لقد عاشت مصر دولة قبطية لمدة ستة قرون، وعاشت دولة إسلامية لمدة خمسة عشر قرناً، وفي كلتا الحالتين تم البناء على منجزات الحضارة الفرعونية العريقة التي عاشت حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد تألقت فيها دولة الفراعنة بعظمتها الخالدة عبر العصور.
وإذا كانت دعوة السيد المسيح عليه السلام قد بنيت على العقيدة اليهودية التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلام، فإن الإسلام بني على العقيدتين اليهودية والمسيحية ولذلك جاء القرآن الكريم ليؤكد هذا المعنى بقوله )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطلعنا غفرانك ربنا وإليك المصير( الآية 285 سورة البقرة. ثم فسر ذلك النبي محمد (r) بقوله "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسَنه وأجملَه، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
وهناك أقوال للسيد المسيح (u) في معنى مشابه إنه جاء ليكمل ويواصل مسيرة العطاء لأنبياء بني إسرائيل. ويروي أن أنجيل برنابا تحدث عن النبي أحمد عليه السلام، وإنه سيأتي بعده وهو ما أشار إليه القرآن الكريم )ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( الآية 6 سورة الصف.
ولقد فتح المسلمون مصر بقيادة عمرو بن العاص عام 641م، وكان ذلك إيذاناً بانتقال الإسلام لمصر، التي أصبحت ركيزة هامة من ركائزه على مر العصور اللاحقة، ورحب أقباط مصر بهذا الفتح في ذلك العصر، لأن الرومان الذين كانوا مستعمرين لمصر رغم اعتناقهم للمسيحية في مرحلة لاحقة أذاقوا الأقباط أشد العذاب، وسوء المعاملة، حتى أن التاريخ القبطي سجل ذلك فيما أطلق عليه عصر الشهداء، وذلك في عهد الإمبراطور دقالديانوس
الإسلام دين التسامح والمسيحية دين المحبة، وكلاهما يكمل الآخر، أما مصر فهي صانعة الحضارة عبر عصور رغم ما واجهنه من تدهور في بعض مراحل تاريخها.
و نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة في السنوات الخمسين الاخيرة فقد هاجر عدد من أبناء الشعب المصري من الأقباط والمسلمين وانتشروا في أمريكا وكندا وأستراليا وأوروبا والدول العربية والآسيوية، ولكن جوهر ولائهم وحبهم لمصر لم يتغير.
إنني أوجه من هذا المنبر تحية لكل قبطي مصري، ولكل مسلم مصري في ذكرى ميلاد السيد المسيح الذي هو نبي الأقباط والمسلمين على حد سواء، وهو مخلص المسيحيين، وتعاليمه فيها أيضاً خلاص للمسلمين، ونفس الشيء في تعاليم النبي محمد (r) إنها تعاليم المحبة والسلام والاعتدال وحب الوطن، إنها الأمانة والاستقامة، إنها كما جاء في المقولة الشهيرة المنسوبة للسيد المسيح "أعطـوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله "، وما جاء في الإسلام من آيات وأحاديث توضح أن الإسلام دين ولا يسعى للدولة بمعنى دولة لاهوتية، وإن كان يسعى لدولة مدنية، كما أوضح ذلك الشيخ علي عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم والدكتور عبدالمعطي بيومي في كتابه الإسلام والدولة المدنية وغيرهما من علماء الأزهر الشريف، وكما شرحت بالتفصيل ذلك في كتابي "الإسلام والمسلمون في القرن الحادي والعشرين" الصادر من الدار اللبنانية المصرية بالقاهرة عام 2007.
إن الدستور الرئيس للدولة المدنية في الإسلام هو "دستور المدينة" الذي جعل المواطنة هي الأساس وليس الدين، وأكد ذلك القرآن الكريم في مفهومه للحرية الدينية بقوله "لكم دينكم ولي دين"، وعندما قامت ثورة 1919 في مصر رفع المصريون الهلال والصليب معاً، وخطب رجال الدين المسيحي في الأزهر الشريف، وخطب رجال الدين الإسلامي في الكنيسة.
والتحية للأقباط في عيدهم تذكرنا بذكريات شخصية حيث تعلمت - وأنا مسلم - في مدرسة بالقرية ملحقة بكنيسة، وكان الأستاذ القبطي يحضنا على قراءة القرآن وأداء الصلاة، وعندما التحقت بالمدرسة الإعدادية وكان اسمها "المدرسة الإسلامية الخيرية" في أسيوط، كان الطلاب والمدرسون من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وكان لي قدوتان أحدهما مسلم أزهري وعالم جليل هو الشيخ عبدالرشيد صديق والأخر قبطي هو أستاذي في المدرسة الإعدادية هو سعد ملك قزمان، وكان كاثوليكي المذهب، رغم أن كل أسرته أقباط أرثوذكس، وكان أقرب لنموذج الملائكة من البشر، ولقد ظللت التمس النصح والإرشاد من كليهما حتى توفاهما الله. وفي الجامعة أشير لأستاذ متميز هو الدكتور بطرس بطرس غالي الذي تتلمذت عليه، وظللت على صلة وثيقة طوال حياتي الجامعية ثم الدبلوماسية حتى المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو نعم العالم الإنسان الذي له إحساس وطني وإنساني قوي والأستاذ سمعان فرج الله وغير ذلك كثير من أقباط مصر ومسيحييها لا يمكن ذكرهم جميعاً في هذه المقالة القصيرة، ولكن للجميع محبتي وتهنئتي بذكرى ميلاد السيد المسيح. عليه السلام.