقال، بل كان لها هدف سياسي متكامل، بدأته بالصدمة والترويع، وصولاً إلى الفوضى الخلاّقة، وقد تنتهي بعد التفكيك، بإعادة التركيب بما تمليه عليها مصالحها. أمّا الجهات التي أيّدت القانون، فقد وجدت فيه فرصة لتحقيق كيانيتها الخاصة، لاسيّما في ظروف احتدام الصراع بين الفرقاء.
وبموجب مشروع القانون تم تخصيص 25٪ من المساعدات العسكرية مباشرة إلى قوات البيشمركة الكردية والعشائر السنّية، أما ال 75٪ المتبقية فتعطى للحكومة العراقية، على أن تقدّم وزارتا الدفاع والخارجية ما يثبت التزام الحكومة بالمصالحة الوطنية. وعند فشلها في إثبات ذلك، فإن 60٪ من المساعدات المتبقية تذهب إلى البيشمركة والعشائر السنية.
الانقسام وعدم التوافق بشأن مشروع القانون انتقل إلى البرلمان العراقي، حيث تم رفضه باعتباره يخلّ بسيادة العراق واستقلاله ويتدخّل بشؤونه الداخلية، وجاء ذلك الرفض من جانب التحالف الوطني (الشيعي) الذي يمثل أغلبية في البرلمان، في حين أن إقليم كردستان رحّب به ،واعتبرته لجنة الأمن في البرلمان الكردستاني «خطوة في غاية الأهمية» وعند التصويت عليه في البرلمان العراقي قاطع ممثلو كتلة اتحاد القوى الوطنية (ذات الأغلبية السنّية) الجلسة، وكذلك كتلة التحالف الكردستاني.
الرفض أو الموافقة للتدخل الأمريكي يثير مفارقات مختلفة، فمعظم القوى الرافضة كانت قد أيّدت في السابق أو سكتت أو تعاطت مع الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، ووافقت على الانضمام إلى مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، إضافة إلى موافقتها على الشروط المجحفة والمذلّة للاتفاقية العراقية – الأمريكية المبرمة عام 2008، وكذلك موافقتها على اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وهما اتفاقيتان غير متكافئتين وبين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، والأول محتلٌّ والثاني مُحتلّةٌ أراضيه، علماً بأن القرار السياسي والاقتصادي، ولاسيّما النفطي العراقي، وحتى بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، لم يذهب بعيداً خارج الدائرة الأمريكية، وإن كانت إيران شريكاً لها، سواءً مباشرة أو بصورة غير مباشرة، واستمرّ الحكم في العراق يصنّف سياسياً، بأن نصفه لواشنطن والنصف الآخر لطهران، حتى وإنْ اختلفت العاصمتان على الكثير من الملفّات، لكن ثمة شيئاً من الاتفاق الصامت أو الضمني بشأن العراق.
الجديد بشأن الموقف من الولايات المتحدة بعد انسحابها من العراق، هو خطر الإرهاب الدولي وتنظيم «داعش» الإرهابي الذي سيطر على الموصل في 10 يونيو/حزيران عام 2014، في ظل ملابسات وشكوك، حيث طلبت الحكومة العراقية وجميع القوى المشاركة في العملية السياسية مساعدة واشنطن التي قرّرت إرسال بضع مئات جدد من الضباط بصفة مستشارين عسكريين، ناهيكم عن تجهيز طواقمها الجوية والاستخبارية لتلك المهمة.
أما القوى التي عارضت فكرة الفيدرالية سابقاً، ولم تصوّت على الدستور الدائم، بسبب النصّ عليها، فإنها عادت اليوم تدعو إليها وتعتبرها ملاذاً، لاعتقادها أنها يمكن أن تخرج بعض المحافظات والمناطق من هيمنة الشيعية السياسية، بنقيضها السنية السياسية، وهو السبب الذي جعلها تتحمّس لفكرة تسليح العشائر السنّية، والأمر ينسحب على الاختلافات والتناقضات، بين مؤيدي الحشد الشعبي ومعارضيه وبين دعاة الحرس الوطني والمتحفّظين عليه، وبين الرافضين للمساعدات المشروطة وبين المتحمسين لها، وهكذا لا يوجد موقف عراقي موحّد أو جامع.
وبالعودة إلى مشروع جو بايدن الذي قدّمه للكونغرس في 26 سبتمبر/أيلول عام 2007 والذي حاز 75 صوتاً مقابل 23، وكان الرئيس جورج دبليو بوش قد أيّده بحماسة باعتباره خياراً مُلِحّاً لاحتواء الأزمة بين الشيعة والسنة، خصوصاً في أعقاب حملة التطهير الطائفية بعد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري 2006، فإنه كان قد اقترح إقامة ثلاث فيدراليات (كيانات) هي أقرب إلى دويلات، ووضع نقاط تفتيش فاصلة للحدود بينها، وإصدار هوّيات خاصة بها، على أن تقوم قوات يبلغ قوامها 300 ألف عسكري لتنظيم العملية ورعايتها، وتقدّر تكلفة هذا المشروع نحو مليار دولار أمريكي.
