الأمير الحسن: الاستقرار في الإقليم يستدعي عقد مؤتمر دولي للأمن والتعاون
سمو الأمير الحسن بن طلال يتحدث إلى أسرة تحرير "الغد" -(تصوير: محمد أبو غوش)
سموه ينادي في حوار مع "الغد" بالتقريب بين المعايير الكونية
أعدَّ الحوار للنشر: نادر رنتيسي
عمّان- قال سمو الأمير الحسن بن طلال إنَّ "التمييز ضدَّ العرب والمسلمين واضحٌ في كلِّ مكان"، مشيرا إلى عدم "وجود مبادرات مقنعة لحضور المحافل الدولية والتعبير عن موقفنا في أبسط الأشياء".
وذهب سموه، في حوار مع أسرة "الغد" الاثنين الماضي، إلى أنَّ "الجوع غدا واضحاً في كلِّ المجالات، وأنَّ الإنسانَ محتار، وفقد البوصلة من يومياته الحياتية الأساسية".
ورأى أنَّ مشكلتنا الآن ليست بالاحتباس الحراري، وإنما في ما أسماه "الاحتباس الفكري"، مبيِّنا أن "تطوير القدرة الاحتمالية يبدأ بقاعدة معرفية مبسَّطة لفهم الجميع". واشترط فيها أنْ تكون "إنسانية وطبيعية واقتصادية".
وأشار سموه إلى أهمية إقامة نظم المعلومات ودعمها وتفعيلها إقليمياً ووطنياً، مشيراً إلى أنَّ الحديث عملياً عن القدرة الاحتمالية للأرض يستدعي النظرَ إلى الإقليم من ناحية البيئة الإنسانية والاقتصادية والطبيعية.
وبينما دعا سموه إلى عقد مؤتمر للأمن والتعاون في الإقليم الذي يضمُّ العربَ وإسرائيل وإيران وتركيا، مشيراً إلى أن الكثير من الأفراد وممثلي المسار الثاني يلتقون في كثير من عواصم العالم، لعقد صفقات تجارية واستثمارية تعاونية.
وتساءل عن جدول أعمال القمة العربية المقبلة نهاية آذار (مارس) الحالي، وهل يتضمَّنُ محورا لبحث الموضوعات الفنية المهمة، مثل غياب التعبير المؤسسي لمنطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي أُطلق عليها لقب "الإقليم"، وعدم وجود صندوق للتضامن أو ميثاق اجتماعي، أو ميثاق للطاقة.
وذكّر سموه بالتقارير الاقتصادية التي قدمها أعضاء منتدى الفكر العربي للقمة الاقتصادية في الكويت، عندما تناولوا الاقتصاد الريعي، والاستثمار الاحتفالي.
وشدَّدَ على أنَّ "أيَّ ضربة إيرانية – إسرائيلية سوف تنهي كل الوجود عملياً في المحيط"، معتقدا أنَّ "صناعة الكراهية تنجزُ أهدافَها، وتطعم منتفعيها من الجانبين".
وشخَّصَ سموه أزمة التعليم بـ"عدم وجود تنخيل لمراحل الدراسة أو تدُّرج"، مبيِّناً أن "شجرة المنتهى باتت شهادة البكالوريوس". وأكد في المقابل أنَّ "الجامعات تحتاج إلى إصلاح جذري".
وكان رئيس التحرير الزميل موسى برهومة، رحّب بسمو الأمير الحسن، مؤكداً أهمية الزيارة التي حظيت بها "الغد". وأضاف "نحنُ نتعاملُ معكَ أميراً ومفكراً، رفدْتَ الثقافة الإنسانية بكثير من الأفكار الخلاقة والمبدعة التي رسمَتْ لجيل الأردن والعالم العربي دربَ النظر لقضايا العالم بعيون مختلفة".
وشارك في الحوار الزملاء: مدير دائرة الآراء والقضايا د.محمد أبو رمان، ومديرة دائرة الدراسات والأبحاث د.ناديا سعد الدين، ومدير تحرير دائرة العربي والدولي موفق ملكاوي، ومديرة دائرة الاقتصاد جمانة غنيمات ورئيس قسم الترجمة علاء أبو زينة.
وكان سموه قد استهلّ لقاءه بأسرة تحرير "الغد" بكلمة، هذا نصّها:
لأوَّل مرةٍ منذ أعوام أزور داراً صحفية أردنية، وفي هذا الإطار، أستذكر كثيراً مما كتبتُ في الماضي، وما يستدرجُ الأسئلة والملاحظات.
أبدأ باقتباس من الجيوستراتيجي السير هالفورد ماكندر إذ يقول في العام 1919: "منْ يحكمُ أوروبا الشرقية يسيطرُ على الأراضي الوسطى". لاحظوا أنَّه قبل عشرين عاما سقط جدار برلين، ولكنْ مع الأسَف، لا تزال الجدرانُ تتعالى فيما بين الشعوب.
وأوَدُّ في هذا السياق أنْ أقول إنَّ دوري ببساطة يتلخَّصُ في محاولة التقريب بين المعايير الكونيَّة، ولا أقول العالمية، لكي أتجنَّبَ الإشارة إلى العولمة؛ فهيَ أصبحت تسوء أسماع الكثيرين، إذ يتمُّ اختصار الحديث عنها بالجانب المادي. والغاية عند الانفتاح على العالم، أنْ نتساءل هل هنالك عطاء سياسي فكري ثقافي ينبعُ من هذا الإقليم؟
الأراضي الوسطى والسيطرة على العالم
أعودُ إلى ماكندر الذي يتابع قائلاً: "ومنْ يحكم الأراضي الوسطى يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم كله". والجزيرة التي يتحدث عنها، ليست المنطقة العربية فقط؛ وكما نعلم فالجيوش في الحرب العالمية الأولى وما قبلها، قد زحَفَتْ نحو القفقاس أيام القيصر والثورة البلشفية للسيطرة على تلك المنطقة، كذلك كان الوضعُ في الحرب الكونية الثانية.
وأود أن أشير إلى الأستاذ شريف بسيوني، رئيس معهد الدراسات الجنائية في سيراكوزا بإيطاليا، والأستاذ في جامعة دي بول بشيكاغو، الذي كُلف بالبحث في جرائم الحروب، خصوصا بعد حرب البلقان. ويقول في إصداره الأخير إلى جانب أكثر من ستين باحثاً، إنَّ مجموع القتلى بعد الحربين الأولى والثانية، أكثر من مجموعهم في كلا الحربين الكونيتين؛ أي ما يتجاوز 90 مليون شخص.
