أكاديمي ومفكّر عربي
"أستطيع القول من خلال تجربتي الشخصية، ونظرتي إلى الذين قاموا بتعذيبي عندما اعتقلت لمدة سنتين ونصف السنة تقريباً في معتقل قصر النهاية – ويسمّونه بهذا الاسم لأنهم يعتبرون أن من يدخله لا يخرج منه حيّاً، وقد تنقّلت خلال تلك الفترة في ستة سجون "معتقلات" – إن نظرتي كانت إلى "هؤلاء" ملؤها الحقد والرغبة في الانتقام، في حين أنها تغيّرت بعد ممارستي رياضة نفسية، وأصبحت أتعامل مع الأحداث بهدوء وتفهّم يختلفان تماماً عن نظرتي قبل ذلك. لهذا أعتقد أنه من المفيد أن يمارس الذين تعرّضوا للتعذيب أثناء فترة سجنهم أو توقيفهم هذه الرياضة النفسية".
بهذا المدخل المؤثّر بدأ الدكتور خير الدّين حسيب مداخلته وتعليقه في الحلقة النقاشية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية عن "العدالة الانتقالية"*، والتي كان فيها يستعيد ذكريات مؤلمة بعد أكثر من أربعة عقود ونصف من الزمان. ولم يكن هدفه استثارة العواطف للظهور بمظهر الضحية، بل كان يتعامل مع الواقع من موقع القوة والتسامح، وهو يتطلّع إلى المستقبل، بعيداً عن روح الثأر والانتقام، متجاوزاً محنته وآلامه الشخصية.
وعند تلك المقاربة الإنسانية يمكن التوقّف لقراءة دلالاتها من خلال ثلاث قضايا أساسية اتّسمت بها نظرة حسيب:
أولها – توظيف الخاص ليصبح عاماً لإدراكه العلاقة العضوية بين الخاص والعام، وإخضاع ما هو ذاتي لما هو موضوعي في إطار من التوازن والتجاذب. وتكمن وراء تلك الرؤية، فلسفة بعيدة النظر، لا تقيم في الماضي، بل تستفيد من دروسه وأخطائه باستشراف المستقبل، إذْ لا يمكن بناء تجربة ناجحة من خلال الفعل وردّ الفعل والعنف والعنف المضاد. وكان غاندي محقّاً حين قال: "ربما هناك قضية أنا مستعد أن أموت من أجلها، لكن ما من قضية مستعد أن أقتل من أجلها".
وثانيها – سلوكه كمثقف عضوي جمع بين التنظير والممارسة (البراكسيس)، إذْ لا يمكن فصل الفكر عن الممارسة الإنسانية، وهو بذلك يعبّر عن نفسه بوضوح كمثقف كوني، جامعاً بين انتمائه العروبي وانتمائه الإنساني، من خلال الهموم الإنسانية المشتركة، خصوصاً وعيه بالدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في عملية التغيير.
لا يكفي القول بوجود فكرة صحيحة، بل لا بدّ من عمل صحيح لوضعها موضع التطبيق، فالعمل هو منتهى الفلسفة وتحقّقها، وما قيمة الخطابات الفكرية التي تشيد بالمُثل السامية، إنْ لم تكن هي حاملة لها من خلال الممارسة، وهو ما يربط الغاية بالوسيلة، فالغايات الشريفة تحتاج إلى وسائل شريفة لتنفيذها، وهذه الوسائل تصبح جزءًا من الغاية ذاتها.
وثالثها – دعوته المتقدّمة لمسألة الكتلة التاريخية، فقد أدرك منذ وقت مبكر، أن ليس بإمكان قوّة لوحدها، مهما بلغت من نفوذ شعبي وقوّة تنظيم وقدرة على التعبئة أن تحكم أو تقود الأمّة منفردة، وبمعزل عن تعاون مع قوى أخرى تجمعها أهداف مشتركة، وإنْ تباينت طرق الوصول لتحقيق هذه الأهداف، ولذلك قام بمبادرات فكرية مختلفة وشرع بتنظيم أنشطة وفعاليات سياسية وتنظيمية، لتهيئة التربة المناسبة التي يمكن لبذرة المشروع النهضوي العربي أن تنمو فيها.
