اللحظة العربية الراهنة لحظة ليست سهلة في مسيرة منطقتنا وشعوبها، فما يطلق عليه الربيع العربي ما هو إلا حدث مكثف تتم فيه إعادة قراءة التاريخ وتفسيره، وإعادة تشكيل الحاضر وأبعاده، وإعادة بناء المستقبل العربي وفق معطيات جديدة، وهذا هو الأدق والأخطر، وهذا ما يشكل مصدر قلقي الأكبر.
فعندما ظهرت بوادر الربيع العربي في مطلع هذا العام، وتسارعت الأحداث وانتشرت عابرة للحدود، كان من الطبيعي أن تتزاحم الأقلام دراسة ً وتحليلا وتعليلا، فكثرت الندوات والمؤتمرات، ثم نشطت مصانع الرأي ووسائل الإعلام الإقليمي والعالمي وراحت تروج لسناريوهات وآراء متباينة، بعض أربابها ظاهر ومعروف وأكثرهم مستتر، والجميع منشغل كل حسب مصلحته وقدرته على توظيف الأحداث ومجرياتها لتحقيق أهدافه ومنافعه الخاصة في معزل عن أهداف وغايات الحراك في الشارع العربي أوغايات الجماهير المساندة له في ما وراء الشارع. وبدأت الشكوك تحوم حول ما يجري على الساحة العربية ليس فقط في الدول التي تشهد مراحل مختلفة من التغيير بل في الدول المجاورة والتي ترقب الأحداث بقلق وحذر وتفكر في اتخاذ ما يلزم من إجراءات وقائية واحترازية.
وغني عن القول أن هذا الحراك الشعبي وما نجم عنه من حالة سميت بالربيع العربي فاجأ الكثيرين من المراقبين عربيا وعالميا، ولكنه بنفس الوقت كان تصديقا لقراءات استشرافية لمراقبين متمرسين في مراكز دراسات أجنبية، يعكفون على استقراء الواقع واستشراف المستقبل بطريقة علمية منهجية. ولعلنا بحاجة إلى فهم معمق لكل واحد من هذين الفريقين على حدة: الفريق الذي تفاجأ بالأحداث، والفريق الذي صدقت رؤيته الاستشرافية.
فالفريق الذي تفاجأ بالأحداث شمل السواد الأعظم من الناس في مختلف الدول العربية وهذا أمر طبيعي وغير مستغرب. لكن الأمر المستغرب وغير الطبيعي أنه شمل أيضا طرفين عربيين من المفترض أنهما يملكان قدرا أكبر من الفطنة والحصافة والرؤيا الثاقبة. وهذان الطرفان هما: أولاً مراكز الدراسات المنتشرة في طول الوطن العربي وعرضه، وثانياً صناع القرار من مسؤولين كبار حكوميين وغير حكوميين. ووجه الغرابة في كليهما مختلف ويحتاج لتفصيل وتحليل دقيقين.
فعلى ما يبدو، فإن صانع القرار من أصحاب السلطة ينطلق من ذهنية خاصة، فهو لا يستذكر وجود مراكز الدراسات المحلية أوالإقليمية أو الدولية إلا عند الأزمات. وهذا يحصر الفائدة الممكنة من هذه المراكز في إدارة الأزمات فقط، وفقط إذا اقتنع صاحب القرار بقدرة وكفاءة هذه المراكز، وفي ذلك فرص ثمينة مفوتة على صاحب القرار ومراكز الدراسات على السواء.
وإذا تساءلنا عن سبب غياب علاقة تفاعلية بين صاحب القرار والمراكز نجد أن الأسباب تعود على كليهما. فمن ناحية صاحب القرار، فهو غالبا ما يتصرف من ذهنية سلطوية، يميل إلى بسط سلطته على قراءة واقعه، فلا يرى إلا ما يريد أن يرى ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمع، وكأنما ممارسة السلطة أضفت غشاء سميكا على بصيرته، فأصبح الخبر السار هو المستساغ مهما كان الواقع غير ذلك. هذه نزعة بشرية يروق لبعض صناع القرار ممارستها، وبقدر ما ينجح صاحب القرار وصانعه في أي مؤسسة أو سلطة في التغلب على هذه النزعة، بقدر ما يكون ناجحا في إدارة مؤسسته أو سلطته.