وهنا أودُّ أنْ أذكركم بمقولة رئيس الحكومة البريطاني الأسبق كامبل بنرمان، الذي وُصِفَ بالليبرالي. فقد قال بالحرف الواحد خلال اجتماع للدول الاستعمارية في العام 1907، قبل عشر سنوات من معاهدة سايكس بيكو: "على الشعوب في كلٍّ من إفريقيا وآسيا، المجاورة للممرَّات المائية والمعابر، أن تبقى فقيرة ومتفرقة".
لم يكن لدى ماكندر، الجيوسياسي لا الجيولوجي، أدنى فكرة، فيما نعلم، عن أنَّ المنطقة القاحلة الموجودة في الأراضي الوسطى تحتوي في باطنها على معظم نفط العالم، لكنه كان متأكداً أنَّ تلك المنطقة ستكون، جيوسياسياً، المفتاحَ للنفوذ العالمي.
أودُّ أنْ أذكر أنَّ المعارك، بصرف النظر عن وسائلها، التي سوف تندلعُ بين الدول العظمى للسيطرة على جزيرة العالم، ومعها نصفُ الموارد العالمية، كانت متضمنة في أعمال ماكندر وكُشِفَ عنها بمرور الوقت.
اسمحوا لي أنْ أفتتحَ الحديث بهذا البعد التاريخي؛ مذكّراً بأنَّ الدول التي نسمِّيها بالقُطرية اليوم، يُقال عند البعض إنَّ سبَبَ وجودِها الاستعمارُ القديمُ والخطوط التي رُسمَت بين هذه الدول. وعند البعض الآخر، يقالُ إنَّ قيامَ دولة إسرائيل كرَّسَ القُطرية. والمفارقة التي تتبادر إلى ذهني هي أنَّ قيام دولة إسرائيل بعد ثلاث سنوات من تأسيس الجامعة العربية كان من المفترض أنْ يُرسِّخ مفهوم التعاون العربي، في ظل وضوح نوايا الدول الكبرى لإقامة دولة إسرائيل. ولكن مع شديد الأسف فقد انغلقت كلّ الكيانات العربية على شعاراتها الداخلية، وأخذتْ توجِّه التهَمَ لبعضها البعض.
ومن المناسب هنا أن أشير إلى أسباب استقالة وزير الدفاع في حكومة أنطوني إيدن، في العام 1956، حيث قال: "أقدم الاستقالة لسببين مهمين: الأول لا يجوز احتلال ممر مائي دولي، إلا باستشارة مجلس الأمن. أما السبب الثاني لاستقالتي فهو أنه لا يجوز لدولة حليفة (فرنسا) أن تقدِّم القدرة النووية لدولة ولدت منذ 8 أعوام (إسرائيل)".
وصولاً إلى واقعنا اليومي، أشير إلى أنَّ مبادراتنا في هذا الاقليم لها أسماء متعددة ومختلفة. وقد تكون غريبة على مسامعكم، كما هي غريبة على مسمعي؛ يسمَّى هذا الإقليمُ أحياناً بالشرق الأوسط؛ وأذكر أنني عندما وجهتُ السؤال في السابق إلى السيناتور جوزيف بايدن والسيناتور ريتشارد لوغر: كيف تعرِّفون الشرق الأوسط؟ قال أحد الحضور: "من مراكش لبنغلادش"، بينما قال الآخر: "من كلكتا إلى الدار البيضاء".
هنالك تعريفات متعددة لهذا الإقليم: "مينا" وهي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، "وانا" واقتبستها من وزارة الخارجية الهندية، لأنهم عندما ينظرون إلينا من آسيا، من الشرق، يقولون هذه المنطقة ليست الشرق الأوسط وإنما الغرب الأوسط، و"رومانيكا" وهي الشرق الأوسط وشمال آسيا، وآسيا الوسطى.
ومع وجود تلك الأسماء، يفتقر هذا الإقليم إلى مجلس اقتصادي ومجلس اجتماعي. وفي العام 2012، من المتوقع أن تطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة من كل أقاليم العالم ملء استمارة، تمثل موقف كل إقليم من قضايا الأمن والاقتصاد والثقافة.
أرى أنَّ المشكل الأساسيَّ الذي يواجهنا هو كيفيَّة الحديث النقدي التحليلي الذي يصلُ إلى الفضاء الثالث الذي يستند إلى المشاركة الشخصية، بغض النظر عن المناصب والألقاب.
كما أعتقد أنه من المهم أن يمارس الفرد دوره الإنسانيّ، ويسهم في العطاء الفكري الذي يخدمُ الصالح العام؛ وقضيّة الصالح العام، مع شديد الأسف، أصبحت مهمَّشة في كثير من برامجنا القُطرية. فعلى سبيل المثال، عندما نتحدثُ عن المياه والطاقة، نتحدث عن قضايا فوق قُطرية تعني الجميع؛ فالمياه والطاقة أصبحتا الآن سلعة تُباع وتشترى في إطار منظمة التجارة الدولية.
وعلى مستوى الحكومات؛ أصبحت إسرائيل مرشحة لعضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. فمع كل محاولات المقاطعة العربية، استغلت العطفَ الدولي عليها لأسباب كثيرة لا مجال لسردها.
وفي إطار تفعيل الفضاء الثالث في مجال الاقتصاد، فإنني لا أؤمن بالاستثمار من أجل الاستثمار، ولا بمقولة أنَّ عصر التخطيط انتهى؛ وإنْ كان التخطيط المركزي انتهى في كثير من الدول انصياعاً لفلسفة التخاصية، والخصخصة، ونظرية العولمة وفتح الأسواق، وما إلى ذلك. لكنني أرى أنَّ الاستثمار المفيد هو الاستثمارُ في رفع دخل الفرد والمجتمع المحلي؛ ولذلك قبلتُ أنْ أكون عضواً، إلى جانب الدكتور مدحت حسنين، في اللجنة الدولية للتمكين القانوني للفقراء.
