EN | AR
التجارة الحرة . . حرية مسؤولة
الأربعاء, أغسطس 14, 2013
الحسن بن طلال

لا يمكن لأحد أن يغفل عن حقيقة أن للأمن الإنساني دوراً محورياً في حياتنا المعاصرة هذه، التي تداخلت فيها النظم وتشابكت المعارف والمسارات الإنسانية، ولا بد أن يبرز الحديث عن هذا النوع من الأمن في أيامنا هذه التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى وضوح في الرؤية نحو المستقبل، في خضم الغليان الذي يعيشه المشهد العربي الراهن .

إن الترويج للفضائل في أصعب الظروف التي تعيشها الأمة ليؤكد أن الخير يعمّ ما دامت الكرامة الإنسانية نُصب أعين القائمين على إدارة شؤون العباد . وفي استضافة الشارقة “الملتقى الرابع عشر للقطاع الخاص لتنمية التجارة والاستثمار في المشاريع المشتركة بين البلدان الإسلامية” ما يمثّل النهج المحمود المتصل الذي يستند في منطلقاته إلى الصالح العام وتعزيز الأمن الإنساني . فإذا كان الحكم الشمولي في كثير من بقاع العالم قد حرف المؤسسات عن غاياتها، فإن التواصل الإنساني من خلال التجارة السلمية مؤشر على إرادة الشعوب في التواصل الإيجابي على كافة المستويات .

وللتجارة مكانة عظية في الإسلام، لأنها ذات ارتباط قوي بالأمن الإنساني . فالقرآن يتحدث عن العمل بالتجارة بأنه “ابتغاء فضل الله”، إذ يطلب من المسلمين يوم الجمعة أن يتركوا البيع ويذهبوا للصلاة إذا سمعوا الأذان، “فإذا قُضيّتِ الصَّلاةُ فَانتَشروا في الأرْضِ وّابْتَغُوا مِن فَضْل اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثيراً لَّعَلَّكُم تُفْلِحُون” (سورة الجمعة - آية 10) . كما أن إحدى النعم الكبرى من الله سبحانه وتعالى على عباده هي رحلات تجارتهم بين الجنوب والشمال وثمراتها من الغذاء والأمن: “بسم الله الرحمن الرحيم . لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” .

لطالما حذّرتُ من ضياع تراث الإيمان المشترك في منطقتنا بما يتضمنه من جميع التعبيرات الروحية والفكرية والثقافية التي تواصلت عبر التاريخ . فإذا كان لدينا الأمل في الوصول إلى ما نصبو إليه كأمة يوحّدها تنوعها وتاريخها ومصادرها، علينا أن ننتقل من ثقافة البقاء والخلاص إلى ثقافة المشاركة على صعيد العالم وفي ما بيننا . والتجارة باب من أبواب هذه المشاركة، حيث يمكننا من خلالها ترسيخ أرضية ثابتة للتواصل والتفاعل مع معطيات العصر، في إطار يتمحور حول تعزيز الكرامة الإنسانية ومساعدة الفقراء والجياع والمجتثين في منطقتنا وفي العالم .

وفي هذا السياق لا بد من مناغمة النظم الاجتماعية والاقتصادية العالمية مع المعايير الأخلاقية التأسيسية لكل الشرائع التي طالبت بحقوق الإنسان من حمورابي إلى اليوم، فالدعوة لضمان حقوق الإنسان ليست بدعة الغرب والحداثة، فهي منذ القديم موجودة في حكمة الإشراق التي تحدث بها الشيخ شهاب الدين السهروردي .

إن ما يحدث في منطقتنا من ثورة على الإرادة المكبلة لهو فرصة ثمينة للاستثمار والإصلاح الإقليميين . فهي تشجّع دول الإقليم على البدء بسيرورة فوق الأقطار وعبرها للتعاون والأمن.

إذ يمكن توسيع التعاون الإقليمي في مجالات المياه والطاقة والبيئة ليشمل التجارة والزراعة والصناعة والمعلومات والتعليم، وذلك من خلال اتفاقيات عربية وإسلامية عبر إقليمية تركّز على بناء الثقة والتعاون والأمن الإنساني .