وأعتقد أن ذلك من إحدى خلاصات الكتاب** المهمّة ومن خلاصات تجربة حسيب التاريخية، ولنكون منصفين أكثر، فلا يمكن مناقشة أفكار خير الدّين حسيب وكتاباته المتنوّعة، بما فيها كتابه المشار إليه، دون التوقّف عند هاجسه الأكاديمي وروح البحث العلمي التي تتلبّسه، تلك التي عمل على توظيفها لهدفه الأكبر والأسمى، وهو الوحدة العربية التي شعر بعد تجارب مريرة وإخفاقات عديدة، أنه لا يمكن إنجازها وجنْي ثمار نتاجها إلاّ بتوفّر شروط سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تساعد على ذلك، ومنها أجواء من القناعة وحريّة الاختيار والتعبير والمناخ الديمقراطي الذي يستطيع أن يحميها، ولهذه الأسباب وضع العروبة محوراً لتيارات فكرية وسياسية متنوّعة، باعتبارها جامعاً للوصول إلى إنجاز مشروعه المستقبلي.
وإذا كان مكسيم غوركي قد قال عن أحد أبرز ثوريّي عهده، "إن نصف عقله يعيش في المستقبل"، فإن انهمام حسيب بالدراسات المستقبلية، جعل عقله يفكّر بطريقة مزدوجة ومركّبة: نصف للحاضر، بما فيه استخلاص بعض تجارب الماضي، ونصف للمستقبل، وهو ما عمل على وضعه كـ بلاتفورم فكري وثقافي ومرجعي، لما أطلق عليه "المشروع النهضوي العربي"، بالتعاون مع نخبة متميّزة من المفكّرين والباحثين العرب.
ومثل هذا الانشغال بالبحث والنظر إلى المستقبل، هو ما دعا حسيب إلى تقديم مشروعه الفكري الباذخ، وذلك بعد تأمّل كثير وتأنٍّ كبير ومعاناة فائقة. وتقوم فلسفته على استمرارية تفاعلية، تربط التاريخ بالحاضر، وهذا بالمستقبل الذي كرّس له مشروعه الحضاري. وكان الصديق معن بشور على صواب حين تحدّث عن هاجسَي حسيب: الأول "المعلومة الموثّقة"، والثاني "الاستشراف المستقبلي"، فالمثقف ينشغل بما هو دائم وجوهري واستراتيجي، وحتى لو تعرّض إلى ما هو آني، فهو يخترقه ليصبح جوهرياً على حد تعبير إدوارد سعيد، ولعلّ ذلك ما يطبع الكتاب، الذي تناول أحياناً ما هو ظرفي ومؤقت، ليحوّله حسيب إلى ما هو بعيد المدى ومستمرّ، وليس عابراً أو طارئاً.
أعترف بأنني، وعلى غير العادة، واجهت صعوبة كبيرة في تقريض هذا الكتاب، نظراً لاتّساع موضوعاته وتنوّعها، وكثرة المحاور التي جاء على مناقشتها، وباقة الأفكار التي احتواها، ورؤيوية كاتبها وإشكاليته، سواء اتفقت أو اختلفت معه، فلا بدّ لك منذ البدء الإقرار بقيمة الجهد المعرفي وحجم المعلومات الغنية، وجرأة التحليل، فضلاً عن المصادر المهمّة والمتنوّعة التي اعتمدها، ولذلك لا تستطيع إلاّ أن تشعر بالاحترام والتقدير لكاتبها، ولهذه الأسباب تجاوزت على طريقة كتابة التقاريض والقراءات ذات الطبيعة المدرسية الصرفة، لأضع ما هو فكري بالدرجة الأساسية، خصوصاً عندما أُخضعه للنقد، بربطه بما هو إنساني.
عرفت الدكتور خير الدّين حسيب منذ الستينات، وإنْ كانت المواقع مختلفة، فهو أستاذ في "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية"، وأنا طالب حينها في الكلية ذاتها، وهو قومي عربي ناصري يُشار إليه بالبَنان، وأنا شيوعي ماركسي يساري، خارج من المعتقل ومُعاد إلى الدراسة بعد فصل، وهو قريب من السلطة حتى وإنْ كان من موقع الاختلاف أحياناً بعد تجربته كمحافظ في البنك المركزي 1964 – 1967 وإدارته للسياسة الاقتصادية وما سمّي بالقرارات الاشتراكية في عام 1964، وأنا لست بعيداً من السلطة فحسب، بل ومن موقع المعارضة.
