جاءت التطورات التي شهدها العالم، والتي شهدتها البلاد العربية، على الخصوص، خلال العشر السنوات الماضية فاجعة لأمريكا والكيان الصهيوني، وكانت فاجعة أكثر للدول التي أسمت نفسها بدول الاعتدال العربي، ومن ثم كانت نكسة فكرية ونظرية للكتاب والمفكرين السياسيين الموالين لأمريكا ولليبرالية الاقتصادية العولمية. وقد ساءهم أكثر من الفجيعة الناجمة عن الإخفاقات والأزمات والفضائح ما أصاب جبهة المقاومة والممانعة من تغيير في موازين القوى في مصلحتها.
اتسمت التطورات المذكورة عالمياً بتراجع النفوذ الأمريكي وفشل السعي إلى إقامة نظام أحادي القطبية بزعامتها المنفردة. فقد برزت مجموعة من الأقطاب الدولية مثل الصين وروسيا، وأخرى إقليمية مثل إيران وتركيا والبرازيل وفنـزويلا وسورية وجنوبي أقريقيا.
ثم توجت هذه التطورات بالفشل العسكري والأمني للاحتلالين الأمريكيين لكل من العراق وأفغانستان، وبهزيمة العدوانين الصهيونيين (بمشاركة أمريكية سياسية نشطة) في حربي تموز 2006 في لبنان، و2008/ 2009 في قطاع غزة.
ثم عصفت الأزمة المالية عام 2008 بالاقتصاد الأمريكي والغربي، وأطاحت، عملياً، بالعولمة أرضاً. وأسقطت كل الأوهام التي ترعرعت حول النظام العالمي الاقتصادي-المالي العولمي. وهاهي ذي تذر أزمة عالمية جديدة تطلّ برأسها من الولايات المتحدة بسبب المستوى الذي وصلته الديون التي اقتربت من خمسة عشر تريليوناً.
من هنا ما إن أطلّ عام 2011 حتى كانت أمريكا والكيان الصهيوني والغرب عموماً في حالة من الضعف والشلل والإرباك لم يسبق لها مثيل منذ قيام النظام الرأسمالي الإستعماري العالمي، أو على التحديد منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين حتى اليوم.
ذلكم هو السبب رقم واحد في اندلاع الثورات العربية التي سرعان ما أطاحت بنظامي "الاعتدال العربي": التونسي والمصري. فسقوط نظام حسني مبارك كان سقوطاً للنظام العربي الذي ساد خلال العشر السنوات الماضية. وكان إيذاناً ببروز مرحلة جديدة أو بدور مصري جديد (مهما تأخر).
هذا الضعف الذي ينتاب النفوذ الأمريكي ودوره العالمي والإقليمي في كل مكان، وما صاحبه من حالة تعدّد أقطاب من دون أن ينتظمها نظام متعدّد القطبية، أدّيا إلى حالة من الفوضى والفراغات التي تسمح لدول صاعدة وثورات شعبية أن تتقدّم الصفوف وتفرض نفسها. وما بروز البرازيل وتركيا وعدد من الدول الأصغر إلاّ الدليل على هذا الاختلال الذي اتسّم به الوضع العالمي الراهن. وكذلك ما نجم عن دور لجبهة المقاومات والممانعات خلال الفترة نفسها.
من يتابع تصريحات هيلاري كلينتون خلال عام 2011 يلحظ الارتباك والضعف. ولكنها تحاول مداراة ضعفها بتصريحات تستهدف "إثبات الوجود" وإشعار العالم أنها ما زالت قادرة على توجيه الأحداث، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى أن يتوهموا بأن أمريكا ما زالت أمريكا القديمة أو حتى أمريكا كلينتون (بيل) أو حتى جورج دبليو بوش الابن. وقد أصبح هذا الوهم أحد مصادر قوّة أمريكا. وذلك من خلال استقواء قوى محلية بها في الصراعات الداخلية.
طبعاً ما قام على الوهم سرعان ما سيتبدّد بسبب افتقاره إلى القوّة الحقيقية.
يلحظ من خلال تصريحي هيلاري كلينتون وباراك أوباما في 18/ 8/ 2011 في الموضوع السوري بأنهما صدّقا، وهم الآخرين بأمريكا، فاندفعا للتدخل المباشر والسافر من خلال الموقف ومن خلال العقوبات. وهذان لا يسمحان بتغيير واقع الضعف الذي منيت به أمريكا على المستويات الداخلية والعالمية والإقليمية. والدليل أنها تدخلت في ليبيا وإذا بها تهرب لتحوّل التدخل لحساب الأطلسي، وبدوره راح يدور حول نفسه غير قادر على الحسم بأي اتجاه عدا تهافت بعض الواهمين، أو المشبوهين، في الترامي على أعتاب أمريكا وأوروبا. وذلك بالرغم من جريمة التدخل بحد ذاتها، وبالرغم مما لحق بالمدنيين من خسائر بالأرواح والممتلكات في ظل طائرات الناتو التي تركت، في أغلب الحالات، قوات القذافي تتحرك على الأرض بحريّة كأن لا طيران فوقها.
ولكن إذا كان تقدير الموقف يتجّه إلى التأكد من ضعف أمريكا وعجزها، ومن ثم فشلها شبه المؤكد فإن من الضروري إدانة كل تدخل سياسي أو عسكري أو مالي أمريكي فهو كارثي على الشعب حيثما حلّ. ويشهد على ذلك الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان والدعم الأمريكي للعدوان الصهيوني والسياسات الصهيونية.
والسؤال بأي حق، وبناء على أي قانون دولي تسمح أمريكا لنفسها ويلحق بها الإتحاد الأوروبي بإنزال عقوبات على بلد مستقل، فالسياسات الأمريكية وعقوباتها وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مخالفة للقانون الدولي والمواثيق الدولية ومعادية للشعوب ومصالحها العليا.
ومن ثم لا ينبغي لأي فرد أو قوّة سياسية أو دولة قبول ما تنـزله أمريكا من عقوبات وتحدثه من تدخل في شؤون الدول الأخرى.
ويكفي أن يُقال هنا إن أمريكا بهذا تحوّل العلاقات الدولية إلى شريعة الغاب؛ الأمر الذي يوجب الوقوف الحازم ضد سياساتها التي تبث السمّ الصهيوني في بلادنا العربية حيثما نفثت.