كيف يمكن حماية المسيحيين في دول الشرق والعالم العربي بشكل خاص؟ هل بإصدار قوانين وتشريعات، أو توفير حماية للكنائس والأديرة ودور العبادة، أو تأمين حراسات في الأماكن العامة والأحياء السكنية، لاسيما في المناطق التي توجد فيها كثافة سكّانية مسيحية؟ هذه الأسئلة وغيرها تواجه الباحث، بل تؤرقه أحياناً في السبيل الأضمن لحماية المسيحيين، لاسيما بعد استهدافهم، وخصوصاً في العراق، والى حدود معينة في مصر، ناهيكم عن احتدامات في لبنان، خصوصاً في فترة الحرب الأهلية وما أعقبها من هجرة بلغت نحو 700 ألف مسيحي، ولعل تصويت سكان جنوب السودان في الاستفتاء الذي جرى في 9 كانون الثاني (يناير) 2011 لصالح الانفصال بنسبة 99% بمن فيهم من مسيحيين الاّ لشعورهم بالتمييز. كما اتّخذت عملية تهجير المسيحيين في فلسطين من جانب اسرائيل بُعداً وطنياً، لاسيما وهي تسعى لإفراغها من مسيحييها، لكي تزعم أن الصراع ديني بين اليهود والمسلمين، وليس صراعاً وطنياً بين محتل استعمار استيطاني وبين شعب مهضوم الحقوق ومُستلب.
أمّا في العراق وهو ما سنحاول التركيز عليه فقد بدأت أولى محاولات الهجرة المسيحية في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، وتعاظمت في فترة الحرب العراقية- الايرانية في الثمانينيات، وكانت ظاهرة ملفتة في فترة الحصار الدولي 1990-2003، ثم اتخذت "إجلاءً " جماعياً بسبب حوادث العنف والارهاب وتفجير الكنائس بعد الاحتلال، وهنا يتداخل السبب الموضوعي بالسبب الذاتي والعامل الخارجي بالعامل الداخلي، والظرف السياسي بالظرف الاقتصادي.
إن واحداً من أسباب الهجرة المسيحية من البلدان العربية هو أعمال العنف والتفجير، فضلاً عن الخوف من طغيان "الأغلبية العددية" وهضم الحقوق وعدم الاعتراف بمبادئ المساواة، ناهيكم عن تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية، مقابل "الجاذبية الغربية" حيث الحقوق والحريات، فضلاً عن الائتلاف مع محيط ديني غير معادي.
وإذا كان ثمت نقص قانوني وتشريعي، وهناك تجاوزات وضغوط، فضلاً عن تنامي تيار "إسلاموي" إستئصالي، فإن ضعف كيانية الدولة وانعدام هيبتها وتعدّد مراكز النفوذ فيها، وعجزها عن تلبية وظيفتها الأساسية التي تتلخص في حفظ أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام، هو سبب مهم آخر من الأسباب في اضطرار المسيحيين للهجرة، ولعل مثل هذا الغياب لدور الدولة سهّل مهمة القوى الارهابية والتكفيرية، ناهيكم عن القوى الإجرامية، لكي تبسط نفوذها كلّما غابت الدولة عن ذلك.
يضاف الى ذلك الانقسامات داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كانت وما تزال عرضة للمحاصصة، فإذا كان وزير الدفاع سنيًّا فوزير الداخلية شيعياً ووزير الأمن الوطني ضمن لعبة المحاصصة، وكذلك مدير المخابرات مرشح من هذا الطرف أو ذاك، وكذا الحال مستشار الأمن القومي، لاسيما بعد انتهاء العقد الموقع مع بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، الذي ظلّت عقوده سارية على الرغم من تبدّل حكومات عديدة.
وما زال الجهاز القضائي يعاني من الضعف وأحياناً من الضغوط التي تمارس عليه، على الرغم من كفاءة العديد من القضاة ومحاولات مجلس القضاء الأعلى أن يلعب دوره على هذا الصعيد، لكن الظرف السياسي والأمني يبقى متحكّماً الى حدود كبيرة. وفي بعض الأحيان يعتقل المنفّذون حسبما تذيع أجهزة الاعلام الرسمية، لكن التحقيق يأخذ مجرى آخر أو لا نعد نسمع به وأحياناً يهرب المرتكبون وتضيع آثار الجريمة، كما حصل لمقتل المطران الكلداني رحّو. وتتسرب أخبار يشكّ بها أقرب المقربين عن أحكام لا أحد يعرف كيف ومتى صدرت وأين تم التنفيذ؟!، ناهيكم عن تواطؤ أو تستّر مع هذا الطرف أو ذاك.
وقد أعلنت الحكومة العراقية أنها ألقت القبض على منفذي جريمة الهجوم على كنيسة سيّدة النجاة في بغداد التي راح ضحيتها 15 مدنياً و4 رجال شرطة وعشرات الجرحى في 31/10/2010 فهل سيتم اكتشاف معالم الخطط الاجرامية الارهابية؟
ما زال الفكر التكفيري، يجدُ تربةً صالحة في العراق، خصوصاً في ظل أوضاع الفقر والأميّة والتخلّف، فضلاً عن هضم الحقوق على المستوى الداخلي والدولي. وقد أنتج هذا الفكر تنظيمات سياسية، مثلما امتلك أذرعاً عسكرية طويلة ولديه امكانات مالية كبيرة، وظلت محاولات التصدّي له أمنية في الغالب دون معالجة أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وإضافة الى الفكر التكفيري- الالغائي، لاسيما بأبعاده العالمية العابرة للحدود والقوميات والأوطان، فإن الأجندة الكونية جعلت القاعدة جيشاً عالمياً فكرياً على أقل تقدير، مع وجود لا مركزية تنظيمية في الادارة والتخطيط والتنفيذ، فهنا اليوم في بغداد وغداً في الموصل وثالثة في كركوك ورابعة في الاسكندرية وخامسة في ألمانيا أو أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا وهكذا.
