EN | AR
نزع سلاح الآلهة المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف
الخميس, ديسمبر 22, 2016
عبد الحسين شعبان

 

الكاتب: جان ماري مولر

تقريظ: عبد الحسين شعبان

 

بعد كتابَيه معنى اللاّعنف (1995)، واستراتيجية العمل اللّاعنفي (1999)، أصدر فيلسوف اللاّعنف الأبرز على المستوى العالمي، جان ماري مولر، كتاباً بعنوان «قاموس اللّاعنف» (2007)، وأعقبه بكتاب عن غاندي المتمرّد (2011)، ويأتي كتابه الجديد «نزع سلاح الآلهة»، تتويجاً لفلسفته التي كرّس حياته من أجلها، منذ أن أريد له في مطلع الستينات أن يلتحق جندياً في الجيش الفرنسي للذهاب إلى الجزائر لمقاتلة الجزائريين الذين يناضلون لتحرير بلادهم ونيل الاستقلال، فرفض وامتنع وسُجن وأُقصي، وهكذا تكوّنت لديه  قناعات بأهمية الانخراط في عمل لا عنفي، بل إن اللاّعنف أصبح قضيته الأساسية. ويأتي كتابه الجديد: «نزع سلاح الآلهة» تتويجاً لمعرفية حركية دينامية طوال خمسة عقود من الزمان.

الكتاب مقسّم إلى جزأين، يبحث في جزئه الأوّل الموسوم «المسيحية قيد المناقشة»، ما له علاقة بكلام الله وأقوال البشر، فيسلّط ضوءًا على المسيحيّة ومصادرها في مناقشة فلسفية لبعض تعاليمها ودعوتها لعدم مقاومة الشرّ وعدم الحذو حذو الشرّير، ويطرح مولر فريضة المصالحة وفضيلة الوداعة، إضافة إلى فضيلتَي الرّحمة والطيبة، بدلاً عن العنف، وذلك لكي يكون الإنسان قريباً من الآخر.

ويعدّ مولر، يسوع المسيح شهيداً للاّعنف، والشهادة هي للحقّ، ويتوصّل إلى قناعة بإفلاس آلهة العنف، ويعتبر الله «ليس إلاّ» محبّة، والمحبة هي للإله الطيّب، في حين أن المخافة هي من الإله الشرير، ويؤسس على ذلك بقوله: الله ليس محبة فقط، بل إنسانية.

يقول مولر: في البداية خطر ببالي أن أعنون مخطوطي بـ«نزع سلاح الله»، ولكن سرعان ما تبيّن لي أن الأمر سيكون غلطاً، إذْ أن الإله حق، في كل الأحوال، وهو ليس مسلّحاً، ومن قلّة العقل، بالتالي، ادّعاء تجريده من سلاحه. في وسع أي شخص كان أن يشك في وجود الله، لكن لا يجوز لأي أحد أن يتجاهل وجود آلهة مسلحة متعدّدة تخيّلها البشر العنفيون لتبرير عنفهم. وهذه الآلهة الأكذوبة هي التي على الإنسان نزع سلاحها ليقوى على التفكّر بالله. (ص24- 25).

ويتوقّف مولر عند الحروب الدينية في القرن السادس عشر، فيمتدح التسامح، ويقتبس فقرة من فولتير لربط قضية الدين بالعنف، بقوله: «ولكن عجباً ألأن ديننا دين إلهي يتعيّن عليه أن يسود بالكره، بالسخط، بالنفي، بمصادرة الممتلكات، بالسجون، بالتعذيب، بالقتل، بالتسبيحات المرفوعة إلى الله حمداً على هذه الجرائم؟». (ص230).

ويسمّي الحرب العالمية الأولى «المذبحة الفظيعة»، كما يتناول مواقف الكنيسة ذات الطبيعة المزدوجة، ويدعو إلى وضع حد لمسألة الأسلحة النوويّة، مثلما يدعو إلى «الحظر المطلق للحرب» ويوضح قوّة العمل اللاّعنفي بوجه العنف. (ص281).