وعملية من هذا النوع لو تحقّقت فستكون تقسيماً ناعماً بعد حرب أهلية طاحنة ودماء غزيرة، وفي نهاية المطاف سيرغم المتحاربون للاستجابة مكرهين لمثل هذا الحل، خصوصاً إذا ما تم التلويح لهم بخطر عودة الحرب الأهلية، حيث عانى مئات آلاف الناس من النزوح وظروفه القاسية، وخصوصاً بعد هيمنة «داعش»على الموصل ومناطق أخرى من العراق وإعلانها مشروع خلافة.
لم يعد مشروع جو بايدن مقبولاً من جانب القيادة الكردية فحسب، بل أصبح مقبولاً كأمر واقع من جانب القيادات المحسوبة على السنيّة السياسية، وكان قد حمل المشروع مؤخراً مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان الأمريكية الذي جاء إلى العراق في زيارة خاصة، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، لاسيّما حين أعلن عن النيّة في تسليح العشائر السنّية والبيشمركة الكردية.
إن قانون الكونغرس الجديد بشأن المساعدات العسكرية، يذكّر بقانون تحرير العراق الذي أصدره الكونغرس في عهد الرئيس بيل كلينتون عام 1998، فقد تحمّس له في حينها بعض قوى المعارضة، وتعاطت معه قوى أخرى من موقع اللامبالاة، باعتبار أن الموضوع لا يخصّها، لأنه صراع بين الحكومة العراقية التي يعارضونها، وبين الولايات المتحدة، التي يتمنّون أن تخلّصهم من نظام صدام حسين، وبعدها سيكون لكل حادث حديث. ويجب ألاّ ننسى أن مشروع غزو العراق الذي تقرّر بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 هو مشروع المحافظين الجدد، الذي جاءت تداعياته الواحدة بعد الأخرى، من نظام المحاصصة الطائفية الإثنية، الذي دمّر النسيج المجتمعي العراقي، إلى دستور كرّس ذلك وحمل الكثير من الألغام، وهو الدستور الذي وضع مسوّدته الأولى الصهيوني الأمريكي نوح فيلدمان.
يتعامل مشروع قانون الكونغرس الأمريكي مع البيشمركة الكردية والعشائر السنية ككيانين منفصلين عن أجهزة الدولة العراقية، وبالتدريج سيأخذ ذلك التعامل شكل دويلات منفصلة عن بعضها بعضا، شئنا أم أبينا، بحكم الأمر الواقع، خصوصاً عندما ستمتلك هذه القوى السلاح وستكون خارج سيطرة الدولة الاتحادية، وهذا يعني أن ارتباطها سيكون بالولايات المتحدة مصدر المساعدة العسكرية وليس بالحكومة العراقية، بغضّ النظر عن مساوئ الحكومة وممارساتها السلبية والارتكابات التي تتم باسمها ومن قوى قريبة منها باسم الحشد الشعبي.
قلتُ في أكثر من مناسبة إن «داعش» صائرة إلى زوال لا محال، لكن خشيتي هي ما بعد «داعش»، حيث سيُعاد النظر بالخريطة العراقية بمجملها، خصوصاً وقد ترتّبت مصالح شخصية وامتيازات خاصة لأمراء الطوائف من جميع الفرقاء، فالماضي سيصبح ماضياً، عندما يتكرّس ما هو قائم، وسيصبح ما هو مرفوض الآن واقعاً، حينها سيكون العراق الذي عرفه العالم بكيانيته ما بعد اتفاقية سايكس – بيكو والذي تأسس في عام 1921 قد انتهى، وأن كيانات أخرى أقيمت على أنقاضه.
تذكّرني أحوال العراق اليوم ونزيفه المستمرّ منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمان، بأطروحة لمستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغينو بريجنسكي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977-1981) عن وصفه للصراع مع الاتحاد السوفييتي بهدف إرغامه وكسر شوكته، باستخدام جميع وسائل القوة الناعمة ضدّه، وذلك حين قال: «دعه ينزف»، وظلّ الاتحاد السوفييتي ينزف ببطء وهدوء، ولكن بشكل مستمر، حتى انهارَ وتفكك، وإذا ما بقي العراق ينزف وهو مثخن بالجراح، فلن يخرج سالماً أو يبقى موحّداً، وهو الخاتمة.
صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 13/5/2015