كلفة النزاع في المنطقة
ولو قسنا مبلغ 12 تريليون دولار (كلفة النزاع في المنطقة منذ عام 1991، حسب الدراسة التي أجرتها "فورسايت جروب") إلى كلفة تشغيل صندوق للتضامن في هذا الإقليم، لوجدنا أنَّ هناك علاجاً للمشكلة الأساسيَّة، وهي أنَّ الديمقراطية لا تنزل بـ "البراشوت" أو المنطاد، ولكنها تترقى من خلال تمكين المواطن للمساهمة بوصفه شريكاً في صنع مستقبله.
فالتعليمُ من أجل المواطنة، والاقتراب من المواطن، هو اقتراب من الأولويات. فلكل فرد أولويات، ولكل مجتمع أولوياته، ولكن هذه الشراكة بدلا من الحروب تتضمَّنُ إعادة التفكير في القواعد الفلسفية للنظم الاجتماعية العالمية، وسياق بناء المفاهيم بدلاً من السياقات التفاوضية.
في هذا المجال، أودّ أن أذكّركم أنَّ هنالك غياباً للرؤى في المجال الاقتصادي. فعلى سبيل المثال عندما كان تورغوت أوزال رئيساً لجمهورية تركيا، قال: "إنَّ على تركيا السعي جنوباً، لبناء شبكة لغايات تمكين القدرة الاحتمالية لدول الهلال الخصيب"، الذي لم يعد كذلك، في ظل ظروف الواقع الحالي. هذا الواقع تسوده تناقضات ومفارقات في تحديد مفهوم الديمقراطية وتعريف الإرهاب، ما أسهم في اختلال موازين القوى والأدوار.
أما في مجال الثقافة، أقولُ: لا بدَّ من مناغمة النظم الاجتماعية والاقتصادية العالمية مع المعايير الأخلاقية التأسيسية لكلّ الشرائع التي طالبت بحقوق الإنسان من حمورابي إلى اليوم؛ فالاستعمارُ لم يصنع حقوق الإنسان. فهي موجودة في فهمي للإشراق، والشيخ شهاب الدين السهروردي تحدَّثَ عن حكمة الإشراق. وأتساءلُ: لماذا لا تلتقي ثقافة الشرق بثقافة الغرب؟ وثقافة الشرق والغرب معاً تشكلان جذور الثقافة الغربية.
أما فيما يتعلق بفهم الآخر، ففي الوقت الذي يقدم فيه الإسرائيليون سردهم التاريخي، فإننا في أمسّ الحاجة إلى توضيح وتعميق مسارات السرد التاريخي في السياق الفلسطيني والأردني، ليعرفَ القارئ العام أين كنا. وكما قال الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد "لا تستطيع أن تنظر إلى المستقبل من دون أنْ تعرفَ الماضي". بالإضافة إلى ذلك، نحن بحاجة إلى العمل على التمكين القانوني لأكثر من ثلاثة مليارات إنسان يعيشون أوضاعاً صعبة في العالم، وإلى التركيز على القواسم العالمية والتعليم من أجل المواطنة.
وفي هذا المجال، أقول إننا مع الأسف نواجهُ أزمة أنسنة العولمة، إنْ جاز التعبير، وأنسنة التمدن غير المنضبط، وأخشى أنْ تصبح الفئات الهامشية والهشة في مجتمعاتنا أكثر هشاشة نتيجة لغياب الحس الإنساني.
إن الأردن مقبل في العام 2012 على ذكرى مرور 60 عاماً على وضع الدستور الأردني. وأنا حريص جداً على أنْ تكون هنالك حركة للفضاء الثالث، الرسمي والخاص والأهلي (المجتمع المدني والنقابات)، لنسائل أنفسنا: إلى أيِّ مدى استندنا إلى روح الدستور؟ كما أتساءل إلى أي مدى ترجمنا التوجهات التي نجمت عن الحالات التي جمعت الطيف السياسي من أقصاه إلى أقصاه - وأذكرُ هنا بالخصوص الميثاق الوطني.
أذكر أنني كنتُ لفترة قصيرة رئيساً للجنة ملكية للإصلاح الإداري، فوجدنا على سبيل المثال أنَّ هنالك تراكمات من القوانين التي لا تتناقضُ بالضرورة، ولكنها تُراكم مفاهيم في صورة تجعل من الصعب على الإنسان معرفة سياسة الدولة تجاه قضية سلة الغذاء على سبيل المثال؛ فالغذاءُ، بطبيعة الحال، يشتملُ على الزراعة والتربة والمياه والهوية الغذائية. وحسبي أن هذا ينطبق على كثير من الدول.
التمكين القانوني
أعود إلى التمكين القانوني؛ حيث يعدّ الوصولُ إلى العدالة وسيادة القانون أحد ركائزه الأربع. فعلى سبيل المثال، أقيم الكثير من الهيئات لمكافحة الفساد أو مكافحة أشكال من الخروج على القانون في مجال المخدرات أو غيرها من المجالات. وهي مبادرات استندت على مبدأ المنظمة شبه المستقلة غير الحكومية، وهو أسلوب استندت إليه بعض الحكومات. فعندما تواجهُ مشكلة تشكلُ فريقَ عمل من المنظمات غير الحكومية المتخصصة لتقديم تقرير حولها. فإذا دعا التقريرُ إلى مأسسة أمر ما بسند قانوني، يتم تكليف الوزارة المعنية بهذه المأسسة، بحيث لا تبقى الفكرة أو الاقتراح عائمين.
كيف نفعّل القانون في هذه الحالة؟ هناك حقوق المُلكية، وحقوق العمل، وحقوق ممارسة الأعمال التجارية والزراعية. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المزارع غير مشمول في الإحصاءات العامة الأردنية. وقبل أعوام قليلة كنا نقول: يشكل القطاع الزراعي 43 % من العمل الإنتاجي، فيما اليوم تقول دائرة الإحصاءات العامة إنه أقل من ذلك بكثير، كما تدعو بعضُ الجهات الأجنبية إلى إلغاء مفهوم الزراعة لكونه غير مجدٍ.
كما أذكركم بأنَّ المنظومة الزراعية تشتملُ على أكثر من المزارع، والمنظومة الأخلاقية التي استبعدت أن يكون الأردني مزارعاً سببها الاستعلاء على الفِلاحة، بينما قطاع الفلاحة في المغرب العربي اسم مقبول جدا. إنما عندنا لا تزال القناعة راسخة بضرورة حصول الابن على شهادة جامعية تعني الوجاهة الاجتماعية للأب أكثر مما تعني الإنجاز للابن.