يقدّم مولر قراءات جديدة للنصّ الديني، بقوله: إنّ الله لا يسمح بانتصار الشّر (ص284)، وإن حصل ذلك، فإما أنه ليس قديراً، وإما أنه ليس طيباً، والله لا يقحم نفسه في تاريخ البشر ليحل محلّهم، واستناداً إلى ذلك يتوصل إلى قناعة بأن العنف الذي ينوء التاريخ بثقله هو من صنع أيادي البشر حصراً، ومن مسؤوليتهم أن يحطموه، وليس من الضروري التضرّع إلى الله حتى يرضى إبداء رأفته بالعالم، وهو الذي «يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجّار»، ولا يحتاج الله إلى أن يأمر البشر بالصلاة له ليكفّوا عن عنفهم، بل هو الذي يصلي لهم، كيما يصنعوا السلام. (ص293).

إن ما يُبهر البشر في العنف هو العنف، ولكي يكف البشر عن العنف، فعليهم أن يغيّروا موقفهم منه، وأن يخضعوا لعملية تطهّر جذرية للانصراف عنه، ولنزع شرعيته، وعند ذاك يمكنهم أن يكتشفوا حكمة اللاّعنف. ويقول مولر: «واللاّعنف هو الرواق الذي يفتح للإنسان طريق الاحترام والرّحمة والطيبة والمحبّة، وفيما يتعداها أيضاً طريق التعالي» (المقصود السموّ).

وفي الجزء الثاني المعنون «الإسلام قيد المناقشة» يبحث مولر في «الإسلام والإسلامية» ويسأل عن الرابط بينهما، فهناك مسلمون يشجبون «الإسلامية» مؤكّدين أن لا صلة بينها وبين الإسلام، والمقصود بالإسلاميّة تحويل الدين إلى آيديولوجيا، فالإسلام بحسب وجهة النظر الكلاسيكية هو دين، أما الإسلامية فهي آيديولوجيا بمعنى «نسقية» وتسيّدية، في حين أن الإسلام هو دين يعلّم على التسامح والسلام والعدل والرحمة والحب، ولذلك يستغرب مولر أن يؤدي الانتساب إلى الإسلام إلى فرض نظام سياسي قهري وقمعي عليهم، أو اقتراف أفعال تعصّب وعنف، وهو يرى أن هناك إسلامَيْن: إسلام العنف وإسلام اللاّعنف وكلاهما يزعم الرجوع إلى القرآن، ومثلما هناك أصوليّة إسلامية هناك أصولية مسيحية. ومن واجب «المؤمنين» أن يكشفوا النور عن جوهر الدين والدعوة إلى التسامح واللاّعنف والسلام بدلاً من التمترس بالآيديولوجيا، سواء كانت إسلامية أو غيرها. (ص 300 – 301).

ويبحث مولر في فكرة الجهاد، فيركّز فيها على الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والتغلّب على العنف لدى الإنسان بمجاهدة الأهواء لتحرير نفسه من القيود التي تشدّه، إلى الأعمال الشائنة والشهوات الفاسدة، مقابل الجهاد الأصغر الذي يركّز على مقاتلة العدوّ بالسلاح، في حين أن معنى الجهاد الأكبر هو مقارعة الشرّ بوصفه صراعاً ضد وسوسات الشيطان المسمّى إبليس، «العدوّ» الذي يقبع داخل كل فرد، والذي من شأنه أن يؤدي إلى التهلكة، والمقصود بالجهاد الأكبر كما فهمه مولر هو عن إماتة «الكافر» المقيم في قلب كل مؤمن.

