اكنت توقعت العديد من الانتقادات حين قررت إلقاء خطاب عبر التلفزيون في المؤتمر السنوي الثاني عشر الذي عقد في هرتزليا الشهر الماضي، ليس فقط لأن موضوعاته لهذا العام تمحورت حول قضايا الأمن والدفاع، وإنما أيضا لأن عقده تزامن مع هجمة إسرائيلية منظمة ضد الفلسطينيين تحت الاحتلال، كما يحدث في غّزة هذه الأيام بكل إدانة واستنكار.
صحيح أنه كان لدى البعض مبرر للقلق والاختلاف حول مشاركتي لصلتها بوضعية العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، ولكنني وضعت حدّاً لاعتراضات مستشاريَّ المقرّبين وأصدقائي، وقررت مخاطبة المشاركين -ومنهم غير الإسرائيليين من ذوي النفوذ في هذا العالم، مثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البنك الدولي- لأنني أردت أن أوصل رسائل لهم من نوع تلك التي حان الوقت لهم لسماعها.
دعوني أستحضر في هذا الإطار ما قاله الخبير والكاتب في الشؤون الإسرائيلية الأستاذ غازي السعدي، في مقال نشرته صحيفة "الرأي" الأردنية أوائل هذا الشهر؛ "قد يرى البعض أن من المستغرب بل والمثير للسخرية مشاركة عشرات الشخصيات العربية من مصر وقطر والأردن والسلطة الفلسطينية ولبنان وعرب الداخل في مؤتمر "هرتزليا"، والذي يعد من أهم المؤتمرات في إسرائيل... خوفا من أن تؤدي هذه المشاركة إلى إسباغ الشرعية عليه -وفق ما جاء على لسان جبهة مقاومة التطبيع الأردنية"، والكلام للأستاذ السعدي: "ولكن لم لا نأخذها من الجانب الآخر؛ فما الضرر من عرض وجهات النظر العربية أمام المؤتمرين وأمام الرأي العام الإسرائيلي، لإسماع آرائنا، وعدم الاكتفاء بوجهات النظر الإسرائيلية الرسمية.لا يشك أحد في وطنية الأمير "الحسن بن طلال" الذي نقل وجهات نظره من خلال "الكونفرنس"، للتأثير على متخذي القرار في إسرائيل، كذلك المشاركين الآخرين من العرب والفلسطينيين. فمن الممكن مناقشة مضمون أقوالهم، إن لم تكن في مكانها وتنسجم مع القضايا العربية، دون التعرض لهؤلاء الأشخاص الذين يحاولون التأثير على السياسة الإسرائيلية، فالمعركة الحالية مع إسرائيل معركة سياسية وإعلامية علينا خوضها".
كنت مستعدا لأن أتقبَّل الانتقادات لكوني معتدلاً إلى حدّ التطرّف في محاولاتي الدائبة لإخراج عملية السلام من المأزق الذي وصلت إليه ودفعها نحو الأمام. ففي إنقاذها مصلحة للفلسطينيين والعرب كما للإسرائيليين أنفسهم، وإن كانت حكومة نتنياهو لا تدرك أو لا تحب أن تعترف بذلك، أو غير مستعدة لتقديم ما يلزم من أجل تحقيق السلام العادل الذي طالما سعينا إليه وعملنا من أجله.
لست غَرّاً فيما يتعلق بهذه القضية. فقد أمضيت أعواماً وعقودا في محاولة تحقيق حل دائم ومشرِّف لهذا الصراع المتأجج. ولا أخفي أنني لم أشعر بمثل هذا التشاؤم حيال الأوضاع على الأرض منذ وقت طويل، وهو ما دفعني الى التحرك حتى لو قاد ذلك إلى توجيه الانتقاد واللوم لي.
هناك حقائق بسيطة يمكن من خلالها تبرير التشاؤم والخلوص إلى أن السلام غير قابل للتحقيق في المستقبل المنظور. إحدى تلك الحقائق تتمثل في أن حكومة نتنياهو لا تتقبل فكرة أنه لا يمكن بناء سلام شعب ما، مثل شعبه، على عدم استقرار شعب آخر كالفلسطيني. وإنه لمن المأساوي أن يكون قادة إسرائيل بحاجة إلى تذكيرهم بأن الفلسطينيين قد جرّبوا، كاليهود تماماً، فقدان الأرواح وتدمير المنازل وتشرد العائلات وانهيار مجتمعات بأكملها، وبأنهم -أي الفلسطينيين- شعروا بذات اليأس الذي شعر به الإسرائيليون عبر سنوات وعقود من الحروب والاضطرابات.
وهناك حقيقة أخرى تقوم على أساس قانون ما يعرف بـ"العائدات المتناقصة"، والذي ينص على أنه كلما زاد إنفاق الدول الشرق أوسطية، بما في ذلك إسرائيل على وجه الخصوص، على التسلح، زاد شعور تلك الدول بعدم الأمان.
كما أن هناك معلومات متداولة بأن هذا العداء المستمر قد كلّفنا جميعاً الكثير. فمنذ مؤتمر مدريد العام 1991 وحتى العام 2010، خسرت المنطقة حوالي 12 تريليون دولار أميركي من الفرص الاقتصادية الضائعة، حسبما ترى مجموعة الاستبصار الاستراتيجيّ (Strategic Foresight Group)، ومقرّها الهند.
حتى على المستوى الفردي للدول، عانت دول المنطقة بشكل كبير بصرف النظر عن وجهات نظرها السياسية، إذ كان بالإمكان مضاعفة دخل الفرد في جميع تلك الدول عما هو عليه اليوم.
