مرت الدولة التركية منذ تأسيسها عام ١٩٢٣م بمراحل عديدة مختلفة التوجه والشكل ومع ولادة الجمهورية الأولى وإعلان النظرية الإيديولوجية للعهد الكمالي بارتكازه على فكر العلمانية الغربية والتوجه الاجتماعي نحو مظاهر الحياة الغربية آنذاك فأستبدل الطربوش بالقبعة الغربية ومنع الحجاب على النساء وتعميم حرية الزي الغربي بين كل أفراد المجتمع التركي آنذاك وتغيير الحروف العربية الى اللاتينية.
وظل المفكرون العرب منذ ذلك العهد حتى يومنا هذا في اختلاف حول تقييم العهد الكمالي في تركيا بين مؤيد ومساند للإصلاحات التي جاءت بها النظرية الكمالية العلمانية، في حين نجد الفصيل الآخر يعارضه بشدة انطلاقا من نظرة دينيه بحته نتيجة إزالة المظاهر الإسلامية من الحياة العامة للشعب التركي ، وتحجيم الهوية الدينية و قد تم تأسيس حزب الشعب الجمهوري بزعامة أتاتورك ليمثل الإطار السياسي للنظام الجديد وانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي من أعضاء يمثلون محافظات تركيا الجديدة .
وأثر وفاة المؤسس أتاتورك أنتخب المجلس البرلماني صديقه عصمت أينونو وهو من قادة حرب تحرير تركيا من قوات الحلفاء التي أحتلت معظم الجغرافيا لتركيا الحديثة أثر الحرب العالمية الأولى وتم طرد الجيوش الفرنسية والإنجليزية والروسية واليونانية من كل التراب الوطني التركي وإعلان النظام الجمهوري وعاصمته الجديدة أنقره آنذاك.
وتميزت مرحلة التأسيس الأولى بظهور قوة المؤسسة العسكرية وتأثيرها على الحياة السياسية ورؤساء الجمهورية من خريجيها، ولكن تغير التوجه السياسي بفوز الحزب الديمقراطي بزعامة جلال بايار وعدنان مندريس بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات العامة عام ١٩٥٠ م بفوزه ٣٩٧ مقعداً من أصل مجموع مقاعد البرلمان البالغة ٤٨٦ مقعداً، و ظل بقاء التوجه العلماني الكمالي كنظرية أيديولوجية لعهد مندريس إلا أنه أجرى بعض الانفتاح على القوى الإسلامية وأعاد لغة الأذان الى العربية بدلاً من التركية التي أقرها عهد عصمت إينونو وسمح للجمعيات الإسلامية ببناء أكثر من عشرة آلاف مسجد وجامع في عام واحد.
لكن عهد مندريس انتهى بمأساة إعدامه أثر قيام الانقلاب العسكري الأول عام ١٩٦٠م الذي نفذه الجنرال جمال كورسيل وتنصيب نفسه رئيساً للجمهورية أثر فوضى أمنية حركتها القوى اليسارية في الشارع السياسي و المناهضة لمشاركة تركيا بحلف “الناتو” وحلف بغداد وعاشت أنقره تحت ظروف قاسية في ظل ذلك العهد الديكتاتوري العسكري حيث جمدت الحريات العامة وبلغ عدد ضحايا الانقلاب المئات من المدنيين ومؤيدي الحزب الديمقراطي وتم اعتقال معظم الشخصيات الرسمية من أركان عهد الحزب الديمقراطي صاحب الأغلبية البرلمانية، وكان عهداً أسودا لا ينساه من عاشه من المواطنين الأتراك حتى الأن .
ومع عودة الحكم المدني بعد ذلك الانقلاب إلا أن هيمنة المؤسسة العسكرية بقيت تؤثر على حركة العملية السياسية للسلطة التنفيذية وأستمرت الأنقلابات السياسية تظهر مع كل أزمة سياسية تواجه الأحزاب والكتل السياسية حتى بلغت أربع حركات انقلابية نفذتها قيادات المؤسسة العسكرية مؤثرة سلبا على الحريات العامة.
وواكب ذلك تعطيل النمو الاقتصادي حتى عام ٢٠٠٢م عندما تم إعلان فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية أثر مشاركته بالانتخابات العامة وتشكيله لوزارته الأولى وبدأ عهدا جديدا ومرحلة مفصلية في تاريخ السياسة التركية مع بقاء مسمى النظام العلماني الكمالي كإطار سياسي للجمهورية التركية حسب الدستور.
غير أن قيادات الحزب الحاكم أدخلت أيديولوجية سياسية جديدة تميل للأسلام الوسطي الممزوج بالروح الوطنية فحظي بالتفات معظم أبناء الشعب التركي المتعطش للإسلام ومظاهره في حياتهم العامة.
ويأتي اكتساح حزب أردوغان الثالث للتفويض الشعبي عبر صندوق الانتخابات البرلمانية العامة مما يؤكد شرعيته في الحكم إلا أن الأمن والاستقرار السياسي يظلان مقرونين بالنمو الاقتصادي المميز وبنسب عالية قفزت باقتصادات تركيا إلى مصاف الدول المتقدمة عالمياً.
