لا يدري الإنسان العربي أو المسلم متى بدأ تعلقه الوجداني بمدينة القدس الشريف قبلة المسلمين الأولى،التي سبقت توجههم نحو مكة المكرمة. فعاملا الجغرافية والزمن يختلطان، كما تختلط الحقيقة مع الوجدان حين التفاكر في العلاقة ما بين هاتين المدينتين إحداهما مسقط رأس الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأخرى مسراه وأولى قبلتيه.
وللدرب التي توصل بينهما جذور سحيقة في التاريخ تعود إلى عصر سيدنا إبراهيم الحنيف أبو الأنبياء الذي شيد كعبتها، وأمر بدعوة الناس إليها، قال تعالى: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ))ـ سورة الحج الآية:27 ـ لتصبح نقطة لقاء حجاج بيت الله الحرام من جميع أقطار الدنيا جاءوا محرمين قاطعي الفيافي والقفار، والبحار والأنهار، متوجهين بقلوبهم وعقولهم إلى الخالق عز وجل مكبرين ومهللين، وليكونوا لحظة هذا اللقاء خير دليل حي على وحدانية الله من جهة وروعة وجلال وبهاء الاختلاف الذي قدره للأمم حيث ترى النساء والرجال والأبيض والأسود من مختلف الأعراق والأجناس واللغات يأتون من دروب مختلفة ارتبطت بحضارات مختلفة على مر الزمن، تلتقي جميعها في مكة المكرمة ليسجدوا للخالق ملبين دعوته خاشعين أمام روعة خلقه، تصدح حناجرهم هاتفة: لبيك اللهم لبيك...لبيك لا شريك لك لبيك.
مثل هذه الأفكار جالت في خاطري حال تجوالي وصحبي في معرض الحج الذي يقيمه المتحف البريطاني في لندن في الفترة من 25/1/2012 - 15/4/2012 والذي تنظمه السيدة برتون التي كانت قد زارتني في عمان قبل ذلك لاستشارتي في الأمر وفي فعاليات هذا المعرض المتميز. وإذ أشكرها على إسهامها في إقامة هذا المعرض بما اشتمله من تحف ومعروضات، لأشكرها كذلك على تفهمها ورهافة حسها في حسن انتقائها وما ترمز إليه كل قطعة معروضة. والشكر موصول إلى مكتبة الملك عبدالعزيز في الرياض التي ساهمت في إعداد وإقامة هذا المعرض وزودته ببعض المعروضات النادرة.
الحج...رحلة إلى قلب الإسلام، عبارة رفعها المعرض عنواناً له...معرض حكى قصة الحج في الإسلام، وجسدها في صالاته، وأضاء للزائرين جوانب لم يعرفوها عن الإسلام،عاكساً حقيقته الجانحة نحو السلم والسلام في زمن أسيئ فيه إليه، وصوّر هذا الدين العظيم بما ليس فيه.
وفي اختيار الحج دون أركان الإسلام الأخرى إشارة يجب أن لا تغيب عن البال فهو فريضة على من استطاع إليها سبيلاً، قال تعالى: ((..ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا..)) ـ سورة آل عمران، من الآية: 97 ـ الأمر الذي ضم في ثناياه التعقل والاعتدال والوسطية الواقعية،فالأمر تعلق بالاستطاعة وعدم التكلف.
وفي الإحرام بالثوب الأبيض للحج تجسيد لمساواة الخلق أمام الخالق والسعي نحو السلام، وفي تجمعهم في الميقات قبيل البدء به دعوة للتوحد قبيل السفر نحو المدينة المقدسة، وقبل السفر في وصاياهم وسداد ما عليهم من دين وطلب مغفرة الآخرين ما ينزل السكينة إلى قلوبهم حين اللقاء على صعيد عرفات.
وفي اختيار الحج للتأكيد على وسطية ورحمة الإسلام في زمن تعاظمت فيه قوى الشر، ومن مدينة لندن تحديداً دالة أخرى على أنه ما زال في الإنسانية خير، حتى في إحدى عواصم قلب العالم الغربي التي انبثق منها أحد أهم أسباب ما نحن فيه اليوم من تربص وحقد على الإسلام أقول:هناك بشر عادلون، طبيعتهم الإنسانية تأبى عليهم إلا أن يقولوا كلمة الحق.
وأنا أتجول هذا المعرض الذي دخل إلى قلبي، كما توجه إلى قلب الإسلام بعظمته وبساطته وزهوه وتعدديته في آن واحد حيث لا أبيض ولا أسود ولا عربي ولا أعجمي بل في كل نفس آية من آيات الله وكلمة سواء من كلماته تمنيت لو عرض المتحف البريطاني وشريكه مكتبة الملك عبدالعزيز في الرياض هذا البرنامج في متاحف عواصم عربية وعالمية أخرى لإبراز صورة الإسلام ورسالته الحقيقية.
يمنح المعرض لغير المسلمين مناسبة للتعرف على أحد أبرز جوانب العقيدة الإسلامية وإتاحة الفرصة أمام الزائرين لفهم أبعاد أحد أهم فرائضه التي تركز على العدل والمساواة ووحدة الإنسانية. فالرحلة نحو المدينة المقدسة رحلة روحانية بالدرجة الأولى تجسد سعي الإنسانية نحو التوجه نحو الخالق.
وفي التوجه نحو مكة المكرمة قبلة المسلمين، سبر الإنسان جوف ذاته ليهذبها ويشذبها لتأتمر بما أمر به الخالق من مكارم الأخلاق، وليستعد الإنسان لتشكيل نفسه وسلوكه من جديد فهو يعرف أنه سيعود ليبدأ عهداً جديدا، فالبعد الجسدي للحج تذكير بأمور الدنيا، أما البعد الروحي فيتعدى الأبعاد الجسدية في جهد لتصفية النفس والروح تمهيداً للحياة الأخرى.
هذه الفريضة الواجبة على كل مسلم ولو مرة واحدة في العمر لمن استطاع رحلة نحو الرقي بالإنسان بأخلاقه نحو الفضيلة ومكارم الأخلاق.