ختاماً أتساءل: أين التمثيل المؤسسي لهذا الإقليم؟ أين صندوق التضامن والميثاق الاجتماعي وميثاق الطاقة؟ أين القمة العربية القادمة هذا الشهر من المواضيع الفنية؟ هل ستكون المسافات بعيدة بين التقارير الاقتصادية التي قدمها زملائي أعضاء منتدى الفكر العربي للقمة الاقتصادية في الكويت، عندما تناولوا الاقتصاد الريعي، والاستثمار الاحتفالي وتحدثوا عن التشغيل؟
لا بد من الإجابة عن هذه الأسئلة، وإلا سنجد في هذا الإقليم أربع دول قوية متنفذة: الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وتركيا وإيران. أما العرب فعليهم أن يدركوا أنّ التوجّه الإيجابي ليس كراهية الأعداء بالمطلق، ولكن التوقف عن كراهية الإخوة والأصدقاء، لأن ما يجمعنا ينبغي أن يكون على أسس أكثر من عرقية، وأكثر من طائفية. ورأينا ما تصنع الطائفية والعرقية والإثنية من تفتيت وتمزيق في صفوفنا. فإذا كنا نتوجُّه للماضي القريب، وأفكار النهضة العربية دونما تمييز، وإذا كنا نعترض على مصطلحات "مينا" و"وانا" وغيرها ونقول "ماذا عن القومية العربية؟" فأقول: أين الدلائل على الرغبة في التعاون حتى في داخل المجتمع المحلي، أو بداية من المجتمع المحلي، ومن ثم على صعيد فوق قطري، أو عبر الحدود مع الجار، ومعظم الجوار عرب ومسلمون؟
وتالياً الحوار الذي أجرته أسرة التحرير مع سموه:
صورة المشهد الدولي قاتمة بشكل عام، وأنتم من موقعكم الذي تطلون فيه على المناخ الإنساني والسياسي العالمي، تتلمسون هذه القتامة؛ تغييرات مناخية، حروب، توتر في كل قارات العالم، كوراث طبيعية.. والأزمة الاقتصادية. كيف تقرأون سموكم ما يمكن أن تسبغه مثل هذه القتامة من تحولات في الرؤى والأفكار البشرية المقبلة، نحو مزيد من الشراكة، لا مزيد من الاحتراب؟
ـ بطبيعة الحال يُذكّرني المشهدُ الدولي بأنَّ هنالك إشكالية وضعتَها الآن، وأنت تسعى إلى الحلِّ، ولسانُ حال الجميع: ما هو الحل؟
عندما كنتُ لسبعة أعوام رئيساً لنادي روما، الذي تأسَّس في مطلع السبعينيات، عملنا على تصور بالكمبيوتر لمعظم الإشكاليات التي تتحدثون عنها؛ أي بمعنى آخر القدرة الاحتمالية للعالم نظراً لتحدِّيات المناخ والمياه والتصحُّر وما إلى ذلك. طبعاً المقياس الوحيد الذي كان من الصعب إدراجه في الكمبيوتر هو الطاقة بتنوُّعِها، وخصوصا الطاقة النووية.
ولكن على العموم، كانت الدراسة التي صدرت في السبعينيات، عن نادي روما، بعنوان "حدود النمو" صائبة. بمعنى آخر، سقط جدار برلين، وأقيمَ مكانه الستار الذهبي، وهو الذي يحمي بليوناً ونصف البليون من المستهلكين في العالم. ولو تحدثت اليوم عن البرازيل، تأتي رسالة رئيسها لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، المتلفزة إلى دافوس، حيث قال: "قبل سبعة أعوام قطعتُ على نفسي وعداً، وتمكنتُ من ترقية 31 مليون مواطن إلى مستوى طبقة الدخل الوسطى".
وأستعيدُ القول الأخير للرئيس لولا دا سيلفا في مخاطبته دافوس: "إنني اليوم أستطيع أنْ أنظر مباشرة إلى أعينكم، ولكن الأهم من ذلك أن أنظر مباشرة في أعين شعبي"؛ فالإجابة عن سؤالكم باختصار هي أنَّ الحاكمية لكل إقليم، بمعنى تجاوز الحواجز المصطنعة وتثبيت الأولويات، هي مدخل الحديث عن برامج تؤدي إلى خلاصنا من الكابوس الذي نعيشه.
ويقال إنَّ النفط سيبقى حاضراً لثلاثة أو أربعة عقود. وعندما نتحدث عن النفط ومشتقاته، ربما هنالك أكثر من سبعة آلاف مشتق، ولكن ما فائدة تكرير هذه المشتقات في الدول الصناعية، وتصدير الخام؟ فالقصة قديمة جديدة، وتطرحُ التساؤل عن الاستقلال المتكافل، بين الدول المنتجة للمواد الخام، والدول المنتجة للقوى البشرية المؤهلة، شريطة أنْ تكونَ مؤهلة. ماذا عن نفاقنا وازدواجية معاييرنا؟ نقولُ إنَّ هناك بطالة، ونستوردُ ونستعبِدُ بالمعاملة العنصرية السيئة الملايين من الوافدين من دول مختلفة.
أقول: إنْ أردتَ الجواب؛ العام 2012 هو بدايةُ ما كنّا نقولُ به في نادي روما: "فكّر كونياً وافعل محليا"؛ بمعنى آخر، تفكير العولمة ليس وصفة تنطبقُ على الجميع ولا تطبَّقُ على الفقراء والمهمَّشين. وعندما ذكرتُ مبلغ 12 تريليون دولار، اذكروا فيلم "أفاتار"، رغم أننا لسنا بحاجة عملية له لنتذكر أنَّ المركب الصناعي العسكري يستبدّ بالعالم. آيزنهاور، وهو المنتصر في الحرب الكونية الثانية، حذّر من المركب الصناعي العسكري.
ولكن مع شديد الأسف، يُنظر إلى منطقتنا بمفردات الإرهاب. والآن التمييز ضد العرب والمسلمين واضح في كل مكان. لا توجد هناك مبادرات مقنعة لحضور المحافل الدولية والتعبير عن موقفنا في أبسط الأشياء؛ من المياه على سبيل المثال. وعندما نتحدث عن المياه، فإنَّ أكبر دولة مائية في المنطقة هي تركيا. وإذا نظرت للخطوط العالمية للطاقة اليوم، تجد أنَّ معظمها تعبر آسيا إلى أوروبا، أو يُفكر بإخراج النفط من خلالها.
