يتميّز خطاب أي رئيس أميركي عن "حال الاتحاد الأميركي" مطلع كلّ عام بأنّه خطاب الأجندة أو الإستراتيجية التي سيعتمدها الرئيس وإدارته، لفترةٍ من الزمن، على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهو خطاب ينتهي عادةً بالتأكيد على "قوة الاتحاد" وعلى السعي لتعزيز هذه القوة. أي هو عملياً تطبيقٌ لمقولة: (في الاتحاد قوَّة).
وممّا يلفت الانتباه أنّ الدستور الأميركي يمنع الحكومة الاتحادية المركزية من التدخّل في صلاحيات الولايات الخمسين التي يتألف منها "الاتحاد الأميركي"، لكن هذا الدستور لا يمنع إطلاقاً الحكومة المركزية (الإدارة) من التدخّل في شؤون الدول الأخرى!.
إنّ "واشنطن" هي الآن طرَفٌ مباشر ومتدخّل في معظم القضايا والأزمات العربية الراهنة، فهي التي ألغت على سبيل المثال مرجعية الأمم المتحدة للصراع العربي/الإسرائيلي وجعلت من نفسها المرجعية والحَكم، في حين أنّها طرف مباشر داعم لإسرائيل في هذا الصراع.
و"واشنطن" أيضاً هي الآن قوة عسكرية محتلة في العراق، وهي طرف مباشر في تقرير مصيره الوطني والسياسي. وهي كذلك الآن في تقريرها لمصير السودان ووحدة أراضيه ومستقبل الأوضاع السياسية فيه. كما هي (واشنطن) طرف مباشر في ما حدث ويحدث في لبنان من تطورات سياسية وأمنية، وقد صل الأمر إلى حدّ تدخّل السفيرة الأميركية في بيروت في محاولة التأثير على بعض النواب من أجل دعم إعادة ترشيح سعد الحريري لرئاسة الحكومة بعدما أدّى التدخل الأميركي أصلاً إلى تعطيل المبادرة السعودية/السورية المشتركة.
"واشنطن" هي طرف أيضاً في الخلاف الفلسطيني/الفلسطيني، وهي عرّاب الاتفاقات والمعاهدات التي حصلت بين مصر والأردن ومنظمة التحرير مع إسرائيل، والضامن لاستمرار حكومات عربية تدعم هذه المعاهدات. وهي الآن في اليمن وأزماته السياسية والأمنية، كما هي في عموم القضايا العربية التي تتعلّق بالأمن وبالتحالفات الإقليمية، بل حتّى في أسعار النفط ونسَب تصديره!.
تُرى، هل يقبل حاكم أي ولاية أميركية بهذا المستوى من أنواع تدخّل "الحكومة الأميركية المركزية" في شؤون ولايته "الأميركية"؟!.
هذا التدخل الأميركي في شؤون البلدان العربية وقضاياها هو بمعظمه تدخل سلبي جلب ويجلب ردود فعل سلبية على السياسة الأميركية ومصالحها في المنطقة.
فما يحدث بالخفاء والعلن في المنطقة العربية، منذ مطلع هذا القرن، من تهيئةٍ سياسية وأمنية لإعادة خلط كيانات المنطقة وفرزها من جديد على أشكال مختلفة عمَّا هي عليه الآن نسبياً، هو أمرٌ معنيّةٌ به أولاً وأخيراً الإدارات الأميركية المتلاحقة.
وهذا الخلط السياسي والأمني، المنشود للمنطقة، يفسّر ما يحدث الآن فيها على جبهاتٍ عديدة ومع جهاتٍ مختلفة. فمن استفتاء حول جنوب السودان يعطي للجنوبيين حقَّ اختيار الانفصال عن الوطن، إلى مشاريع مطروحة حول مستقبل العراق وفق صيغ فيدرالية، مروراً بإثارة قضايا الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة، وصولاً لاستخدام العديد من الجماعات ذات الأسماء الدينية أسلوب العنف المسلّح بحيث لا يكون هناك وضوح وتمييز ما بين المقاومة المشروعة (والمطلوبة ضدّ الاحتلال)، وبين الإرهاب المنبوذ الذي يستبيح كلّ شيء عدا أصحابه ويؤدي إلى مزيدٍ من الفتن والصراعات الداخلية.