في تلك الأجواء والاحتدامات التي كان يمور فيها العراق عرفت حسيب، وصادف أن أحرزنا نجاحاً ساحقاً في انتخابات الطلبة عام 1967، ونحن في ظروف عمل سرّية، أو شبه سرّية، ومئات من رفاقنا في السجون، بل وكنّا نعاني الإقصاء، الأمر الذي لفت الانتباه مجدّداً إلى أن أي قوّة سياسية مهما بلغت من مكانة ومقدرة وتنظيم، لا يمكنها حكم البلاد لوحدها، وجاءت هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 لتؤكد ذلك، وخصوصاً أن أي تجربة يُراد لها النجاح، لا بدّ أن تعتمد على التيارات الأساسية التي عليها البدء بالحوار والاتفاق على ما هو مشترك، ولا سيّما التيار القومي العربي متمثّلاً بالقوميين والناصريين بمختلف فروعهم والبعثيين بشقّيهم الأساسيين (العراقي والسوري)، والتيار اليساري والماركسي بثقله الأساسي الممثّل بالحزب الشيوعي، وخصوصاً بجناحيه بعد انشطار العام 1967، والتيار القومي الكردي بفريقيه المتعارضين: جناح الحزب الديمقراطي الكردستاني (الأساسي)، وجناح المكتب السياسي حينها الذي كان قريباً من الحكم.
ولم يكن آنذاك معروفاً وجود تيار إسلامي أو ديني من الطرفين (المذهبيين)، وإنْ كان ثمة تجمّعات أو مراكز اتّخذت شكلاً تربوياً أو ثقافياً (مدارس دينية ومراكز بحثية وبعض مطبوعات)، لكن التيار الديني بالمعنى الذي تعرفه مصر مثلاً، لم يكن معروفاً في العراق، وأخذ لاحقاً بالتبلور منذ أواسط الستينات، وإن كانت بعض نواتاته موجودة.
وانطلاقاً من ذلك، فإنني حاولت إضاءة فكرة أساسية وردت في الكتاب وهي العلاقة بين التيارات الأساسية، وهي الفكرة التي تبلورت لدى خير الدّين حسيب لاحقاً، وإنْ كنتُ أعتقد أن جذورها كانت قد بدأت عنده منذ النصف الثاني من الستينات، وهو ما أخذ يطلق عليه الكتلة التاريخية والتي تجلّت في البحث عن المشتركات التي تجمع القوميين والماركسيين والإسلاميين لاحقاً.
وكان قد بدأ الحوار بين القوميين والإسلاميين منذ وقت مبكر في الثمانينات، وعلى قاعدته تلك تأسّس المؤتمر القومي – الإسلامي بعد تأسيس المؤتمر القومي العربي في عام 1990، وذلك تجسيداً لتلك الفكرة التي كان حسيب - ولا يزال - مؤمناً بها، حتى وإنْ اعترتها صعوبات أو وقفت أمامها عوائق أو تعرّضت للانتكاس بفعل تغييرات وتطوّرات أثّرت في بعض المواقع وغيّرت بعض المواقف.
وإنْ كنتُ وما أزال أعتقد أن ثمة عقبات جدّية بين الفرقاء، باستعارة عنوان رواية كازانتزاكي "الاخوة الأعداء"، أو قصيدة وليد جمعة "الأعدقاء"، لأن الأمر ما يزال يحتاج إلى مصارحات ومكاشفات، بعيداً عن المجاملات والتسويات، ولن يكون ذلك دون مراجعات ونقد، ونقد ذاتي، بحيث تنعقد العلاقات على أساس متين مع ضمان حق النقد والاختلاف، مصحوباً بالاحترام لأفكار الغير، وهذا بتقديري لم يحدث، وإنْ حدث فلا يزال "نقراً في السطح وليس حفراً في العمق"، على حد تعبير المفكر ياسين الحافظ، والأمر لا يخصّ الإسلاميين وحدهم، بل إن الجميع مشمول به.