أقول في مجال الخطوط المائية لا يوجد مستحيل قياساً بالخطوط النفطية. فخط مائي ممتد من تركيا إلى جزيرة العرب يبني جسوراً من التعاون والتكامل، شريطة أنْ يكون ذلك بهيئة فوق قُطرية لا تتأثر بمزاجيات الأفراد ولا بمصالح الأشخاص.
الاستخدام المتكامل للطاقة
أما في موضوع الطاقة، فلا أرى سبباً في أن يستمرَّ التصديرُ للطاقة من دون التفكير بالاستخدام المتكافل لها. حافظ على كيانكَ وهويتكَ، ولكن اعترف بما طالبت به اليابان من خلال البرلمان العام 1988، بالبعد الجغرافي، حيث قالوا بصوت واحد: لا نستطيع أن نحمي النفط في مواقع التصدير؛ ونقاط الغلق معروفة: السويس، باب المندب ومضيق هرمز.
وحماية النفط تتأتى من استقرار الإقليم، أي أن شعوب العمق لا بد من تمكينها ورفع سويتها تعليمياً وصحياً، لتتمكن من أن تكون عونا في ما أسمِّيه "الأمن المندمج".
لقد غدا الجوع واضحاً في كل المجالات، والإنسان محتار، وفقد البوصلة في يومياته الحياتية الأساسية وفي معرفة السياسة والتوجه العام، وكيفية التعامل مع الدول الكبرى ومع العولمة.
أريد جواباً أيتها الشعوب: أين موقفكم من قضية المياه؟ وما هو موقفكم من هجرة الأدمغة؟ خصوصا إذا عرفنا أنَّ 70 % من المدرِّسين في الجامعات الأميركية ليسوا من أصول أميركية، و30 % منهم، في الرياضيات والعلوم، هم عرب، نسبتهم لشعوبهم أكثر من نسبة الهنود والصينيين. وعندما نسألهم لماذا لا تعودون؟ يكون الجواب: عندما نتأكد من قيام مجتمع الكفاءة، وعندما تضمن حقوقنا. ومنذ سبعينيات القرن الماضي وأنا أطالب، في إطار منظمة العمل الدولية، بصندوق تعويضي للعمالة المهاجرة.
لا بدَّ من نظرة غير متوازية؛ فالأغنياءُ يزدادون غنى والفقراء يزدادون أطفالاً. وهنالك قول لتشرشل: إنَّ الفرقَ بين الرأسمالية والاشتراكية هو أن الرأسمالية غير منصِفة في زيادة أعداد السعداء من عوائدها، أما في الاشتراكية فالغالبية العظمى تعاني من التعاسة التي تساوي بين الجميع؛ ولكن في حقيقة الأمر أثبتت الاشتراكية في نهاية المطاف أنها سلطوية وليست اشتراكية بالمفهوم الفلسفي.
تحدثتم عما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي تشهدُ محاولات وجهودا أميركية لاستئناف مفاوضات السلام غير المباشرة. في المقابل نجِدُ أنَّ الحكومة اليمينية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو أبعد ما تكون عن السلام، في ظلِّ الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، ومحاولات التهويد، ودعوات الوطن البديل، ورفض حق العودة. فكيف تنظرون سموكم إلى ما يجري حاليا، وإلى مستقبل الصراع في المنطقة؟ ويمكنُ أن نربط ذلك مع دعوة أطلقتموها قبل أيام خلال محاضرة في إربد دعوتم فيها إلى رؤية استراتيجية للمنطقة، تأخذُ في عين الاعتبار عدداً من الركائز والأهمية بالنسبة للعالم؟
ـ كانت غايتي من الحديث أنْ أقول: أين السيناريو المستقبلي؟ ماذا لو تمَّ قلبُ السؤال وقلنا إنه (أي بنيامين نتنياهو) وصل إلى مرحلة لا يحق له من خلالها أنْ يتحدَّثَ عن استحقاقات السلام، وكان لسان حاله: إذا كانت قناعتنا عميقة في يهودية الدولة، وفي عزل الدولة عن الجسم العربي، وفي فرض السلام بهذا الواقع... قد يكون المنطق المقلوبُ أن نقول إنه حقق هدفه، أو قارب من تحقيق أهدافه، ليس كشخص بالطبع.
ولكن أين نحن من ذلك؟ فمنذ السبعينيات تحدثتُ عن الاستعمار الإسرائيلي، ومع شديد الأسف كان هذا الواقع متحركاً أمامنا وقابلاً للتحليل منذ نهاية آخر طلقة في نكسة العام 1967. ولم يلاحظ أحد تلك التوجُّهات؛ فلماذا نُبدي الدهشة الآن تجاه شخص مثل نتنياهو أو غيره، في أنَّ نواياه العقائدية أدَّت إلى قرب استكمال الأهداف الإسرائيلية: الهوية اليهودية، حماية المواطنة أو الكيان الاسرائيلي، وترسيخ العلاقات المتميزة مع الولايات المتحدة الأميركية.
شخصيا لهذه الأسباب، وغيرها، كنتُ أتمنَّى أنْ نرى حركة دولية لمؤتمر دولي للإقليم ككل. فالخصوصية الفلسطينية الإسرائيلية هي الفتيلُ لمزيد من الحروب والتهديدات والتهم المتبادلة مع لبنان وسورية وإيران. وسياسة الخطوة خطوة - كما كان يُسميها كيسنجر - هي أفظعُ بكثير من حيث مضاعفاتها ومساحتها. نتحدثُ عن منطقة خطرة من قناة السويس إلى حدود الصين، ونتحدثُ عن التحالفات الجديدة الآن في آسيا؛ دول تتجه نحو الحلف الأطلسي، دويلات جديدة تنشأ؛ وإذا كان بمقدور الدول الكبرى أنْ تقيمَ دولا في العصر الحديث، وفوكوياما يقول بانتهاء التاريخ؛ فحقيقة الأمر أنَّ التاريخ فضفاض. فلماذا لا يمكن إقامة دول لمن هم أحق تاريخياً.
