العرب ليسوا بحاجة إلى نصحٍ من الغرب في شقّ طريقهم نحو الحرية. فهل التدخّل الغربي العربي المشترك بتبريراته الغربية هو لحماية المصالح العربية في تقرير المصير، أم لحماية الاستثمارات الغربية؟
الأمن والحرية لا يتناقضان، لكنْ، من منّا فكّر بجدية في دور المجتمع المحلي والدولي في المرحلة القادمة ما بعد الثورة العربية الثانية: مرحلة الصحوة والنهضة الحقيقية. هل ستلغي مناطق الحظر الجوي الفكر العربي وتعطّل الإرادة العربية بعد أن قامت ثورة الإرادات المكبّلة، بنقائها، تطالب بالعدالة وحكم القانون المحلي والدولي للجميع. إن دعاة الاستعجال يقولون أن الوقت لا يسمح عادة بالحكمة والتروي، ويبدو أنه كذلك.
وأتساءل أيضاً، بعد أن تمّ تفعيل دور الأمم المتحدة في حماية المواطنين... هل ستمتد مسؤولية الأمم المتحدة إلى تفعيل دورها في حماية الشعب الفلسطيني في أراضيه. فإذا أدرك الشعب، الذي يرزح تحت الاحتلال منذ أكثر من ستين عاماً، أن المجتمع الدولي سيمنع استباحته، فإن عُرفاً جديداً يكون قد نشأ. فهل لنا أن نتخيل مستقبلاً نموذجياً لسيادة القوة العادلة في كل مكان في شمال أفريقيا وغرب آسيا - بما في ذلك إسرائيل- ضمن هذه المعايير. حينئذ سيكون للشراكة الدولية العربية معنى أبعد من التحالف، حيث سيتم الاتفاق حول تطبيق الأعراف والنواميس الشريفة التي تسمو على القضايا المحلية بتراكماتها من الضغينة وغيرها.
إن النقطة الحرجة في توازن القوى في الشرق الأوسط تُعرّف نسبياً بالتخفيف من الطاقات العسكرية الصلبة والمؤشرات الاقتصادية المحسوبة إلى آخر ذلك من اعتبارات مادية، لتُعرّف نسبياً بتوازنات النفوذ. وغالباً ما يركّز دعاة الحرب على سرعة الفعل الذي يؤدي إلى تخفيض كلف ومخاطرات الحرب ويضخم الفوائد المرجوة، ويلغي جدوى كافة الأفعال غير العسكرية.
ليست كل الدول العربية واحدة، فبينما ثمة دول لها مؤسسات برلمانية وخبرة لا بأس بها من التنافس الحزبي التعددي، فهناك دول أخرى ليست كذلك. لكن الأمر الحاسم هذه الأيام هو ضرورة الانتهاء من الرعوية والدخول في الرؤيوية. يجب خلق الرؤية بالاستماع الجيّد للإنسان مهما كانت منزلته الاجتماعية. فالحكمة ضالة المؤمن. وتفعيل الإرادة لن يكون إلا بالمشاركة بين الرأي العام الذي يخدم الصالح العام ويتحسس آلامه، وما بين الدولة إذا كانت مؤمنة بأن المصلحة العامة هي غاية الحكم.
يمرّ الوطن العربي بمرحلة بالغة الخطورة والتعقيد، ويطل على مفترق طرق لم يشهده على مدى أكثر من خمسين سنة مضت. وتعود خطورة المرحلة إلى اعتبارات خاصة بالوطن العربي نفسه، وإلى التغيرات الدولية السريعة التي لم يستطع النظام العربي مواكبتها.
دعونا لا ننسى، في خضم كل مايحدث، أن هذا النظام يعاني من "انكشافات" علمية وتكنولوجية وصناعية وثقافيــة وإعلامية ومعرفيـة وغذائية وأمنية هائلة.
لقد تحول العالم إلى حالة جديدة تمثلها العولمة وما بعدها بكل ما يعني ذلك من انحسار للحدود الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والسلعية والتنافسية. وتغير النظام العالمي إلى نظام القطب الواحد. ونشأت حالة "الإرهاب الدولي والحرب على الإرهاب" بكل خلفياتها الفكرية والعقائدية الزائفة وعبثيتها وتداعياتها السلبية على العلاقات الدولية عامة، وعلى العلاقات العربية والإسلامية الدولية خاصة.
وقد تفـاقـم التقهقر العربي، في السنوات الماضية، بتأثير إغفال دور المواطن العربي - مـن خـلال أحـزابه ومــؤسساته المدنيــة - في المشـــــاركة في رســم التوجهات الوطنية، وغياب التوافق العربي الرسمي على الحدود الدنيا من الجوامع، والتغاضي عن المشكلات الوطنية الداخلية، وضغط القوى الدولية الكبرى.