إن وجود هذا التيار التكفيري كان عامل ضغط على تيارات اسلامية متطرفة ومتعصبة أخرى، وذلك في منافسة محمومة أو مزاودة بالشعارات أحياناً ، لاسيما في العلاقة مع الآخر، فهي حتى وإنْ لم تكن منخرطة في الارهاب الدولي، فإن البيئة المتشددة الإقصائية، تساعد على اندفاع بعض عناصرها نحو تدمير الآخر، والآخر في دولنا هو المسيحي، لأنه أقلية، وهو الأضعف والمغاير، والاّ كيف يمكن تصوّر أن نحو50 تفجيراً تم تنفيذها ضد كنائس وأماكن وجود مسيحيين؟ وضد الأيزيديين والصابئة وغيرهم من الأديان الأخرى في العراق، للأسباب ذاتها.
إن الفكر الالغائي يدّعي احتكار الحقيقة وهو يرتاب من كل آخر، وبالنسبة له " كل غريب مريب"، والغريب ليس الأجنبي حسب، بل هو من غير دينه أو قوميته أو حتى مذهبه، ناهيكم عمّا ترسّخ في التقاليد البدائية والموروث السلبي والذاكرة الجمعية إزاء الآخر، بمن فيهم من أهل الكتاب أو غيرهم، وهو ما ينبغي الاعتراف به، بل مواجهته.
لقد كان حلّ الجيش العراقي وحلّ الأجهزة الأمنية وفتح الحدود، عاملاً مساعداً في انتقال الارهابيين، وتداخلت مهمات إنهاء الاحتلال، مع الحملات التكفيرية والارهابية بحجة مقاومة الاحتلال، حيث تشابكت بعض الأجندات، مستفيدة من انقسام البلاد الى خنادق في ظل التمترسات الطائفية، التي استفاد منها أمراء الطوائف، إضافة الى صراعات إثنية بخصوص كركوك، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لاستهداف الفئات الضعيفة، خصوصاً وأن كل طرف يتهم الطرف الآخر، حيث يعتبر المسيحيون الحلقة الأضعف، فهم دون حماية من أحد: لا من سلطة الدولة ولا من الميليشيات ولا من دول الجوار وليس لديهم قوى ومجمّعات كبرى، فضلاً عن توزّع بعض انتماءاتهم حيث تتجاذبهم الكثير من مراكز النفوذ تلك التي تضطرهم للهجرة، في ظل غياب سند داخلي أو خارجي وحليف يأخذ مصالحهم بنظر الاعتبار، وليس هدفه الاستحواذ عليهم أو توظيفهم لأغراضه السياسية.
وقد لعب الشحن الاعلامي، لاسيما لعدد من القنوات والمحطّات والصحف والمواقع الالكترونية، باسم "الاسلام السياسي"، والتبشير لفكر آحادي إلغائي دوراً سلبياً كبيراً في انتشار مفاهيم من شأنها النظر الى التنوّع وكأنه "انشقاق" أو "تمزيق" للوحدة الوطنية، أما الرضوخ وقبول الهيمنة لما هو سائد، فهو مدعاة للوطنية، ولعل النظر الى " الاقليات" واستخدام هذا المصطلح ليس سوى قبول "حكم الأغلبية" دون الأخذ باعتبارات التمايزات والتنوّع والتعددية والخصوصية ومبادئ المساواة في الدولة العصرية.
وحتى رد الفعل العالمي إزاء قضايا العنف والارهاب في العراق واستهداف المسيحيين فقد كان بارداً، وعلى الرغم من استنكار البابا بنيديكتوس السادس عشر وطلبه تقديم الحماية لهم، الاّ أن الكثير من الأصوات ارتفعت تندّد بما أسمته "التدخلات الخارجية"، وهو ما حصل للمسيحيين في العراق مثلما حصل أيضاً لأقباط مصر ومسيحييها، وخصوصاً بعد تفجيرات الاسكندرية، والأمر ذاته بالنسبة للبلدان الأخرى، التي استقبلت الجرحى ومنحت بعضهم اللجوء السياسي، فقد اندفع بعض المتصدّرين للقول: أنها مؤامرة كبرى حين تقبل بعض الدول العظمى " لجوء" المسيحيين، في ظل حملة محمومة من مزاودات بالوطنية والتمسك بالارض وتحدّي المصاعب والنوائب والتشكيك بكل مساعدة انسانية.
وإذا كانت بعض الدول العظمى تستقبل أعداداً من المسيحيين للعلاج أو للإقامة أو اللجوء فإن ذلك واحدٌ من واجباتها، حتى وإن كانت لأهداف خاصة، فلعل فيه بعض التخدير بعد وخز الضمير، ويبقى بالنسبة لهذه البلدان مصالحها، فالنفط واسرائيل أهم من أية ارتباطات بالمسيحيين أو غيرهم. وهذه ليست دعوة لتشجيع المسيحيين على الرحيل والهجرة، بقدر تفّهم الأوضاع الانسانية والأمنية لكل شخص أو لكل حالة، طالما لم تتوفر بيئة سليمة لحمايتهم وصون حقوقهم الانسانية.
وإذا كان من حماية للمسيحيين في الشرق، فلعل الأمر يحتاج إلى عمل طويل ومضني وإلى ممارسة ضغوط من أجل قيام أنظمة ديمقراطية تأخذ بمبادئ المساواة والمواطنة الكاملة واحترام حقوق الانسان والتنوّع الثقافي والخصوصية الدينية والقومية والتعددية للمكونات المختلفة.