هل يُمكنُ بحثُ الشأن الفلسطيني الإسرائيلي بمعزل عن توجه عام في المنطقة لتسوية القضايا السياسية العالقة كافة؟ لماذا لا يتمُّ التفكير بمؤتمر للأمن والتعاون في الإقليم؟ العربي والإسرائيلي والإيراني والتركي، كل هؤلاء أفراداً وممثلين للمسار الثاني يلتقون في كثير من عواصم العالم، والبعضُ منهم يلتقي لعقد صفقات تجارية واستثمارية تعاونية. فهل هنالك رغبة حقيقية بالسلام في هذه المنطقة أم قبول باستمرار التشظي؟
ميتشل بين إيرلندا الشمالية وفلسطين
أحترمُ جورج ميتشل وأعرفه منذ سنوات طويلة، وأحترمُ دوره في إيرلندا الشمالية، حيث كانت مهمته واضحة المعالم، في تخفيف التوتر وحله، وتقديم الحوافز المختلفة لكل من الكاثوليك والبروتستانت.
اليوم، الحديث هو عن المصالحة والمصارحة، في ظل ما فعلته جنوب إفريقيا مثلاً بعد صحوتها الجديدة في عهد مانديلا، أعتقد أنَّ هذا أمر يعني الفلسطيني والفلسطيني، بمقدار ما يعني الفلسطيني والإسرائيلي، والإسرائيلي والإسرائيلي.
وفيما يتعلق بالمحيط العربي والإسلامي، فقد اختلطت الأوراق؛ بدأنا بالحديث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وانتهينا بتغيير الأنظمة، أو لم ننتهِ. قال غوردون براون قبل أيام: "مارستُ ضغوطاً على الأميركيين من أجل التفكير في إعادة إعمار العراق قبل الحرب". وكنتُ أقول قبل الحرب: "اتقوا الله في كيفية انتهاء الحروب وما ينجم عنها؟". لكن لا أحد كان يفكر بهذا البُعد جدياً، فقد كان لديهم مساحة زمنية ممتدة منذ العام 1991 حتى العام 2001، على الأقل للتفكير في كيفية إنقاذ العراق، ورأيتم ماذا حصل في البصرة وغيرها.
أما إيران الآن... فإذا كان الموضوع رغبة إسرائيل في تعجيل النيل من الموقع الإيراني النووي، فكما قال الجنرال ديفيد بتريوس مؤخرا: "لا أستطيع أن أتوقع سيناريو إسرائيلياً – أميركياً لضرب أهداف إيرانية في الوقت الحاضر". ولكن السؤال الأساسي: هل مشكلة إيران إسرائيلية – إيرانية؟ عندما قال أحد الإسرائيليين أنه لا يمكنُ الوصول إلى سلام شامل مع العرب بسبب إيران، وعندما نُقلَ لي هذا الكلام، قلتُ: أتفق معه تماماً لأن أيَّ ضربة إيرانية – إسرائيلية سوف تُنهي كل الوجود عملياً في المحيط. فلماذا يُعتقد أنَّ الضربة المدمرة ستنهي إسرائيل وتُبقي على الجوار؟
إن صناعة الكراهية تنجز أهدافها، وتطعم منتفعيها من الجانبين، والعقل مغيَّب. ونقول مرة ثانية: لماذا لا تتحدثون عن الاستقرار في إقليم غرب آسيا، وهو - كما قال ماكندر - وسط هذا العالم. فقد نظروا لشرق أوروبا ووسطها وقالوا "القريبون إلى البيت"، ونحن جغرافياً وموقعنا المتوسطي يبرر لنا كشعوب أن نخرج بمثل هذه الرؤية. وهذا ما قلته مؤخراً في جامعة اليرموك بضرورة وضع سيناريو للسنوات العشر المقبلة. ونقول في العام 2020 هكذا سيكون الشرق الأوسط أو غرب آسيا: 100 مليون عاطل عن العمل، كما في أرقام البنك الدولي، أو إمكانية قيام حروب تدمر الموارد الطبيعية التي كان من المفترض أنْ تشكلَ دخلاً لهذ الإقليم الآن. هنالك سيناريوهات افتراضية سيئة وأخرى إيجابية، ولكن علينا أنْ نمارس الاستخلاف على أرضنا وفي بلادنا، ونمارس حقنا عملياً في جمع الأصوات حول استراتيجية لإنقاذ الإقليم، وإذا كنا مؤمنين أننا على المدى البعيد أكثر مساحة وثروة وعدداً، فلماذا لا نوظف هذه الأدوات؟
الاستقرار الاستراتيجي وكسب الوقت أمر مطلوب لنا لنتعافى، ليس فقط من مصائب الاحتلال التي فُرضت علينا، ولكن أيضا من المصائب التي فرضناها على أنفسنا نتيجة التفرقة والعبث فيما بيننا.
الفقر والبطالة والاستثمار وتراجع المستوى المعيشي في مختلف الاقتصاديات العربية حالة مشتركة، فأين يكمن الخروج من مأزق الأزمة الاقتصادية؟
- إن البيئة الاقتصادية والطبيعية والإنسانية مرتبطة بالمعلومة الدقيقة؛ فأين نظم المعلومات الإقليمية والوطنية؟ وأين المعلومات اليومية التي تخرجُ إلى العالم عن 80 % من أطفال العراق المصابين بالأنيميا، إلا من خلال المنظمات غير الحكومية الأجنبية؟ وحين نتحدثُ عملياً عن القدرة الاحتمالية أعتقدُ أنه آن الأوان للنظر إلى الإقليم بمفهوم إنساني واقتصادي وطبيعي. كنا نتحدث في الأردن عن ثلاثة أقاليم، كل إقليم له مميزاته، فلماذا حين نقيم جامعة تكون مقلدة لكل الجامعات في الأردن بدلاً من أن تركز على المجتمع المحلي المحيط بها والمشاريع القريبة منها؟
النموذج المستدام
بالنسبة لموضوع الاستدامة، أتساءل: كيف نستديم نموذجاً متغيِّراً، وما هو النموذجُ الذي يُستدام؟ وفي هذا الإطار تحدثنا عن التغيُّر المناخي، وخرجنا بتوجه نحو مشروع لنقل الطاقة الشمسية لتحلية المياه، وتوفير الطاقة الكهربائية الرخيصة. وكانت أولى المواقع المختارة داخل الأراضي المصرية لخدمة أهالي قطاع غزة. ومنذ ثلاثة أعوام ونحن نطالبُ دونما استجابة.
ومن بيْن الأسئلة التي كانت توجَّهُ: كيفَ يمكنُ حماية المحطات الشمسية؟ ونقول: كيف تتمكنون من حماية خطوط النفط، خصوصاً أنَّ العاكسة الشمسية يمكن إصلاحها، بينما خط النفط يحتاج وقتاً أطول. فقد كانت الغاية من استثمار الطاقة الشمسية الوصول إلى التجمعات التي لا تُخدم بشبكات الضغط العالي التقليدية.