ويتوقّف مولر عند المفكر المصري الإسلامي سيد قطب الذي أُعدم العام 1966، وذلك حين يميّز بين ثلاث مراحل في نزول الأوامر الإلهية المتعلقة بالجهاد: مرحلة الخطر والمقصود بها (المرحلة المكية) التي أسميها بالمصطلح الحديث مرحلة بناء الحركة واكتمال أركان الدعوة الإسلامية أي «المرحلة التبشيريّة»، ثمّ مرحلة الإباحة، والمقصود بها "المرحلة المدينية بعد هجرة الرسول إلى يثرب/ المدينة المنوّرة" وامتلاك المسلمين عناصر قوّة الرد (المواجهة)، وهي المرحلة الدفاعية، ثم مرحلة ما بعد تأسيس الدولة (أي بعد دخول مكّة وإقامة الدولة الإسلاميّة)، تلك التي أصبح الإسلام فيها سيّداً، وهي ما نطلق عليه المرحلة الهجومية، ومن هذا المنطق يدعو قطب إلى أن يكون الإسلام المعاصر أشد قوة وبأساً، ولا بدّ له من نضال وجهاد. (ص310)، والمقصود بذلك استلهام واستعادة المرحلة الهجومية.

ويستهدف مولر من إبرازه دور الجهاد في المنظومة الفكرية الإسلاميّة، أوضاع الحاضر حيث يسود العنف والإرهاب باسم الدين وتتجه جماعات متوحشة لِلَويّ عنق النص الديني لكي ينسجم مع تعاليمها، سواء كانت سلفية، أو أصولية، أو راديكالية متطرفة، وباسم القاعدة أو داعش أو غيرها، كما يجري هذه الأيام. وحين يناقش الأمر يعود إلى بعض الأصول التي تساعد على تقديم تفسيرات وتأويلات لتبرير العنف، سواء على يد ابن تيمية أو على يد سيد قطب، أو غيرهما، وكنت أتمنى عليه مناقشة آراء بعض العلماء المسلمين الآخرين مثل علي شريعتي والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله، وقد كتبت له بذلك.

يمكن القول إن كتاب الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر هو من أهم الكتب المرجعية التي تبحث في مسألة اللّاعنف، وهو إضافةً إلى غناه وعمقه وجرأته في تناول قضايا العنف واللاّعنف من زاوية الديانتين المسيحية والإسلامية، فإنّه يمتاز بالجدّة والشموليّة والاجتهاد، وخصوصاً أنه يدخل في عمق الإنسان، فلسفةً واجتماعاً وحقوقاً وأخلاقاً وقوانين، ناهيك بطبائعه وأمزجته وسلوكه، لأن العنف مؤسّس في بنية المجتمع وفي فلسفة إداراته وأدوات ارتهانه من داخله ومن خارجه حسب مؤلف الكتاب.

 ولأن التمييز بجميع أشكاله بات جزءًا من المشهد العام، وأنّ العنف باسم الدين أو بغيره يزداد مأسويّة ويتسبّب بالقتل والتهجير وانتهاك الكرامة والوجود والحقوق، فإن مولر لهذه الأسباب يدعو إلى تعليم اللاّعنف، وكم كان مستبشراً حين عرف أن جامعة له تؤسّس لأول مرّة، وكان قد قال فيها عند إطلاق كتابه: كم هو سعيد لأنّه يحاضر في بلد عربي «لبنان»، عن اللاّعنف، لأنه يدرك المسؤوليّة التربويّة والأكاديميّة والفكريّة والثقافيّة والحقوقيّة للجامعات ومناهجها، لأنها مؤتمنة على قيم الإنسان كإنسان.