أما من ناحية مراكز الدراسات، فهي في أغلب الأحيان لم تبرهن من خلال نتاجها على قدرة وكفاءة كافية لكسب ثقة السلطة وصناع القرار فيها. وربما وجد صناع القرار أن لبعض المراكز العربية(وهم قلة قليلة) قدرة وكفاءة عالية في تحليل الواقع وتحديد الأسباب والدوافع لأي أزمة، وأن تلك المراكز قادرة على المساعدة في إدارة الأزمات، فباتوا نتيجة لمثل هذه التجربة مقتنعين بأن كفاءات تلك المراكز تنحصر في تحليل الحدث بعد وقوعه، فلا يستذكرونها إلا عند حدوث الأزمة. وهكذا تنحصر العلاقة بين الطرفين في مجال محدود، وبحدود يشترك الطرفان في صنعها وإدامتها.
ويبقى التساؤل قائما: هل لدى هذه المراكز اهتمامات وقدرات غير التشخيص والتحليل للحدث بعد وقوعه واقتراح البرامج لإدارة الأزمة المترتبة على ذلك؟ وبصياغة أخرى، هل لدى أي من هذه المراكز القدرة والكفاءة والاهتمام للقيام بدراسات استشرافية تتنبأ بالحدث قبل وقوعه وتحذر من الأزمة قبل وقوعها وتطرح البرامج الوقائية التي تمنع وقوع الحدث أو تخفف من آثاره؟ وهل إذا وجدت مثل هذه المراكز ستجد آذانا صاغية عند صانعي القرار، وما هي السبل لجسر هوة الثقة بين مثل هذه المراكز وصانعي القرار في أي سلطة؟
إن الإجابة الصادقة على هذه التساؤلات تستوجب الاعتراف ابتداء بشح المراكز العربية التي تختص بالدراسات الاستشرافية إن لم يكن بغيابها كليا، والإقرار بأن الغالبية العظمى من المراكز العربية تختص بشكل حصري في دراسات ما بعد الحدث، وأن خبرة القلة الكفؤة منها يستخدم في إدارة الأزمات، بينما عمل العديد منها يبقى حبيس التقارير ذات المنفعة المحدودة جدا. وترَسَّخَ هذا الوضع حتى أصبح الانطباع السائد لدى معظم الأطراف المعنية، المحلية منها والإقليمية، أن كل مراكز الدراسات العربية هي من هذا النوع الأخير.
وقد يذهب البعض إلى الاعتقاد أن مهمة التخطيط الاستراتيجي مناطة بالحكومات ووزارات التخطيط فيها وإلى المؤسسات النوعية التي يشكلها القطاع الخاص. ولكن واقع الحال أن التخطيط الذي تنشغل به الحكومات محصور في مجالات اقتصادية واجتماعية وخدماتية، ولا تنشغل بالمضامين الكلية الجامعة والتي تشتمل على الجوانب السياسية والحريات الفردية وحريات الإعلام وحقوق الإنسان وغيرها من المضامين. فضلا عن أن الحكومات درجت على تخطيط قصير المدى تحت إملاءات وضع الموازنات السنوية، فأصبحت أسيرة لخطط العمل السنوية وغير منشغلة بأي تخطيط استراتيجي.
ونستنتج مما تقدم أننا نعاني من غياب الدراسات الاستشرافية والتخطيط الاستراتيجي ناتج عن استنكاف الحكومات ومراكز الدراسات العربية عن هذه المهمة الأساسية. لقد أصبحت حاجتنا إلى مراكز دراسات استشرافية بكفاءة عالية ومصداقية موثوقة ملحة في هذه المرحلة المفصلية من التغيير الاجتماعي والسياسي الذي بدأ في تونس وما زال يتمخض في معظم البلاد العربية. إنه تغيير جذري بكل المعايير بغض النظر عن تأييدنا أو معارضتنا له ، والدليل على ذلك أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه سابقا. ولكنه أيضا تغيير يضعنا على المحك كمفكرين ومخططين وراغبين في صنع مستقبلنا. صحيح أن ربيع تونس فجرته حادثة بوعزيزي، ولكن الصحيح أيضا أنه لو كان لدينا مراكز دراسات استشرافية عربية لاستطعنا أن نرى خلل الرماد وميض نار. ورغم أن الناقوس دُقَّ في تونس ثم في مصر، وأنه لا يزال يدق، إلا أن صناع القرار في غير دولة لم يستشعروا التغيير الذي لاح في الأفق، وبقيت الساحة خالية من مراكز دراسات استشرافية عربية تكون لنا بمثابة زرقاء معاصرة ذات بصيرة ثاقبة تحاكي إبصار زرقاء اليمامة في تاريخنا الغابر.