كما تحدثنا عن القاعدة المعلوماتية في مجال الجيولوجيا والجغرافيا والجيوفيزياء على سبيل المثال؛ ما في باطن الأرض وعلى سطحها وكيفية التطوير المدني المنضبط. اليوم لا نستطيع أن نميِّز بين لاجئي المناخ، مثل القادم من الشوبك إلى عمّان وغيرها، وبين اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين والآسيويين، وكلهم على اليابسة نفسها، ويشربون من المياه نفسها.
لا أدري حقيقة كيف يُمكن أن نستمر في الحديث عن الاقتصاد السياسي، والاقتصاد المعرفي، والاقتصاد الإنمائي والاستهلاكي، بينما نصحو كل يوم على عنوان جديد؛ فأين الأولويات في توجهنا الإنساني لوضع الإنسان في قطب الرحى.
أقول فيما يتعلق بالإنذار الإنساني، لا تكمن مشكلتنا في الاحتباس الحراري وإنما في الاحتباس الفكري. وبطبيعة الحال فإن تطوير القدرة الاحتمالية يبدأ بقاعدة معرفية مبسَّطة لفهم الجميع، على أنْ تكون إنسانية وطبيعية واقتصادية.
عقدنا في الشهر الماضي في الأردن مؤتمراً للأمن الغذائي والتغيُّر المناخي في المناطق الجافة، دعوتُ فيه إلى استراتيجيات فعالة للتكيُّف مع التغير المناخي، وإجراءات للتخفيف من آثاره.
من الغرابة بمكان أننا في عصر تكنولوجيا المعلومات لا نستطيع التواصلَ مع البشر؛ فقبل فترة ذهبتُ إلى مخيم البقعة ترافقني مجموعة أساتذة من بريطانيا وست رؤساء جامعات أردنية، وفوجئت بمديرة المدرسة تقول: "هذه أول مرة يزورنا فيها رئيس جامعة". ودخلنا إلى الصف التاسع، بصحبة أستاذة بريطانية مولودة في الناصرة، سألت الطالبات: "ماذا تتوقعن من المستقبل؟" فأجابتها طالبة: "أريدُ أنْ أتعلم الصحافة لأخرج من هذا العالم الضيق، ولأؤكد أن هويتي الفلسطينية محترمة ومقدرة في كل مكان، وبكل اللغات". إذن، لماذا نعتقدُ أنَّ الناس غير قادرين على تحمّل مسؤولياتهم في الحوار المسؤول؟
إن التوجه إلى المشروعات من دون رؤية شاملة لا يطمئن؛ فمثلاً لو تحدثنا عن مشروع قناة البحرين (الأحمر – الميت)، هناك وعود بإنجاز دراسة حول الآثار البيئية لهذا المشروع. ولكن هل للمختصين في مجال البيئة في مجتمعنا الحق في تقييم هذه الدراسة قبل إعلان العطاءات للشروع في تنفيذ المشروع؟
وقد طالبنا في العام 1994 بخطة، وافقنا على خطوطها الأساسية، لإقامة هيئة دولية للإشراف على وادي الأردن، وحظيت بموافقة أميركية، وذلك على غرار نهر الراين وكذلك نهر الدانوب، حيث كانت الهيئة موجودة للإشراف عليه حتى في ذروة الحرب الباردة.
نتساءل سمو الأمير عن شبه غياب مفهوم (think tanks) بالمعنى المعروف في الغرب، والدور الذي تلعبه في صناعة الاستراتيجيات والسياسات. نجد أنفسنا غالباً نستشهد بما ينتجه الفكر الغربي، وليس بما ننتجه من الفكر؛ وصناعة السياسات لدينا غالباً اجتهادات فردية أكثر من كونها مستندة إلى نتاجات مفكرين مختصين. في تقديركم من المسؤول عن هذا الغياب؟
ـ لي تجربة متواضعة في العام 1979. فقد أتت إلي مجموعة من المفكرين، وكان التوجه اقتصادياً بالأساس، ومن خيرة العقول التي اشتركت في تلك الفترة يوسف الصايغ وبرهان الدجاني رحمهما الله، ووليد الخالدي. وقدَّمنا جلَّ الأوراق الاقتصادية لقمة عمَّان الاقتصادية، حيث وجّهني المغفور له أخي الملك الحسين رحمه الله إلى القيام بجولة عربية، اكتشفت خلالها أنَّ العرب لا يريدون مواجهة القضايا الدولية من حيث إنها قضايا دولية، على عكس إسرائيل التي هي مستعدة لمواجهة كل القضايا الدولية والبحث عما ينفعها.
وهنا، في الحديث عن الفكر الغربي، فإنَّكَ إنْ أخذت مساعدة من جهة غربية، أو شاركتَ بمؤسسة غربية تُتهمُ بالخيانة. لكن البحث في الفضاء الثالث والتفكير المستقل المبدع هما رافدان لخدمة الصالح العام للدولة. وغالباً ما نجد صعوبات بالغة في هذا الإطار، لأنَّه يحتاج إلى رغبة قوية في تنمية القدرات الذاتية والاعتماد على الفكر الذاتي.
تسودُ الإقليم حالة يمكن تسميتها بالبحث عن الخلاص الفردي، وذلك بالسعي إلى تحالفات غير متكافئة مع قوى في الإقليم أو خارجه. فهل برأيكم انتهى زمان الوصول إلى صيغة تحالف عربي لمواجهة شتى تحديات العصر؟
ـ أدعو إلى التحالفات بالمفهوم الموضوعي، فبالتحالف من أجل المياه والطاقة لا نرى إلا مصلحة الجميع. والتعاون الموضوعي يحتاج إلى مجلس اقتصادي ومجلس اجتماعي، يجتمعان كل ثلاثة شهور ضمن الفضاء الثالث ويقدمان توصياتهما للحكومات.
