عرفت المنطقة العربية عبر عصور التاريخ تنوعاً في الأديان والمذاهب والأعراق، وأكد القرآن الكريم على هذا التنوع، ونهي البشر عن السلوك غير السوي نحو المذاهب والأديان والأعراق الأخرى المختلفة، مؤكداً ذلك بوضوح وقوة تتمثل في أربع حقائق:
الأولى: إن التنوع هو آية من آيات الله، اقتضته حكمته بقوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، سورة الروم- الآية (22).
الثانية: إن التنوع هذا إعمال لإرادة الله سبحانه وتعالى بقوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)، سورة هود – الآية (118 – 119).
الثالثة: رفض الإكراه لاعتناق الدين في قوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، سورة يونس – الآية (99).
الرابعة: الإيمان بأن كافة الأديان والعقائد هي أديان ويجب احترامها لقوله تعالى: (قل يا أَيها الكافرون لا أَعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أَعبد * ولا أَنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين) سورة الكافرون – الآية (1-6)، وقوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، سورة الأنعام – الآية (108).
ومن هذا المنطلق الجوهري للفكر الإسلامي الصحيح، ننظر لكثير من سلوكيات وفكر بعض المسلمين المعاصرين الذين يقومون بتصرفات لا تعكس جوهر الإسلام، بل تتعارض تعارضاً كلياً مع الشريعة التي أوضحها الله جلت قدرته، ونواميس الكون بإيجاد التنوع كأداة لتحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: التوازن في الكون من خلال التنوع بين البشر بعضهم بعضاً، وبينهم وبين الكائنات الأخرى.
الثاني: إثراء الأرض وزيادة الخلق بين كل نوع من الأجناس (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)، سورة الذاريات – الآية (49).
الثالث: التكامل، فلكل فصيل من الخلق بشر أو غير بشر دوره يكمل به الفصائل الأخرى ويحقق تعاقبه واستمراريته. فالليل والنهار يكمل بعضه بعضاً، لقوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون)، سورة القصص – الآية (71). وقوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون)، سورة القصص – الآية (72). ولعل من بالغ الدقة في استخدام الكلمات وهذا من معجزات القرآن اللفظية والدلالية، استخدم كلمة السمع في الليل والإبصار في النهار.
إذاً وجود أصحاب الديانات الأخرى هو حكمة من حكم الله، وسنه من سننه، فإذا سلك المسلم غير ذلك السلوك، فهو يتحدى إرادة الخالق ويجادل في حكمته ويتصرف بما يتعارض مع النواميس التي وضعها الله للكون.
من هذا المنطلق الفلسفي لحكمة الدين، ننظر للسلوك في بعض الدول العربية المعادي للمسيحيين، حيث يقوم فريق المسلمين بأعمال التفجيرات في كنائس المسيحيين أو يطعنون في أهليتهم وانتمائهم أو يسعون لإثارة الفتن والبغضاء بين طوائف المجتمع وهذا ينطبق على العراق ولبنان ومصر والسودان وغيرها.
ولاشك أن النبي الكريم كان خير من فهم القرآن وحكمة الله وإرادته، وإن صحيفة المدينة التي عاهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أهل يثرب من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم هي النبراس الذي يجب أن نهتدي به، وهي الدستور الذي ينبغي أن نسير على هديه والذي يعتمد مبدأ المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات، ومن يخرج على ذلك فهو آثم قلبه ويستحق العقاب في الدنيا وفي الآخرة. وفي الدنيا من خلال ما يعرف بحد الحرابة وإثارته للفتن والقلاقل بين أبناء الوطن الواحد، وفي الآخرة لأنه خرج عن إرادة الله التي عبر عنها في القرآن الكريم في الآيات التي أشرنا إليها. ولهذا قال الفقهاء الأجلاء بالنسبة لغير المسلمين (لهم مالنا وعليهم ما علينا)، ولم ينتقصوا لأي فريق من غير المسلمين أية حقوق من الحقوق المدنية، وهو ما أصطلح على تسميته في عصرنا الحاضر بحقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وبمناسبة العام الميلادي الجديد فإنه -من وجهة نظر- بخلاف ما يراه البعض، ينبغي تقدير هذه المناسبة واحترامها بما يليق، وإن ذلك من قيم الإسلام ومبادئه الأصيلة لقوله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله)، سورة البقرة – الآية (285)، فإذا احترمنا ذكرى ميلاد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وبداية العام الهجري، فلابد أن نحترم ذكرى ميلاد السيد المسيح الذي هو نبي الإسلام كما هو نبي المسيحية، وذكرى ميلاد سيدنا موسى الذي هو نبي الإسلام كما هو نبي اليهودية، وهكذا.