ومما يزيد الأمر غرابة أنه توجد مراكز أجنبية متعددة تحترف الدراسات الاستشرافية حول المنطقة العربية بمجملها وحول كل دولة فيها بشكل خاص. ولكن نتائج هذه الدراسات لا توظف في تحذيرنا من وقوع أي حدث ولا في إرشادنا لوقاية شعوبنا ومصالحنا من آثاره السلبية، وإنما توظف لخلق أحداث ينشدها الآخرون و لتوجيه مجرياتها لتعظيم المنفعة التي يمكن لتلك الجهات الأجنبية أن تجنيه من الحدث ومن توابعه. ولربما أن ما نشهده الآن على الساحة العربية يستند في بعضه إلى مثل تلك الدراسات وتلك النوايا.
وهذا كله يصب في وجوب نهوضنا نحن العرب بالواجب المطلوب في مجال الدراسات الاستشرافية الرصينة ووضع الخطط والاستراتيجيات المبنية على المعلومة الدقيقة والكاملة.
لقد أصبح في حكم اليقين أن التغيير سنة الله في خلقه، وأننا إن لم نصنع التغيير الذي ينسجم مع ثقافتنا وقيمنا ومرتكزاتنا، فسوف يصنعه الآخرون لنا ولكن سيكون منسجما مع ثقافة غير ثقافتنا وقيم غير قيمنا ومرتكزات غير مرتكزاتنا وسيجيء خدمة لمصالح غير مصالحنا. والتغيير أمر لا ينحصر الاهتمام به بالحكومات وصناعة القرار فيها بل يتعداها إلى مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة التي أصبحت ركنا أساسيا من أركان الحاكمية في الدولة الحديثة إلى جانب ما درجنا على تسميته بالقطاع العام (أو الأصح القطاع الحكومي) والقطاع الخاص. ومن هنا لا بد لنا من الشروع في إنشاء مركز (أو مراكز) تتخصص في الدراسات الاستشرافية، وتقدم نتاجاتها إلى صناع القرار في الفضائين الآخرين: الفضاء الحكومي وفضاء القطاع الخاص.
إن منهجية الدراسات الاستشرافية منهجية معروفة ومتداولة وليست محجوبة عن أحد. ولم يكن الجهل بهذه المنهجية سببا في غياب مراكز الدراسات الاستشرافية الوطنية أو الإقليمية، بل ربما السبب الأكبر هو غياب الإرادة والرؤيا وانشغالنا بالآنيات عن الصورة الأكبر والإطار الأوسع. إنها منهجية تستند على تحديد محركات التغيير الفاعلة وحصر الأطراف والعوامل المؤثرة، الداخلية منها والخارجية، وجمع المعلومات ذات العلاقة عن كل ذلك ودراسة كيف تفاعلت هذه العوامل فيما مضى من تغيير للتنبؤ بما يمكن أن يحصل في المستقبل، أو للتخطيط لإحداث تغيير مطلوب، أو لتوجيه مسيرة تغيير أو تسريع وتيرته.
ومن أهم أدوات هذه المنهجية الموضوعية المطلقة و حرية الفكر ورفع القيود عن المواضيع التي يمكن للباحثين الخوض فيها. وأما مصداقية هذه المنهجية وثقة صانع القرار بمخرجاتها فهي تتراكم مع التجارب الناجحة وتبقى مرتبطة ارتباطا عضويا بالسقوف التي تعتمدها في حرية الفكر وموضوعيته والتي ينبغي أن تكون سقوفا عالية جدا.
أن المراقب الحصيف لما تمر به بلادنا العربية ليدرك أننا ما زلنا في بداية الطريق، وأن ربيعنا العربي لم تتفتح براعمه بعد، وما هو إلا بداية فجر جديد، وأننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى استشراف المستقبل بموضوعية وجرأة وإلى ملئ الفراغ القائم في هذا النوع المميز من مراكز الدراسات. نريد مراكز تضاهي المراكز العالمية العريقة، ولكن بكفاءات ومتخصصين وحكماء من العالم العربي، خبروا بيتهم وعرفوا كيف يصان وكيف يحافظ عليه.
آهـِ لو نطقت زرقاء اليمامة مرة أخرى،
وآهـِ لو صدّقها قومي هذه المرة أكثر مما صدقوها في المرة الأولى!