" إن سيطرتنا وحكمنا للعراق ستجعل منه جوهرة مضيئة في التاج الريطاني " ؟؟!!
مباشرة بعد إعلان الحرب العالمية الأولى ، سيطرت القوّات الأبريطانيّة – الهنديّة على الخليج وكانت البحرين و" الفاو" يشكّلان الحدود الفاصلة بين إيران وما يسمّى آنذاك ببلاد ما بين النهرين . كان الهدف من ذلك التحرّك السريع، منع هجوم الأتراك على حقول النفط وناقلات النفط والمصافي التابعة لشركة النفط الإنكليزية – الإيرانيّة (APOC) التي قامت الحكومة البريطانيّة فيما بعد بشراء معظم أسهمها لضمان التجهيزات النفطيّة. عند إندلاع الحرب لم يكن الشرق الأوسط ضمن حدود مسؤوليّة الإمبراطورية البريطانية كما أنّه لم يكن ديمقراطيّاً حرّاً. كانت الهند المعين البريطاني في تجهيز الحرب بالجنود الهنود حيث بلغت الخسائر منهم بين 1914- 1918 أكثر من مليون جندي معظمهم قضي في الشرق الأوسط . وصفت الحرب العالمية الأولى "بالحرب الزائفة " كما وصف السلام الذي أعقبها " بالسلام الزائف " ! كان لدى بريطانيا شهوة طاغية في حكم المنطقة "تركيا العربيّة / المشرق " وقد أعلن بعض قادتها السياسيّين أن إستعمارهم لهذه الدول هدفه " تحرير شعوبها " من الأساطير والتخلّف ولهم الفضل والمعروف فيما يقومون به!! في إطار العقليّة والمصالح جرى إحتلال بغداد في آذار 1917 وبإعلان بائس كاذب :
" أن مجيء قواتنا لأراضيكم ومدنكم ليس بنيّة العداء أو الغزو وإنّما جئنا محرّرين لها ((أستخدمت الولايات المتّحدة الأمريكية جوهر الحجّة نفسها بعد غزوهم العراق في 2003)) !
بعد سيطرة الإنكليز على بغداد جرى تعيين السير بيرسي كوكس حاكم مدني عام والكولونيل أرنولد ت. ولسون نائباً له . الأخير أقنع لندن بضرورة ضم الولايات الثلاث : البصرة وبغداد والموصل لتشكيل وإدارة العراق وجعله " محوراً " منفصلاً قدر الإمكان عن باقي المنطقة وأن يكون " نموذجاً للغير" ! لندن كانت تفضّل أن تكون كردستان دولة مستقلّة تعمل كمنطقة عازلة مع تركيا، لورنس إقترح إمارات منفصلة في بغداد والبصرة ! في تشرين الثاني 1919 دعى الأمير فيصل بن الحسين الى ضم الولايات المحرّرة في سوريا وبلاد الرافدين لتشكيل مجموعة من الدول الفدراليّة على غرار الولايات المتّحدة الأمريكيّة ! أمّا الفرنسيّين فأرادوا ضم الموصل الى سوريا فرفض الإنكليز ذلك لكونها غنيّة بنفطها وكان ذلك سبباً رئيسيّاً في تشكيل العراق من الولايات الثلاث وليصبح فيما بعد محيطا جيوسياسيّاً حياً! رأى بعض المحلّلين أن إنتهاء الحرب العالمية الأولى أنهت حرباً لكنّها أنهت أيضاً سلاماً في إطار الأطماع والمصالح الدائرة بين قوى النفوذ! شاركت الولايات المتّحدة الأمريكية برسم الخريطة السياسية للمنطقة إلاّ أنّها لم تكن"حليفاً" . في مؤتمر باريس للسلام(1919) إقترح الرئيس الأمريكي ولسون إستخدام مصطلح " الإنتداب" لفترة إنتقاليّة لتدبير مستلزمات الحكم في إدارة شعب ليس له دراية بالسياسات الخارجيّة ! في آذار 1920 ، أعلنت فرنسا وبريطانيا في " سان ريمو/ الريفيرا الإيطاليّة " أن تركيا العربية الممتدّة من البحر الأبيض المتوسّط والى إيران ستكون تحت الإنتداب البريطاني – الفرنسي !
توماس أدورد لورنس ( 1888-1935)، في مقالة له أشار "بان المواطنين البريطانيّين أوقعتهم قيادتهم في فخ بلاد النهرين الذي يصعب الخروج منه بكرامة وشرف ..... وأن حكومتنا بذلك هي أسوء من النظام التركي " ! لورنس كان يرى بان الإنتداب سيكون مكلفاً من الناحية المادّية والبشرية وقد أقنع بذلك ونستون شرشل (وزير الحرب) ممّا أدّى الى تغيّر الخطّة بإتّجاه تتويج الأمير فيصل ملكاً على العراق ودعوة النبلاء والوجهاء وشيوخ العشائر العراقيّة في المشاركة بالحكومة الإنتقاليّة ! في عام 1920، سمح لأثنين من الجيولوجيّين العاملين لدى شركة (ستاندرد أويل أوف كالفورنيا) بالبحث عن النفط في العراق !!!