إنني كمسلم، أشعر بالأسى والحزن لسلوك بعض المسلمين في بعض البلاد الإسلامية المعادة لأصحاب الديانات والعقائد والمذاهب الأخرى، والسعي لطردهم تحت أية دعاوى أو مقولات فاسدة، وفضلاً عن كونها ضد جوهر الإسلام وتعاليم الله فهي ضد المسلمين أنفسهم لو تفكروا قليلاً فإن الآخرين سيتصرفون بالمثل لو أفرغنا – فرضاًً- المنطقة العربية من غير المسلمين، فإن الآسيويين أو الأوروبيين سيفعلون بالمثل، ولهم الحق – من الناحية الفلسفية على الأقل – ونحن إذ ندين الإدعاء بأن أوروبا مسيحية فقط، فإننا ندين بنفس القوة الإدعاء بأن الدول العربية مسلمة فقط، وتؤكد على أهمية احترام الحريات الدينية في أوروبا، كما في آسيا أو في العالم العربي والإسلامي.
والعروبة كنظرية سياسية لا تؤمن بالعنصرية ولا التمييز العنصري، ولذا فإن دعاة القومية العربية أكدوا دائماً بأنها ظاهرة ثقافية وليست عرقية أو دينية أو مذهبية، وعندما ظهرت المذاهب والدعوات الشعوبية في الحضارة الإسلامية كان ذلك إيذاناً بحدوث التغير من خلال بروز حقيقيتين متناقضتين مع جوهر الإسلام وهما حدوث التفكك المؤدي للانهيار، وحدوث الصراع داخل الدولة التي أقامها الإسلام بعد انتشاره في العديد من الأقطار.
والمسيحيون العرب أو اليهود العرب هم عرب، ولقد أعجبني كثيراً ذلك التحليل العلمي القيم الذي كتبه مهاجر مسيحي لبناني هو الأستاذ رجاء مطر بعنوان: (المسيحيون العرب هم عرب)، وتلقيت هذا البحث من أحد الأصدقاء عبر البريد الإلكتروني وكان يرد فيه صاحبه على الضغوط والتشكيك الذي يتعرض له المسيحيون في لبنان، وبالطبع يمكن أن نقول إن ذلك ينطبق على جميع الدول العربية، وقمت بنشر هذا البحث في "مجلة دراسات إستراتيجية" العدد (13) – المجلد الرابع "شتاء 2008"، التي كان يصدرها مركز البحرين للدراسات والبحوث (سابقاً) وذلك بعد استئذان صاحبها الذي وافق مشكوراً على ذلك.
والآن ونحن في مستهل عام جديد هو عام 2011 الميلادي، وقبله بأسابيع قلائل بدأ العام الهجري الجديد عام 1432، فما أحرانا كعرب من مختلف الأديان والعقائد والمذاهب، أو كما كان يطلق عليه العلماء الأفاضل في العصر السابق "الملل والنحل"، أن نعيد اللحمة لمجتمعاتنا من خلال التمسك بالتعدد والتنوع، بما يثري مجتمعاتنا، وحضارتنا، ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ولقد آمن المسلمون الأوائل بهذه الحقيقة الدينية السياسية المعبرة عن الإرادة الإلهية، ولذلك دعا الخلفاء في مستهل ظهور الإسلام لاحترام دور العبادة للمسيحيين واليهود، وأقول لغيرهم بمقتضى منطوق الآيات القرآنية السابقة، وتحدثوا عن مضمون القانون الإنساني قبل أن يظهر هذا المعنى في الفكر القانوني والحقوقي الحديث في القرن العشرين. ولنا أسوة حسنة في سلوك الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما رفض الصلاة في الكنيسة عند فتح مدينة القدس خشية أن يفهم المسلمون ذلك خطأ بعد عصره ويقولون إن أمير المؤمنين صلى هنا ويقومون بالاستيلاء عليها.
ومع مطلع العام الجديد، فإنني – كمسلم – أتوجه بالتهنئة لكل أصحاب الأديان وبخاصة الأخوة المسيحيين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم، وادعوا الجميع لتفعيل مبدأ المواطنة الحقة، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعليه السلام في دعوته لاحترام الآخر "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".