أين تفعيلُ الرأي العام العربي؟ لا أريدُ الدخولَ أكثر في موضوع الجمود العربي الحالي، ولكن هذا الجمود يؤدِّي إلى مزيد من التشظي. أين الخلوات الفكرية العربية التي تتباحث في شؤون المستقبل وقضاياه بعيدا عن الاحتفاليات والولائم؟
كنا دائما نسألُ لماذا تقدَّمَ الآخرون وتأخرَ العربُ، وحاولنا استحضارَ النماذج مثل النموذجين الألماني والياباني. ثم انخفضنا قليلاً بطموحاتنا، وحاولنا استحضار النماذج الصينية والبرازيلية ونمور شرق آسيا. ثمَّ تواضعت طموحاتنا، والآن نحكي عن نموذج تركي إيراني؛ أي نموذج قريبٌ منا ويمكننا محاكاته، أو وفق قول محمد عابد الجابري "تبيئة هذا النموذج عربياً"؛ ولكن هناك عملية انسداد للآفاق، وكأننا نعيشُ في عصر الطوائف. فهل هناك في نهاية النفق الطويل بارقة أمل كما ترى سمُّوكَ بأن تقوم قيامة العرب؟
ـ لو أمعنا النظر في المشهد العربي، لوجدنا أن هنالك الكثير من نقاط الخلاف التي أدت إلى مواقف انعكست سلباً على الواقع العربي. في حين أنفقت دول أخرى، على سبيل المثال، جزءاً كبيراً من موازنتها على التعليم.
أرى أن تيسير الأمور ينبغي أن يكون من خلال الحوار مع طرف ثالث، لأنني أجدُ أنَّ الوفود العربية، عندما تحاوِرُ طرفا ثالثاً، تسعى عادة لأنْ تقدِّم أفضل ما لديها، على العكس حينَ يكونُ الحوارُ فيما بيننا في غياب المعيار الدولي.
وأستذكر أنني في العام 1995 وجهتُ الدعوة لفيتنام وبولندا، وهما دولتان واعدتان، كل واحدة في إقليم بالشرق والغرب. ومن المفيد لنا أنْ نكسب خبرة فيتنام أو بولندا، لأنهما دولتان قام اقتصادهما بعد الحروب والاحتلالات المتكررة من دون مشورة البنك الدولي وصندوق النقد.
المقولاتُ الحكومية تتحدثُ دائما عن شدِّ الأحزمة، وتدعو إلى تحمُّلِ عبء الموازنة والمديونية التي تصلُ إلى مشارف 12 بليونا. ولو تمَّ فرض كل يوم ضرائب على المواطنين لن يتمَّ تسديد هذا العجز. إذن، كيف لدافع الضريبة أنْ يصدِّقَ بشدِّ الأحزمة. وماذا تقدِّمُ الدولة للمواطن حتى يساعدها. فالمواطن يستدعى لدفع الضريبة، ولكنه ليس شريكاً في ما وصل إليه العجز في الميزانية؟
ـ أقتبسُ من ملخص مقال لي بعنوان "الأزمة المالية العالمية والشرق الأوسط: فرصة للتعاون والأمن الإقليمي": "لا بدَّ أنْ تهدفَ الاتفاقية عبر الإقليمية للتعاون والأمن وبناء السلام وتحقيق الازدهار، وترسيخ الديمقراطية، والأمن الإنساني في المنطقة، فهذا من شأنه أنْ يحمي المنطقة من الأزمة المالية العالمية، ويقوي بناها التحتية، وقدرتها الاستيعابية، كما يؤسس لقاعدة مستقرة للتعافي بعد أن يهدأ الإعصار الاقتصادي". وقبل ذلك تحدثتُ عن أنَّ الأزمة العالمية كانت قد بدأت بانفجار فقاعات الرهن العقاري والائتمان في الولايات المتحدة.
وسؤالي الآن: أين المحتوى؟ وكما قلت، في العام 2012 يكون قد انقضى ستون عاماً على وضع الدستور الأردني. وهي مناسبة لمدّ جسور الحوار والتفكّر حول معاني العدالة والمحاسبة والرقابة المتضمنة في إطار السلطات الثلاث المستقلة.
لا يعدّ حديثي عن التنمية والرؤى في الإطار الإقليمي هروباً للأمام. وإنْ كان الهروبُ إلى الأمام في ظل واقع إقليمي مبني على أرقام وإحصائيات يعكس حالة التشظي العربي. فأين الصحوة العربية؟ وأين برامج التنمية المدروسة؟ إن الصدق مع الذات ومع الآخرين أساس لأيِّ انفتاح.
تقول الدراسات على مدار السنوات الماضية إنَّ التعليمَ العربيَّ لا يخرِّجُ باحثين، وإنما ناجحين وحَفَظة، وهذا يؤدي إلى شحِّ عدد العلماء، خصوصا في المجالات العلمية والرياضية. ما هي أزمة التعليم، وكيف يُمكنُ إصلاحُ هذا النظام المهم جداً؟
ـ تكمن المشكلة الأساسية في القرار الشعبوي المتمثل في البحث عن القاسم المشترك الأدنى، وفتح مجال التعليم للكل للوصول إلى المرحلة الجامعية. وقد تكون مصر، على سبيل المثال، سباقة في هذا المجال بوجود أكبر حشد من الخريجين والعاطلين عن العمل، نسبة إلى عدد السكان.
أما فنلندا ففيها أنجح التجارب في مجال التعليم على نطاق العالم؛ حيث يلتحق الطلبة بالجامعة في سن التاسعة عشرة، كما يلتحق الطلبة بانتظام بعد المرحلة الإلزامية بما نسميه نحن التعليم المهني، وهو في العُرف السائد في مجتمعنا لا يرقى إلى مستوى التعليم الجامعي!
لماذا لا نعيد النظر في مفهومنا لامتحان الثانوية العامة، والتعليم المهني، وامتحانات القبول الجامعي، وكذلك الجامعات الريعية؛ "مصانع التعليم". إذا كنا نتعامل مع فتيتنا كسلع، ونبرمجهم كسلع، فلماذا نلقي باللوم على أنفسنا لأننا لم نكن خلاقين ومبتكرين في أسلوب توجيههم؟
نحتاجُ إلى مصارحة ومكاشفة جديدة. وأنا شخصياً من الذين يتحسرون على إنهاء عبارة "وزارة المعارف"، ذات المدلول العميق، إذ تعني تداخل المعارف والنظم. الآن، كل واحد منا ينظر إلى مجال تخصصه فقط، أو ما يعتقد أنه تخصصه.
إن مراحل التعليم بحاجة إلى تقييم وفرز، بحيث لا تكون الشهادة الجامعية غاية في حد ذاتها. لذلك فإن النظام التعليمي الجامعي بحاجة إلى إصلاح جذري.