كذلك، يجب ربط التعاون عبر الإقليمي في هذه المشروعات بميثاق اجتماعي قانوني للتوزيع العادل للمصادر والاستثمار المالي المدروس في مجال الأمن الإنساني . ولا بد أن تبدأ مختلف القيادات بالتركيز على منافع التعاون الإقليمي وعبر الإقليمي، الذي يشمل المجتمع المدني والحكومات وقطاع الأعمال والمستثمرين . سيكون الاستثمار الإقليمي  فرصة جيدة لصناديق الثروة السيادية، والمصارف الاستثمارية والمستثمرين الأغنياء الذين أصبحوا أكثر حذراً منذ وقوع الأزمة الاقتصادية قبل أعوام .

ليس جديداً أنني أرى أن التحدي يكمن - في العالم العربي - في تطوير إطار ينتقل من الريع إلى الإنتاج، ومن الاستثمار إلى الاستهلاك إلى الإنتاج، ويعيد التكامل بين العمل والثروة، ويستبدل السياسة بالسياسات العامة ويركّز على التنمية الإنسانية . إن وجود عملية عبر حدودية تبني الثقة والتعاون من خلال اتخاذ القرارات الجمعية يمكن أن يؤدي إلى نهج شامل للتعامل مع الاحتياجات الاقتصادية والتنموية للإقليم .
إن قضايا الأمن الإنساني مثل النمو السكاني والفقر والغذاء والمصادر غير المتجددة والبيئة والهجرة والطاقة والسلام هي  قضايا من الصعب، من دون فهم ثقافي علمي، ترجمتها واقعياً في علاقة الاستقلال المتكافل بين الأقطار والأقاليم التي يجب تمثيلها بشكل صحيح على مستوى العالم . وأرى في الملتقى الإسلامي الرابع عشر المنعقد في الشارقة فرصة للحديث عن تنسيق عالي المستوى من أجل التوصّل إلى تمثيل دولي للفضاء الإسلامي بوصفه تكتلاً تجارياً واستثمارياً وتنموياً ذا تأثير مهم في الخريطة الاقتصادية العالمية .

لقد استخلف الله عز وجل الإنسان على الأرض، وجاء الأمر الإلهي بإعمارها . فكانت الزكاة أداة للتكافل الاجتماعي ودافعاً للتنمية الاقتصادية ومحفزاً لها . لذا لا بد من اللجوء إلى نظام مستدام يلبي حاجات المسلمين على مستوى العالم الإسلامي . إن إقامة صندوق عالمي فوق قطري للزكاة والتكافل أو هيئة عالمية للزكاة، وهي دعوة أطلقتها منذ أكثر من ربع قرن، كفيلة بتنظيم جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الثمانية، وتقديم المساعدة الإنمائية للبلدان الإسلامية الأقل نمواً .

لقد روج عالم الاقتصاد الشهير آدم سميث لنظرية العواطف الأخلاقية التي تقدم صورة عن التكوين الطبيعي للمجتمع . وفي السياق الإسلامي، يحث القرآن الكريم على قيم التكافل والتعاطف الاجتماعي بوصفها فرض عين . وهذا واجب يمكن تحقيقه استناداً إلى ما تملكه الأمة من ثروات وإمكانات هائلة .

إن أمتنا وريثة تاريخ طويل من الحرية المسؤولة الذي انتشر في نسيج المجتمعات المختلفة من خلال القيم والأخلاق والمعاملات . لذا من شأنها، إن قامت بتفعيل فضائل التجارة الإنسانية وثقافة العطاء الإنساني، أن تؤسس  منهجياً  لسيرورة مستدامة من أجل سد العجز في الكرامة الإنسانية . وهي سيرورة مركزها الإنسان، ومبتغاها الإنسان، ومنتهاها طاعه الله في استخلافه البشر، كل البشر، على هذه الأرض وابتغاء مرضاته سبحانه في تفكيرنا وفي فكرنا وفي عملنا وفي إحساسنا ببعضا بعضاً .

رئيس منتدى الفكر العربي، سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات، ورئيس منتدى غرب آسيا وشمال إفريقيا

المقالة تتزامن مع استضافة الشارقة الملتقى الرابع عشر للقطاع الخاص لتنمية التجارة البينية بين البلدان الإسلامية

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©