" جيرترود مارجيت لوثين بل " Gertrude Margaret Lowthian Bell( 1868- 1926 ) لقّبها العراقيون " بالخاتون "... تخرّجت من أوكسفورد بدرجة إمتياز بالتأريخ الحديث ، شخصيّة مثيرة للجدل نابغة لعبت دوراً كبيراً في تشكيل العراق ونظامه السياسي ! أول إمرأة عضوة في الجمعية الجغرافيّة الملكية التي منحتها المدالية الذهبية في عام 1914 لقيامها برحلة عبر الصحراء العربيّة وصولاً الى منطقة الحايل ومقابلة " إبن رشيد " أمير جبل شمّر ! في عام 1915 جرى ضمّها الى "مكتب مصر" المتخصّص بجمع المعلومات الإستخباريّة ، رسم الخرائط، خلق الإشاعات وتسويق الثورة العربيّة ضد الأتراك ! أناط " المكتب " لمس بل ، جمع البيانات التفصيليّة عن القبائل العربيّة الشماليّة وعلاقاتها المعقّدة مع بعضها البعض !هذه الرحلة وغيرها من الرحلات الأخرى، أكسبتها علاقات واسعة مع شيوخ القبائل المحلّية بإتّجاه نجدة الإنكليز في هزيمة الأتراك! في عام 1917 سكنت بغداد وكان بيتها ملتقى لزوجات وجهاء العراقيّين ! أعطت عناية خاصّة لطبقة شيوخ الدرجة الأولى لحاجة الأنكليز إليهم في " تحمّل المسؤوليّة وحماية النظام السياسي القادم " ((بعد 2003 إعتمد الأمريكان نفس الأسلوب)) ! في إحدى رسائلها ذكرت مس بل " ان العراقيّين لا يختلفون بينهم كثيراً حول قيامنا بالسيطرة على شؤونهم وأن يكون السير بيرسي كوكس المسؤول عنها " ! وصف الإنكليز الوضع السائد آنذاك : بان السنّة لم يكونوا من المسبّبين للمشاكل للأنكليز وإنّما الشيعة خاصّة رجال الدين من المجتهدين ! كان لمس "بل" علاقة وثيقة بآية الله سيد إسماعيل الصدر وهو جد مقتدى الصدر الحالي ! في رسالة تقيميّة لها حول الأوضاع التي كانت تواجهها الإدارة البريطانية ذكرت " أنّنا قد قلّلنا من أهميّة أن هذا البلد في حقيقة أمره عبارة عن كتل من القبائل والعشائر التي لا يمكن جمعها في نظام سياسي .. الأتراك لم يكونوا يحكمون .. وأنّنا حاولنا لكنّا فشلنا " !! أناط سير بيرسي كوكس مهمّة " إنشاء مجلس حكومة عراقيّة موقّتة " بمس بل وجاك فيلبي !
جرى أختيار وزراء الحكومة الموقّته وجعل لكل وزارة مستشار إنكليزي ( كذلك بعد 2003) ! إعترض الشيعة على تسليم الحكم للسنّة وقد برّرت "مس بل" ذلك في رسالة لها لوالدها بالقول: "أن القيادات الشيعيّة البارزة والمتعلّمين في الأصل هم من الرعايا التابعين لإيران " !! في حديث لها مع " جعفر العسكري" أخبرته بان تحقيق الإستقلال الناجز في ظل الظروف السائدة يعتبر هدف مستحيل ....فأجابها جعفر العسكري : " سيدتي ، الإستقلال الناجز لا يعطى أبداً لكنّه يؤخذ! في عام 1921 ناقش " الوايت هول " عدّة مقترحات حول إنسحاب بريطانيا من العراق : الأوّل الإنسحاب من الموصل وقد جرى الأعترض عليه خوفاً من قيام تركيا – أتاتورك بالزحف عليها وضمّها الى تركيا، الثاني، إنسحاب القوات البريطانية الى البصرة ورفض الآخر أيضاً خوفاً من حصارها وتأجيج الصراع مع حكومة مستقلّة في الشمال البصرة بالنسبة اليها الميناء الوحيد ! بعد إندلاع الإنتفاضات والثورات، إعترف الساسة الإنكليز بأن خطأهم يكمن في إفتراضهم بأن العراقيّين سيكونون ممتنّين في تشكيل عراق موحّد لهم (الأمريكان وقعوا بنفس الخطأ قبل وبعد 2003 ) !