ولا تزال معاناة الإنسان العربيّ على أشدّها بين غياب النية الخالصة المبنية على دولة القانون وبطء التحول نحو إدارة الدولة الحديثة، بما فيها التداول السلمي للسلطة، وبين اتساع مساحات الفقر وتفاقم البطالة، أضف إلى ذلك ضعف منظمات المجتمع المدني وقلة أعدادها، فلا يتعدى معدلها منظمة واحدة لكل أربعة آلاف مواطن؛ وعجز الأحزاب السياسية عن ممارسة دورها في تطوير البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعبير عن تطلعات المواطن؛ وقبضة السلطة القوية وبطء برامج الإصلاح السياسي وسيادة الإعلام والثقافة العولميّة التي لا تخاطب القضايا الجوهرية للمواطن؛ واغتراب الشباب النفسي والذهني؛ وارتفاع نموّ التزايُد السكّانيّ؛ والفجوة التكنولوجيّة، خصوصًا الفجوة الرقميّة؛ ومشكلات التعليم بمختلف مراحِله؛ والهجرة الداخلية والخارجية؛ إلى ما هنالك.
لقد نجحت تحولات دول شرق آسيا لأنها كانت مدعومة بالتقدم الهائل في أنظمة التعليم، وجَسْر الفجوة بين العلم والإنتاج، وتسخير البحث العلمي والتطوير التكنولوجي لتعزيز القيم المضافة في منتجات السلع والخدمات التي أخذت تتمتع بمقدرة تنافسية هائلة؛ وهو ما عجزت الأقطار العربية عن النجاح في تحقيقه.
والسؤال: أين نحن من كل هذا؟
هل يمكن التسليم أو الاستسلام للظروف لتصنع هذا المستقبل العربي كما يمكن أن يكون؟ إننا بكل ثقة نؤمن بأنه لا بد أن يكون للفعل العربي وللفكر العربي وللعلم العربي وللإنسان العربي دور فاعل في صياغة المستقبل العربي، ونؤمن بأن يكون للعرب دور في المساهمة في صنع مستقبل الحضارة الإنسانية.
وهذا يطرح المسألة بكل وضوح: ما الذي يمكن أن يفعله الفكر العربي في هذا المجال؟ وما هو دورنا في منتدى الفكر العربي؟ وما هي أدوار المنتديات المشابهة التي نتطلع إلى أن تنتظم جميعها في شبكة عربية متفاعلة تتقاسم الأدوار وتتكامل المهمّات وتتبادل المعلومات على طريق تشكيل تيار فكري عربي متقدم؟
ما هي الإستراتيجية التي نتطلع إلى رسمها؛ ومن ثم تنفيذها بالتعاون مع القوى العربية التي تؤمن بالفكر العربي المبدع الخلاق البعيد عن القولبة الجامدة والمواقف المسبقة؟ الفكر المتطلع إلى المستقبل بثقة رغم المصاعب، وبأمل رغم المشقة؟
ما هي خطة العمل التي سنضعها – كعرب - حتى تتحول الأفكار إلى أعمال، والرؤية النخبوية إلى وعي جماهيري، والحوار بين المفكرين والعلماء إلى حوار مع السلطة وصانعي القرار؟ بمعنى آخر: كيف يمكن أن نجسر الفجوة بين العلم والفكر والعقل من جهة، وبين صنع القرار من جهة ثانية، وبين المواطن ومنظماته المدنية وقواه السياسية من جهة ثالثة؟ وما هي استراتيجياتنا؟
إن العناوين الكبرى لمثل هكذا إستراتيجية يمكن أن تشتمل على المحاور التالية:
الأول: مخاطبة مشكلات المواطن العربي في جوانبها الإنسانية المباشرة.
الثاني: البحث في القضايا الكبرى التي قد ترسم المستقبل العربي، سواء كانت هذه القضايا طبيعية كالموارد، أو تكنولوجية، أو سياسية اقتصادية.
الثالث: البحث في المشكلات السياسية التي تتطلب قاعدة فكرية جديدة أساساً للتعامل معها.
الرابع: التجسير الفكري مع الثقافات الأُخرى.
لقد حان الوقت لعدم العيش في الماضي، والتطلع للمستقبل، إذ ليس هناك عودة للوراء. فهناك جيل جديد قد بلغ سن الرشد الآن. وقد أعادت الثورة العربية الثانية للعرب تقديرهم لذاتهم.