وعدا ذلك، فإن هناك تحديات كبرى تحول دون تحقّق فكرة الكتلة التاريخية، سواء بمعناها الغرامشي أو بالمعنى الذي نظّر إليه حسيب، لضعف الثقافة السياسية عموماً وشحّ مستوى الوعي، ناهيك عن عدم أهلية الكثير من القيادات وعدم رغبتها في تحقيق ذلك، وغياب حق النقد وقبول الآخر، فالقوى المرشحة للعمل في إطار الكتلة التاريخية حتى وإن أعلنت في الكثير من الأحيان استعدادها لقبول مثل هذا المشروع، لكنها لمجرّد اقترابها من السلطة أو حتى شمّ رائحتها سرعان ما تتحوّل إلى النقيض منه تحت حجج ومبرّرات مختلفة، وقد رأينا كيف استدارت لدرجة الجحود، العديد من القوى الإسلامية وعادت إلى مواقعها الإلغائية السابقة، بعد التغييرات التي حصلت في بعض البلدان العربية، فيما أطلق عليه موجة "الربيع العربي"، وكيف تنكّرت قوى لبعضها البعض بعد جبهات وطنية وتحالفات قيل عنها إنها ستكون استراتيجية؟ ولو راجعنا السبب الحقيقي وراء ذلك لاكتشفنا أنه يعود إلى القرب أو البُعد من السلطة "المُلك العضوض"، كما قالت العرب، ناهيك بادعاء الأفضليات، والزعم بامتلاك الحقيقة والسعي لاحتكار الحكم ومنع الآخر، حتى وإن كان حليفاً، من الوصول إليه أو المشاركة فيه، وفوق ذلك استمرار هيمنة الفكر الشمولي الإقصائي، السبب الجذري الأساسي في التعامل بازدراء مع الآخر.
وكنتُ وما أزال أعتقد أن الحوار ينبغي أن يأخذ شكلاً جديداً بين الماركسيين واليساريين عموماً، وبين التيار القومي العربي، بتوجهاته المختلفة، وهو ما سبق أن طرحته في مناسبات مختلفة، حتى وإنْ كانت هناك أسباب لما حصل بينهما من صراعات وتناحرات أدّت إلى تباعدهما، لكنه لا ينبغي أن يكون ثمة قطيعة بين التيارين المحوريين، كعامل موضوعي، إضافة إلى عوامل ذاتية أخرى، وخصوصاً أن كليهما ضعيف حالياً ويعاني تشظّيات وانشطارات، فضلاً عن وهن على الصعيد الفكري، وتعسّر القدرة الحقيقية على التجديد، عطفاً على ضغط الماضي بثقله وإخفاقه، ولا سيّما في الموقف من المسألة الديمقراطية وقضية الحرّيات، وحقوق الإنسان والإقرار بالتعدّدية والتنوّع.
وإذا أردنا مقارنة التيارين اليساري الماركسي والقومي العربي أو العروبي عموماً، مع القوى التقليدية من خصومهما، فسنصل إلى استنتاجات مثيرة ليست لصالحهما، هذا إذا كانا متحدّين ومتعاونين، فما بالك إذا كانا متفرّقين ومتناحرين، أو بعيدين من بعضهما.
وحتى لو انحسر نفوذ التيار اليساري والشيوعي وهو ما حصل فعلاً، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وتقلّص نفوذ التيار القومي العربي بانهيار أو تراجع أو ضعف الأنظمة الداعمة له، فإنهما بغضّ النظر عن الأخطاء والنواقص والثغرات والممارسات السلبية، يمثّلان "إسمنت" الكتلة التاريخية، فيما إذا توفرت الشروط الأخرى، وهما جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة العربية المعاصر ومن تاريخ المنطقة ودولها، بما يحملانه من هموم، وبما يتمتّعان به من زخم، وما يعبّران عنه من ثقافة مدنية سلمية، الأمر الذي يتطلّب قراءة نقدية "إيجابية" لمساراتهما بتشخيص الأخطاء والنواقص والعيوب، والأهم من ذلك العمل على تجديد خطابهما ولغتهما، بحيث تستبدل الشمولية بالتعدّدية، والواحدية والإطلاقية بالتنوّع وقبول الآخر، وادعاء امتلاك الأفضليات وامتلاك الحقيقة، بالقدرة على رسم برنامج واقعي يستجيب لما حاصل من تطوّر، من خلال التعاون والعمل المشترك.
ولأن الحديث الذي ابتدأت به مراجعة الكتاب عن العدالة الانتقالية، يبدأ من الرياضة النفسية، فإن الهدف منه هو الوصول إلى المصالحة الحقيقية لإنجاز التغيير الديمقراطي، وقد واجهت تجارب الربيع العربي جميعها مثل هذه المسألة على نحو حاد، كما تفاوتت زوايا النظر إليها بين فقه القطيعة وفقه التواصل، وبين التشدّد والتّسامح، دون أن يعني ذلك نسيان ما حدث، بل العمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، لكي لا تتكرّر تجارب الماضي، وهكذا تكبر الحاجة إلى جبر الضرر والتعويض، ولا سيّما بعد كشف الحقيقة والمساءلة.