أجرت بريطانيا إستفتاءً تركّز حول سؤال واحد : هل تريد الأمير فيصل ملكاً على العراق ؟! لم يصوّت الشيعة ولم يوافق الأكراد وصوّت اليهود طلباً لحماية الإنكليز .... كانت نتيجة الإنتخابات 96% كما هو الحال في ظروف كهذه ؟! قامت " مس بل " بتنظيم حفلة التتويج والمراسم البروتوكوليّة واختيار العلم والسلام الوطني وفي حفلة التتويج عزف السلام الإنكليزي " حفظ الله الملك " وصرخ المتظاهرين في الخارج " يسقط الإنتداب " ! التاريخ يحدّث بعدم قبول أيّ شعب عريق أن يحكمه شعب آخر وبشكل مستدام !! في إتّفاقات سريّة أصرّت بريطانيا سيطرتها على شؤون الدفاع والخارجية والمالية ( التاريخ أعاد نفسه في 2003)! أصرّ "ونستون تشرشل" على قيام الملك فيصل بطلب مشورة بريطانيا عند تعديل أو تصحيح المسارات المتّفق عليها ؟!
في عام 1927 ، زار" كلوب باشا " الفرات الأوسط والتقى أحد كبار شيوخ الشيعة قائلاً له : "أن العراقيّين أصبح لديهم اليوم حكومة ودستور وبرلمان ووزراء ومسؤولين فماذا تريدون أكثر من ذلك ... أجابه الشيخ : نعم ولكنّهم جميعاً يتحدّثون بلهجة أجنبيّة ؟؟؟!!! في عام 1926 ، صادقت هيئة الحدود الدوليّة International Boundary Commission على حدود العراق مع تركيا فاسترجع العراق بموجبها الموصل والنفط ! حصلت "شركة نفط العراق Iraq Petroleum Company " المملوكة للمصالح البريطانيّة والفرنسيّة والأمريكيّة والهولنديّة على الإمتياز النفطي (( جولات التراخيص الأربعة أرجعت الإمتيازات النفطية الى الشركات النفطية العالمية الكبرى الممثّلة لقوى النفوذ الجديد)) !! حدود العراق وضعت بشكل لا يتطابق مع الحقائق الجغرافيّة والسياسيّة ... كان العراقيّون يرون بأن الحكومة العراقيّة لا تمثّلهم وأنّها غير شعبيّة لكونها شكّلت من أقلّية مدنيّة سنّية (( جرى إقصاء السنّة بعد 2003))!
في عام 1930 ، قام رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد بالتفاوض مع بريطانيا لعقد إتفاقية تحالف" Close Alliance " التي نصّت على إستشارة الإنكليز في قضايا السياسة الخارجيّة وعند التهديدات بالحرب ستقوم بريطانيا بالدفاع عن العراق! الإتّفاقيّة أمّنت لبريطانيا قواعد عسكريّة، الإنفراد بتجهيز السلاح وتدريب أفراد الجيش العراقي ومنح الحصانة لأفراد الجيش البريطاني من المسائلة القانونيّة ومن دفع الضرائب (( ما أشبه اليوم / الإتفاقيّة الأمنيّة بين العراق والولايات المتّحدة الأمريكيّة)) !!! أثيرت مشاكل تتعلق بالأقليّات وكان رد الإنكليز حولها بان العراق دولة مستقلّة وأن تلك القضايا شأن عراقي داخلي لادخل لنا بها ؟؟؟!!!
في عام 1936 ، وصف ضابط مخابرات في القوة الجويّة الملكية البريطانيّة (ألن مكدونالد) ما يجري في العراق : " لم يكن بإستطاعتنا قبول الحقيقة المرعبة بأننا مكروهين وغير مرغوب بنا و إن سياستنا بنيت على إفتراض كاذب :في أن علاقتنا مع الشعب العراقي دافئة وحميمة " !!!
وعد الإنكليز العراقيّين بدعم نظام ديمقراطي ... لكنّ المعاهدات التي فرضت حقّقت لبريطانيا الحكم غير المباشر للعراق ... بريطانيا لم تستشر ولم تقيم وزناً لسنّة ولا شيعة ولا أكراد في القضايا الكبرى التابعة لمصالحها .. وكما يقول المثل العراقي القديم : ركّبوهم بالكفّة وسيّسوهم بشط العماره !!!
قيل : " حتّى البيت الجميل يمكن أن ينهار...إذا كانت جدرانه غير متينة " ! وقيل :
"أن الإنسان بحاجة الى عامين ليتعلّم الكلام ... والى ستّين عاماً لكي يفهم ويتعلّم الصمت " !
لم نصمت... ولم نفهم ... لكن صناعتنا الكلام !!
12 / 12 / 2016