واحتلت تركيا المرتبة السادسة عشرة في قائمة الدول العشرين الرائدة اقتصادياً في العالم في السنوات الأخيرة وبعد أن كانت مدينة للبنك الدولي أضحت من كبرى الدول التي تقدم القروض الاستثمارية عن طريق البنك الدولي نفسه.
و في عهد أردوغان تم وضع المؤسسة العسكرية ضمن محيط واجباتها المهنية وقدمت لمنسوبيها كل التسهيلات اللازمة لرفع قدراتها العسكرية وترفيه منسوبيها، إلا أن المغامرين من عشاق السلطة لا يروق لهم الازدهار الاقتصادي والإستقرار السياسي والدور المحوري الإقليمي والدولي لتركيا في عهد الرئيس أردوغان، ولهذا يبدو كان لابد من تدبير مؤامرة بظلام الليل كعادة اللصوص للسطو على السلطة وبدعم وتمويل قوى أجنبية تعمل لإيقاف عجلة تقدم المجتمع التركي نحو منافستهم اقتصادياً بعد دخول المنتجات التركية الأسواق الغربية وانتشارها في أفريقيا وآسيا.
يضاف إلى ذلك تنامي الموقع السياسي والعسكري لتركيا ودورها المؤثر في القضايا الإقليمية والدولية مما يجعل التأثير الغربي على قرارها السياسي صعباً. فحاول هؤلاء تغيير النظام بعودة الديكتاتورية العسكرية لتأخير الدولة التركية قرناً كاملاً من أجل تمرير مخططاتهم السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط بأكمله واستغلال عملائهم من أمثال تنظيم او حركة فتح الله كولن وأتباعه الانقلابيين المشترين بالدولار والعملات الصعبة.
إن التساؤل الذي يصعب إيجاد التفسير المنطقي له هو كيف استطاعت هذه المنظمة السرية المتسترة تحت جلباب المؤسسات التعليمية المنتشرة في العالم أجمع أن تتغلغل وتخترق أبعد المناطق المحرمة في المؤسسة العسكرية والمنظومة الأمنية والقضاء التركي؟
وهل يمكن بعد هذا الصراع المسلح الانقلابي وافشال الشعب لكل مخططاتهم الإجرامية أن يعلن مكتب المدعي العام التركي المتولي فك طلاسم هذه العلاقات العنكبوتية لهذه المنظمة السرية داخل تركيا وخارجها وعلاقاتها المشبوهة مع الجهات الاستخباراتية الدولية والتي تتخذ من مزرعة كولن في بنسلفانيا بأمريكا مركزاً لعملياتها الانقلابية أثر مطلب القضاء التركي استعادته وتسليمه للقضاء التركي مما قد يحدث توتراً في العلاقات الأمريكية التركية والتي كانت توصف ولعقود مضت بأنها استراتيجية مميزة؟
لقد أدركت الحكومة التركية الحالية برئاسة بن علي يلدريم أن انغلاق المؤسسة العسكرية على نفسها واستقلالها بقرارتها المهنية يشكل خطراً متوقعاً على الأمن العام ولابد من أعادة هيكلتها التنظيمية وكسر النزعة الاستقلالية لها بجعل ارتباطها الإداري بوزير الدفاع بدلاً عن القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية والذي كان ارتباطاً بروتوكولياً فقط، كما سيساعد إعلان حالة الطوارئ في تركيا على منح الحكومة إجراء عملية تصفية في كل مرافق الدولة من الخلايا النائمة والتابعة لمنظمة كولن الانقلابية مع ضرورة تشكيل تنظيم عسكري جديد يهتم بالأمن الداخلي وذلك بدمج قوات سلاح الحدود (الجندرمة) مع قوى الأمن الداخلي وفكها من التبعية العسكرية لتكون تحت مسئولية وزارة الداخلية وتسليحها بأحدث المعدات العسكرية لمواجهة أي خروج منظم عن السلطة الشرعية المنتخب.
وتدور تكهنات قريبة من القصر الجمهوري تتوقع أن هناك قرارات هامة ومؤثرة على توجهات السياسة الخارجية التركية سوف تصدر قريبا، متأثرة بنتائج التحقيقات مع الانقلابيين وبالذات في العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية و(بعض) دول الشرق الأوسط. كما تقرب المسافة الودية بين تركيا وعالمها الإسلامي وأيضاً مع روسيا الاتحادية.
وتلازمت إجراءات الحكومة السياسية والاقتصادية الحكيمة مع أعطاء اهتمام عال تجاه الناحية الأمنية ومنح المحافظين سلطات رئيس الحكومة بدلاً عن القادة العسكريين كما كانت العادة في إعلان الحكم العرفي سابقاً.
ولعل من التداعيات الإيجابية للانقلاب الفاشل التفاف وتوحد كافة الكتل السياسية باختلاف فكرها السياسي والتي كانت تتناحر سابقاً في صف وطني واحد محققه مصالحه وطنية لم تشهدها تركيا طيلة عمر الجمهورية الأولى ملتفة حول العلم التركي رمز الدولة والوطن.
إن الحياة السياسية التركية تنتظر حالة فريدة من المخاض السريع الذي سيولد متغيرات داخلية وخارجية متناسبة وحجم الأحداث الجسام التي عاشتها تركيا الدولة والشعب منذ ليلة الخامس عشر من يوليو الصعبة حتى نهاية فترة حالة الطوارئ الحالية.