لا يمكن للأمن من خلال التسلح أن يجلب السلام؛ فالسلام وحده فقط، السلام العادل، يمكنه أن يجلب الأمن الحقيقيّ. وهناك عدة شروط ضرورية لتحقيق السلام:
علينا أولاً أن نتفاوض مع أعدائنا، ولا يمكننا اختيار شركائنا في التفاوض؛ فناشدو السلام ذوو النية الحسنة لا يحتاجون إلى تدخل الوسطاء إلا في أحلك الظروف. إن دور واشنطن بصفتها ممثل إسرائيل في المحادثات مع بقية دول المنطقة قد يكون مريحاً، ولكنه ليس براغماتيّاً؛ بل لقد اقترحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن تتحوّل الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وفي هذا الإطار تبدو واشنطن أكثر تشاؤما حول آفاق وفرص تحقيق السلام في المنطقة.
ثانياً، يجب علينا عدم استعمال المفاوضات كاستراتيجيات للتأجيل وسياسات لإحباط السلام الحقيقيّ.
ثالثا، لا بد لنا أن ننتقل من مرحلة العداء إلى مرحلة الاعتراف المتبادل بمصالحنا المشتركة والسيادة المتكافئة والإنسانية المشتركة فيما بيننا.
فمن الجلي أنه لا يتوفر اليوم أي شرط من شروط السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أو بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط الأخرى.
قبيل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية أيلول (سبتمبر) 2000، كان ربع القوى العاملة في فلسطين يتجه يومياً إلى إسرائيل من أجل العمل. وقد تم تخفيض ذلك العدد بشكل كبير جداً. وفي يومنا هذا، فإن الفلسطينيين ينظرون إلى إسرائيل كمحتل ليس إلا، يسعى إلى تقليص موارد رزق هذا الشعب الذى عانى من شتى صنوف الاحتلال القاسي وخصوصاً في قطاع غزة.
وعندما يعتقد غالبية الإسرائيليين بأن السلام مع العرب أمر غير ممكن، فلا بد أن يَخلُصَ الفلسطينيون وغيرهم من العرب إلى أن السلام مع إسرائيل، حتى لو كان ممكناً، فهو أمر غير مرغوب فيه. وهذه المشاعر موجودة بالفعل لدى قطاعات متنامية من الفلسطينيين والعرب على حد سواء.
وبالتالي، فإن أولئك الإسرائيليين الذين يرغبون في العيش مع الفلسطينيين على أساس السيادة المتكافئة والطموحات المشتركة سيتم التعامل معهم على اعتبار أنهم حمقى، بينما يتم وصم الفلسطينيين والعرب المتمسكين بخيار السلام بالخونة.
من الواضح أن التغييرات السياسية التي تحدث في الشرق الأوسط لن تساهم في تحقيق السلام في المنطقة، على الأقل على المدى المنظور، إذ نتوقع إفراز حكومات تطغى الفوضى على تشكيلها وعملها، ما سيؤدي على الأغلب إلى خلق مزيد من المشاكل الأمنية لإسرائيل.
أما على المدى الطويل، فستسهم الثورات ضد السلطات المتكلّسة في منطقتنا في خلق أنظمة أكثر ليبراليّة. وهكذا، فإن كلفة عدم رغبة إسرائيل في تقديم بعض التنازلات الإقليمية الآن ستزيد كثيرا في المستقبل.
ومن الواضح أن اعتماد إسرائيل على خيار القوة النووية باعتبارها الحلّ الأخير لأمنها، قد قاد وسيقود آخرين في المنطقة لتبرير بحثهم عن ذات الخيار في محاولة لتأمين أمنهم.
إننا نعيش اليوم في منطقة مقسمة بجدران اسمنتية وعقليات متحجرة. نمثل مختبراً للأنواع الجديدة من الأسلحة: من النووية إلى البيولوجية، من الإشعاعات والتهديدات الكيميائية إلى التهديدات عبر الإنترنت. في المحصلة نحن نشكل أرضية خصبة للأشرار والمتطرفين من كل صوب وجهة.
وكما قال أخي الراحل الملك الحسين: "إن هناك متطرفين بين العرب والإسرائيليين، ولو سمحنا لأنفسنا للانقياد لهم فسنخسر جميعاً".
لا بد إذا من إيجاد بنية جديدة للعلاقات التي تحكمنا. وإنني أؤمن بأنه يمكن بناء حجر زاوية صلب حول السلال الثلاث لعملية هلسنكي: الاقتصاد، والأمن، والكرامة الإنسانية، إضافة إلى الاستفادة النوعية من تجربة الكتلة الشرقية بعد سقوط جدار برلين.
آن الأوان للنظر بتمعُّن، والتساؤل حول رغبة إسرائيل الحقيقية في أن تصبح جزءاً من هذه المنطقة، أم أنها ترغب في البقاء، تصورا أو واقعا، كبؤرة استيطانية للغرب في منطقتنا؟ علينا أيضا أن نتساءل فيما إذا أثارت الصحوة العربية القلق أم الخوف لدى الإسرائيليين ولماذا؟
لقد حان الوقت للمشاركة في الربيع العربي وما يعقبه أو يصاحبه من شتاء. كما حان الوقت لأن تعيد إسرائيل توجيه مفهومها للأمن بعيداً عن الأسلحة واحتلال أراضي غيرها وشعوبها، وأن تتجه إلى بناء المبادئ التي تقوم على أساس الكرامة الإنسانية والعيش المشترك.