وهي راهنت، ولا تزال، على عناصر الضعف والانقسام في الجسمين الفلسطيني والعربي، وتريد توظيف ما يحدث الآن من صراعاتٍ عربية داخلية لصالح مزيدٍ من التهويد والاستيطان، بحيث لا يكون هناك مستقبلاً ما يمكن التفاوض عليه مع الفلسطينيين. يكفي الإشارة إلى ما تعلنه الحكومة الإسرائيلية، في فتراتٍ زمنية مختلفة، عن العمل لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية في الأراضي المحتلّة.
لكن هل الخلافات الأميركية/الإسرائيلية، خلال فترتيْ حكم أوباما، بشأن مشروع الدولة الفلسطينية والمستوطنات، تعني أنّ ما قدّمته واشنطن من عروض للفلسطينيين، هي أمورٌ جيّدة ومقبولة من ملايين الفلسطينيين الذين شرّدتهم إسرائيل واحتلّت أرضهم منذ أكثر من ستّة عقود؟!.
ما جرى تسريبه من نصوص، ناقش الأميركيون مضمونها عدّة مرّات مع مفاوضين فلسطينيين وإسرائيليين، لا يشجّع الفلسطينيين على الحماس لها، أو حتّى على قبولها. فما نُشر سابقاً من مقترحات أميركية، يشير إلى بنودٍ تتضمّن الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية على مراحل زمنية لسنوات، وعلى أساس حدود عام 1967.
لكن مع «تبادل للأراضي»، بحيث تبقى في الضفّة المستوطنات اليهودية الكبرى خاضعةً للسلطات الإسرائيلية، مقابل أراضٍ تُمنح للدولة الفلسطينية من داخل إسرائيل. وتشمل هذه البنود، جعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لكن ضمن المناطق التي فيها كثافة سكان فلسطينية فقط!!
أي عملياً، وفق مقترحات سابقة لإدارة أوباما، لن تكون هناك استعادة كاملة للأراضي الفلسطينية التي احتلّت عام 1967، وكذلك بالنسبة للقدس الشرقية، لكن يحصل الفلسطينيون على «دولة فلسطينية عاصمتها القدس»، وبحيث تكون هذه الدولة «منزوعة السلاح»، وفيها وجود عسكري أميركي، وشبكة إنذار مبكّر أميركية على طول الحدود بين الدولتين.
إضافةً إلى وضع ترتيبات أمنية في منطقة غور الأردن، ذلك كلّه لتأمين «ضمانات أمنية» لإسرائيل، بمشاركة أمنية أميركية واسعة في الدولة الفلسطينية المزمع إعلانها مستقبلاً!
وحسب «الأفكار الأميركية»، على الفلسطينيين في المقابل الاعتراف بإسرائيل كـ «دولة قومية للشعب اليهودي»، وحلّ قضية اللاجئين من دون المسّ بالطابع اليهودي لإسرائيل.
وذلك من خلال عودة نسبة محدودة منهم، توافق عليهم إسرائيل، وبما لا يصل ربّما إلى عشرات الآلاف من الفلسطينيين، على أن يتمّ «توطين» الأعداد الكبرى من اللاجئين في بلدانهم الحالية، أو تسهيل هجرة البعض لكندا، أو إلى مناطق «الدولة الفلسطينية» بعد إعلانها، مع دفع تعويضات لهم تمكّنهم من العيش كمواطنين في تلك البلدان. وسيسري «مبدأ التعويض» أيضاً على اليهود العرب الذين هاجروا إلى إسرائيل.
أي سيتمّ وضع اللاجئ الفلسطيني الذي طُرد من أرضه ووطنه، في مستوى واحد مع اليهودي العربي الذي هاجر إلى إسرائيل، ليأخذ منزل الفلسطيني المهجَّر، وليقيم «دولة إسرائيل» على أرض فلسطين!
تُرى، إذا كانت تلك هي «الأفكار الأميركية» في ظلّ إدارة أوباما لمصير القضية الفلسطينية، فكيف سيكون التعامل مع «الملفّ الفلسطيني» خلال إدارة ترامب، وهو الذي تعهّد بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ولم يدعُ لوقف الاستيطان أو يدينه؟!
سعت إدارة أوباما لتوظيف واقع الحال العربي والفلسطيني أيضاً، لكن من أجل تحقيق أجندة شاملة لكلّ أزمات منطقة الشرق الأوسط، وفقاً للرؤى والمصالح الأميركية، والتي تراعي حتماً أمن دولة إسرائيل، بغضّ النظر عن الحاكم فيها. وفي صلب هذه الأجندة، فرض صيغة تسوية نهائية للصراع العربي/الإسرائيلي، وفي مقدّمه القضية الفلسطينية.
لكن كانت مسألة مصير الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، ولا تزال، هي العقبة الأكبر أمام أي مشروع تسوية لهذا الصراع. لذلك، ربّما ستجد الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب، فرصةً مناسبة جداً لحلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين بتوطين معظمهم في دول المشرق العربي، من خلال استغلال الانقسامات الطائفية والمذهبية الحاصلة حالياً في هذه البلدان.
فظهور جماعات تتحدّث الآن عن اضطهاد حقوق طائفة أو أتباع مذهب إسلامي، ربّما يدفع إلى القبول بتوطين من هم من أتباع الأصول الفلسطينية المنتمية للمذهب نفسه، من أجل تحقيق «توازنات عددية» في هذه البلدان!. أمّا عن الفلسطينيين المسيحيين، فهناك «تشجيع غربي» لهم ولآخرين من المسيحيين العرب للهجرة إلى أوروبا وكندا بأشكال مختلفة.
للأسف، يستمر الآن تهميش القضية الفلسطينية عربياً بأشكال ومضامين مختلفة. فلم تعد القضية الفلسطينية تعني الكثير لغير الفلسطينيين من العرب، بل للأسف، أصبحت أيضاً قضية «التحرّر الوطني» عموماً، مسألة فيها «وجهة نظر»!!، فهي الآن حالة معاكسة تماماً لما كان عليه العرب قبل نصف قرن، إذ هناك الآن تهميش للقضية الفلسطينية.
وطلب تدخّل عسكري أجنبي ومعايير طائفية ومذهبية وإثنية، مقابل ما كان حاصلاً في عقديْ الخمسينيات والستّينيات من مركزية للقضية الفلسطينية وأولويّة لمعارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي، ومعايير وطنية وقومية لا طائفية ولا إثنية.
فهل يشكّ أحدٌ إذن في هذا الترابط والتلازم بين «ثلاثيات» مقابل «ثلاثيات»: إنّ مواجهة المستعمر الأجنبي تعني حتماً مواجهةً مع المحتلّ الإسرائيلي، وتعني حتماً وحدةً وطنية شعبية وقومية.. وبأنّ المراهنة على التدخّل العسكري الأجنبي لتغيير أوضاع داخلية، تعني حتماً تفاهمات وعلاقات مع إسرائيل، وتعني حتماً الانقسامات والوقوع في المستنقع الطائفي والمذهبي والإثني!!