لقد أعادني كتاب نزع سلاح الآلهة إلى حوار دار في بكين في معهد الشؤون الدولية التابع لوزارة الخارجية، حين ناقشنا فيه الفلسفة التاوية الصينية وفيلسوفها الكبير لاوتسه، كما تناولنا الفيلسوف كونفوشيوس أيضاً، بمقارنة مع الفلسفة العربية – الإسلامية الصوفية متجسّدة بمولانا محيي الدين بن عربي الذي يرقد في حي ركن الدين بدمشق. ولعلّ أهم ما يميّزهما هو الروحانية وحب الآخر متبلوراً في حب الله المطلق، والله حسب الكتاب ومولر هو مطلق وهو محبّة، وبالتالي لا يمكن أن يكون عنفيّاً، أو مع العنفيين، وإلاّ كيف يفعل الله ما يفعله البشر؟

في رواية الروائي الروسي دستوفسكي «الأخوة كارامازوف» يتحاور أخوان في خصوص مبدأ القصاص والرد بالمثل واستخدام العنف ضد العنف، والأخوان في الرواية هما إيفان وأليوشا، والأمر له علاقة بما تعرّض له الأطفال على يد الجلادين، فيقول إيفان لأخيه ما معناه: القصاص أو العقاب لا يساوي عندي دمعة من عين طفل: أوَتقول لي إن الجلادين سوف يتعذّبون في الجحيم؟ ولكن ما جدوى ذلك؟ وبدلاً من الانتقام أو الثأر فإنّه  يطلب الغفران وزوال العذاب...

 ذكرتني هذه الرواية بما تعرّض له بشير الحاج علي اليساري الجزائري على يد الجلادين بعد التحرير واستقلال الجزائر، (كتابه الموسوم "العسف")، وكان كلّما فاق من المغطّس يسمع شاباً بجواره وبين حفلة تعذيب وأخرى: يقول سنعذّبهم مثلما عذّبونا وسنستخدم كل الوسائل لإذلالهم مثلما حاولوا إذلالنا، فما كان من بشير الحاج إلا أن يجيبه: وما الفرق بيننا وبينهم: نحن نريد كنس التعذيب وإنهائه إلى الأبد، وهو الذي يسميه دستوفسكي «التناغم الأبدي» في روايته المذكورة. وقد سبق لي أن أشرت إلى دعوة خير الدين حسيب إلى ممارسة الرياضة النفسية عند مداخلته في الحلقة النقاشية حول «العدالة الانتقاليّة»، وليس ذلك سوى نوع من التطهّر الروحي والتخلص من ثقل الكراهية، والرغبة في الانتقام والثأر والكيديّة.

وحين نستذكر اللاّعنف يحضر الروائي الروسي الشهير تولستوي، صاحب رواية: «الحرب والسلام»، ودعواته إلى عدم مقاومة الشرّ بالعنف، ففي كتابه «ما هو مذهبي؟» أراد القول: «لا ترتكب عنفاً أبداً، بمعنى آخر لا ترتكب أبداً أي فعلة مناقضة للمحبة»، أي أن الانتقام وسيلة سيئة، وحسب تصويره فالحرب الروسية - اليابانية هي بين مسيحيين وبوذيين، يقتل أحدهما الآخر في حين أن المسيحية والبوذية لا تدعوان إلى القتل وتحرّم ديانتهما قتل البشر، بل إن البوذية تحرّم حتى قتل الحيوانات.

لقد رفض تولستوي طاعة أوامر الدولة التي تفضي إلى العنف، لأنه غالباً ما يكون عنفاً ظالماً وكان يقول لا للجيش الذي يكفل العنف لقهر الشعب، ومن هنا موضوع رفض الإعدام. وترك تولستوي أثراً كبيراً لدى المهاتما غاندي، فقد كتب غاندي عنه بمناسبة مئويته العام 1928: كان أكثر رجال عصره صدقاً، إنه أعظم رُسل اللاّعنف الذين شهدهم عصرنا الحالي.

إذا كان العنف قوة خشنة وقاسية وإكراهية، فإن اللاّعنف قوة ناعمة، وهي قوّة الإرادة البشرية، وطابعها الإنساني، وذلك هو جوهر كتاب مولر.

الكاتب: جان ماري مولر

الكتاب: نزع سلاح الآلهة – المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف.

ترجمة ديميتري أفييرنيوس

إصدار جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان، بيروت، 2015.

440 صفحة من المقطع الكبي

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©