ولعلّ تجارب العدالة الانتقالية لها علاقة بالبعد أو القرب من دائرة العنف الذي شكّل معادلة طردية لفقه القطيعة ومعادلة عكسية لفقه التواصل. وهناك تجارب دولية مهمّة يمكن الاطّلاع عليها، مثل تجربة جنوب أفريقيا، وتجربة أوروبا الشرقية، وتجربة بلدان أمريكا اللاتينية، والتجربة المغربية وغيرها.
ونحن إذ نتناول فكرة العدالة الانتقالية، يمكن أن نقدّم الدكتور خير الدّين حسيب نموذجاً عراقياً وعربياً، ناهيك بكونه بحكم رمزيته وشخصيته ودوره نموذجاً عالمياً للتطهّر من أدران الحقد والانتقام والكراهية، والتعامل على نحو هادىء وعقلاني للتفكير: ماذا حصل وكيف حصل ولماذا حصل؟
والمهم هو فتح صفحة جديدة لتجاوز تدمير الآخر، فكل تدمير للآخر، سيكون تدميراً للذات، ومثل هذا التدمير لا يخصّ الآخر وحده، بل إنه سيدمّر النفس، وأي عنف ضد الآخر، هو عنف ضد الذات أيضاً بنزع إنسانيتها، ولهذا فإن خير الدّين حسيب بنظرته ذات المدلول التسامحي – الإنساني يريد أن يقول، لا لتدمير الذات مرّة أخرى، بلجوئها إلى الانتقام والثأر والكيدية، مثلما لا لتدمير الآخر، انتقاماً وثأراً ورد فعل، فمردود ذلك سيقع على الذات أيضاً بتدميرها الآخر، وفي حين يتم تدمير الآخر، فإن الذات تدمّر نفسها أيضاً، وكأن لسان حاله يقول: رذيلتان لا تنجبان فضيلة.
الهدف إذاً ليس نكء الجراح، ولكن المقصود هو تجاوزها، الذي لن يتم دون ممارسة رياضة نفسية، بكل ما تحمله من ألم وعذاب أحياناً، لكنها ذات معنى إنساني وحضاري من التحقّق والامتلاء والدلالة. وحسيب حين يتحدث فهو ليس فرداً، بل هو مجموع أو يعبّر عن ضمير، حتى وإن كان واحداً، وأستطيع القول، سواء من موقع الاختلاف أو الاتفاق، وبعد هذه المعرفة الطويلة والنقاش والجدل والحوار واختلاف زوايا النظر: إنه مكوّن إنساني، أكاديمي وثقافي وفكري: وطني وعروبي وعالمي، وهو مجموع في واحد، ممن أطلق عليهم صفة "المثقف الكوني" باستخدام إدوار سعيد.
والمثقف الكوني هو الذي يمثّل مبادىء كونية مشتركة، ويواجه خطاب القوّة بخطاب الحقّ، ويصرّ على أن وظيفته هي أن يُجبر نفسه ومريديه بالحقيقة التي يكون إخلاصه لها قبل كل شيء، وقد كان إدوارد سعيد، قلقاً بشأن اختفاء صورة المثقف هذه، حين يتحوّل إلى "مهني مجهول الهويّة"، في حين هو يريده "مقاوم" بفكره ونشاطه، هيمنة السلطات السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية.
وفي حين كانت فلسطين والعروبة والوحدة، الثلاثي الذي لا ينفصل عن كل أنشطة المركز، وتوجّهات حسيب بالذات، فمنها يبدأ وإليها ينتهي، فإن الكتاب، بأقسامه الثلاثة وفصوله الستة والثلاثين، تدور في ذات الفلك وتصبّ في نفس الهدف، ولو استعرضت عناوينها، ناهيك بمضامينها، سترى أن الرابط بينها خيوطاً حيكت من ذات النسيج، وحتى لو كان بُعدها عالمياً، فـ العرب هم الهدف، والوحدة وسيلة لتحرّرهم على الرغم من التجارب الفاشلة، بل هي ركن من أركان المشروع النهضوي العربي، إضافة إلى الديمقراطية التي تعزّز رصيدها بعد فشل التجارب العربية، والتنمية المستقلة، التي لا يمكن بدونها إحداث تغيير حقيقي في العالم العربي، وهي تنمية شاملة ومستدامة واجتماعية وذات بعد إنساني، ولا يمكن الحديث عن مشروع نهضوي عربي دون تحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك في إطار الاستقلال الوطني والقومي، باستلهام التراث، بما فيه من إيجابيات نحو المعاصرة، وصولاً للتجدّد الحضاري، وهي العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي.
