ونجد أيضاً مع هذه المتغيّرات الدولية الجارية الآن، تطوراتٍ إقليمية مهمّة تشمل رؤية واشنطن الجديدة لكلٍ من إيران وتركيا والسعودية ولمستقبل إسرائيل في المنطقة، إضافة إلى تحديد مصير وجود ودور دول عربية مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا.
الملاحظ أيضاً في هذه الحقبة من التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة أنّ المجمع عليه تقريباً في منطقة «الشرق الأوسط»، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية، وكأنّ واشنطن قد خسرت أصدقاءها ولم تكسب خصومها.
يبدو أن حال السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط» سيكون مستقبلاً كما هو في «الشرق الآسيوي»، حيث تحرص واشنطن على علاقاتٍ جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان رغم ما بينهما من أزمات وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين. لكن من الواضح أنّ هناك تخلّياً عن السياسة الأميركية التي اتّبِعت في حقبة العقد الأول من هذا القرن.
والتي قامت على الحروب الاستباقية، وبأنّ هناك موافقة الآن من صُنّاع القرار الأميركي على الأجندة التي حملها معه الرئيس أوباما في العام 2009، وهي التي تنهي عهد «الانفرادية الأميركية» في قيادة العالم، وتريد استخدام «القوة الناعمة» والتسويات السياسية للأزمات الدولية، بديلاً عن أسلوب الحروب والتورّط العسكري الأميركي في خدمة الأهداف الأميركية.
هذا التحوّل الحاصل في الأساليب الأميركية سبّب اعتراض بعض «أصدقاء» أميركا بالمنطقة، وجعل واشنطن من «المغضوب عليهم»، والعرب اليوم هم في أسوأ حال من الانقسامات والصراعات الداخلية.
ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم، ومن هيمنة الأفكار التكفيرية والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكلّ مشاريع التفتيت التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة.
إنّها أشهرٌ قليلة باقية من فترة حكم أوباما في «البيت الأبيض»، وهو لن يسمح بأن تكون أشهراً عقيمة أو مجرّد وقتٍ ضائع بانتظار نهاية ولايته في مطلع العام المقبل.
وفي تقديري أنّ هذه الأشهر ستكون هي الأهمّ في السياسة الخارجية لإدارة أوباما، من حيث مقدار الحصاد السياسي الأميركي من إنهاء الأزمات الدولية المتفجّرة، أو لناحية كيفية «توزيع الحصص» مع روسيا الاتحادية وضبط سقف الخلافات الحاصلة معها، أو لجهة ترسيخ أسس النظرة الأميركية المستقبلية لإيران، بعد الاتفاق الدولي معها حول ملفّها النووي.
أيضاً، فإنّ السعي الأميركي لتسوية الأزمة السورية بالتفاهم مع موسكو سيكرّس النفوذ الأميركي، السياسي والأمني، في سوريا.
كما سيعطي دفعاً كبيراً لمواجهة أشمل وأكبر، تريدها إدارة أوباما هذا العام، مع «داعش» في سوريا والعراق وليبيا، لكن مشكلة إدارة أوباما، في أجندتها الدولية الآن، هي ليست فقط مع «الشريك - الخصم» الروسي بل أيضاً مع حلفاء لها في منطقة «الشرق الأوسط»، وهي دول معنيّة أيضاً في الأزمات التي تحاول واشنطن التفاهم مع موسكو بشأنها، لكنّها لا تجد لها تأييداً واضحاً من هؤلاء الحلفاء.
ألم تكن واشنطن هي التي شجّعت تركيا على التدخّل الواسع في الأزمة السورية، وراهنت معها على تغيير النظام السوري في أشهر قليلة، وعلى محاولة تسهيل وصول حركة «الإخوان المسلمين» للحكم في دول عربية عدّة؟! كذلك كان الموقف الأميركي مشجّعاً لتسليح جماعات المعارضة السورية عن طريق تركيا، والتي فتحت حدودها لكلّ الراغبين بالقتال في سوريا من مختلف جنسيات العالم!
أليست واشنطن مسؤولة أيضاً عن وجود ظاهرة «المجاهدين الأفغان» في حقبة الصراع مع روسيا الشيوعية، والتي منها خرج «تنظيم القاعدة»، ثمّ من «القاعدة» ولدت «داعش»؟!
ثمّ أليست الولايات المتحدة هي التي احتلّت العراق ودمّرت مؤسساته الوطنية، بحيث تحوّل الفراغ بعد ذلك إلى مجمعٍ لكلّ القوى التي أرادت مواجهة أميركا أو الاستفادة من وجودها العسكري هناك، فإذا بالعراق ساحة تنافس جديدة بين إيران وخصومها، في ظلّ انتشار ظاهرة الميليشيات على أساس مذهبي وإثني، وبدعم من الحاكم الأميركي للعراق آنذاك بول بريمر، وتكريس هذه السياسة بدستور ثبّت الواقع الانقسامي!
أمّا عن «الملف الفلسطيني»، فما الذي فعلته إدارة أوباما لفرض رؤيتها لحلّ الدولتين أو لوقف الاستيطان، ولماذا لم تستخدم الحدّ الأدنى من الضغط المالي على إسرائيل كما فعل جورج بوش الأب في مطلع التسعينات؟! ولماذا استطاع أوباما أن يفرض الاتفاق مع إيران رغم اعتراضات نتانياهو ولم يفعل ذلك في الملف الفلسطيني؟!
بالمحصّلة، أصبحت المنطقة العربية، ولمصالح دولية وإقليمية مختلفة، ساحاتٍ لصراع هذه المصالح في ظلّ غياب «المشروع العربي» القادر على مواجهة «المشاريع» الإقليمية والدولية المتنافسة على المنطقة.