ولأن حسيب مجموع، فهو يتناول في كتابه قضايا ذات إشكاليات فكرية وسياسية جامعة، عراقياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً، ففي القسم الأول يتناول تهديدات الخارج وتحديّات الداخل، ويتوقّف في هذا القسم عند تسعة فصول، لامست جانباً مهمّاً منها وهو فكرة الحاجة إلى كتلة تاريخية تجمع تيارات الأمة الرئيسية، مع إشارة خاصة للعراق.
أما القسم الثاني فيتكوّن من 14 فصلاً، ووضع له عنواناً صفحات من قضايا عربية، جاء فيه على وجدانيات مثل الكتابة عن رحيل بشير الداعوق ووداع عبد العزيز الدوري، وقد اشتبكتُ عند واحدة منها الخاصة بفكرة المثقف الكوني ومقولة غرامشي بخصوص "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، وفي هذا القسم توقفتُ عند الفصل الخاص بالعرب والعالم بعد الاتفاق النووي الإيراني، وهو يطرح سؤالاً حيوياً: ما العمل؟ كما بحث في فصل خاص المسؤولية الأمريكية بخصوص داعش، وهو فصل جدير بأن يأخذ حيّزاً واسعاً من النقاش، ففيه رؤية ومعرفة ومعلومات وتحليل واستنتاجات.
أما القسم الثالث فهو بعنوان: "حول شؤون الأمة" وضمّ 13 فصلاً. وركّز غالبيتها عن العراق، سواء بما له علاقة بالجانب الاستراتيجي المتعلّق بالاحتلال أو بالمأزق العراقي أو ما يتعلق بما بعد انتخابات العام 2010.
ويطرح خير الدّين حسيب في كل كتاباته وأبحاثه وحواراته المتلفزة حول العراق خطة سياسية بعيدة المدى، كان قد قدّم قراءاتها الأولى في نشاط فكري واسع لإعداد دستور عابر للطائفية وقانون انتخاب عصري وقانون أحزاب تقدمي، ومواقف ناضجة من مسألة النفط والقضية الكردية والإعلام والجيش والتنمية بشكل عام، وذلك في ما يتعلّق بسبل الخروج من الاحتلال، وما يتبعه من عملية سياسية قامت على المحاصصة الإثنية – الطائفية، وكان قد توقّف في بحث منفصل عند موضوع العرب والاستحقاقات التاريخية، المصارحة والمصالحة وهذه تحتاج إلى مراجعات مستقلّة بخصوص اليمن وليبيا وسوريا ومصر وتونس ولبنان.
والكتاب وما يعرضه يُريك شخصية حسيب عن كثب، فبقدر ما فيه من العناد والصلابة والثبات والحدّية، ففيه من التّسامح واللّيونة والمرونة والانفتاح، وبخاصة إذا ما شعر أن الأمر يتعلّق بالمستقبل وبمصلحة الأمّة ومشروعها الحضاري.
ولأنني ابتدأت بداية غير تقليدية في تقريض الكتاب، فذلك لأن كاتبه شخصية استثنائية، ولهذا لا يمكن تقريض كتابه أو الإحاطة به، ولا سيّما بما قبله دون الذهاب إلى الكاتب بطبيعة الحال، فما بالك إذا كان هذا الكاتب إشكالياً ومتعدداً لدرجة لا يمكن جمعه، فهو عالم اقتصاد وأكاديمي متمرّس ومفكّر ذو عقل رؤيوي واستراتيجي، لا ينظر للقضايا إلاّ بارتباطها ببعضها وبما حولها، ولا يبحث في الظواهر إلاّ بعلاقاتها المعقّدة والمتشعّبة، وبقدر ما يشعر بثقل الحاضر وبالخيبة والمرارة، فإن ثقته بالمستقبل وبالمشروع النهضوي العربي الحضاري لا حدود لها.
نُشرت في مجلة المستقبل العربي، العدد 454، كانون الأول (ديسمبر) 2016