وقد تصاعدت، مع هذا الخلط السياسي والأمني في المنطقة، الطروحات الأميركية والغربية عموماً عن المسألة الديمقراطية (وهي دعوة حق) لكن بشكلٍ يتزامن مع أسلوبٍ باطل وهو إثارة مسألة "حقوق الأقليات" في الأوطان العربية، بحيث يصبح هذا الطرح مزيجاً من الدعوة للديمقراطية ولإقامة "تعدّدية الكيانات" في البلد الواحد، أي المطالبة بإقامة تعدّديةٍ سياسية لكن في إطار "صيغ فيدرالية" لها.
تُرى أيضاً، لِمَ هذا التناقض الأميركي بين السياسة الحالية وبين خلاصاتٍ هامّة من تاريخ التجربة الأميركية. فاستقلال أميركا عن التاج البريطاني كان حصيلة مقاومةٍ أميركية مسلحة قادها جورج واشنطن. كذلك، في التجربة الأميركية أنَّ أبراهام لنكولن قاد الجيش الاتحادي الشمالي ضدَّ انفصال الجنوب الأميركي، ولم يكن موقف واشنطن آنذاك قائماً على حقّ "الجنوب الأميركي" بتقرير مصيره !!
أيضاً في التجربة الأميركية، أنَّ قادة 13 ولاية اجتمعوا في فيلادلفيا عام 1787 لأشهر عديدة وهم يتحاورون حول كيفية تحقيق الاتحاد والتكامل بين هذه الولايات، عوضاً عن الشرذمة فيما بينها والصراعات التي عصفت بها عقب الاستقلال الأميركي.
فلِمَ تمنع واشنطن الآن أيّة محاولة لتطوير صيغ التكامل العربي، بل بالحدّ الأدنى التضامن العربي، وتشجّع على تجزئة الكيانات القائمة عوضاً عن الاتحاد فيما بينها؟
إنَّ النظام الاتحادي الفيدرالي الديمقراطي الذي حصل بين الولايات الأميركية لم يأتِ عن طريق تجزئة وتقسيم كل ولاية ثمَّ إعادة جمعها كقطع مبعثرة في لوحةٍ فيدراليةٍ واحدة ..
إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية: وهذا يعني مقاومة ضدَّ الاحتلال من أجل التحرّر الوطني.
العرب يريدون لأمَّتهم حقّ اختيار البناء الدستوري السليم المتلائم مع طبيعة الأمَّة العربية وحضارتها، والذي يكفل أيضاً حرّيات المواطنين وحقوقهم في المشاركة بصنع القرار الوطني دون أيِّ تمييز.
العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك وصولاً إلى النموذج الاتحادي الأوروبي، إنْ تعذَّر الوصول الآن إلى النموذج الفيدرالي الأميركي.
العرب يريدون في أمَّتهم حقَّ رفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في كلِّ بلدٍ عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.
هذه هي خلاصات التجربة الأميركية في مجالات المقاومة والتحرّر، والبناء الدستوري والتكامل الاتحادي، ورفض الحالات الانفصالية، فلِمَ لا تدعو واشنطن العالم كلّه للأخذ بهذه الخلاصات عوضاً عن الممارسة الأميركية لعكسها؟
ولِمَ لا تجعل واشنطن من تجربتها نموذجاً لشعوب العالم، فتكون أميركا فعلاً بمثابة (الحلم الأميركي) لا كما هي حال سياستها "الكابوسية" الآن القائمة على التدخّل السلبي في شؤون الدول الأخرى!.
لعلّ الإجابة طبعاً، هي خوف أميركا من أنَّ تعميم نموذجها يعني تعميم بناء الدول الكبرى وولادة منافسين دوليين لها، لكن هل حالت القنابل الأميركية النووية في اليابان من ولادة المنافس الاقتصادي الياباني؟ وهل منع وجود قواتٍ أميركية في معظم دول أوروبا الغربية من أن تتّجه هذه الدول نحو التكامل والاتحاد؟ وهل أنهى تقسيم ألمانيا واحتلالها عناصر القوة وروح الاستقلال وإرادة الوحدة في الأمَّة الألمانية؟
هذه أمثلة لأميركا علّها تتّعظ بها، وهي أيضاً نماذج للمنطقة العربية كي تتمثّل بها.
فالخوف من أن تنتقل هذه الأمَّة العربية من ممارسة ديكتاتوريةٍ "عربية" في الحكم وفي الدعوة للتوحيد، إلى ديمقراطيةٍ "غربية" في أشكال الحكم مع دعوة لتقسيم الأوطان!.
وإذا كان "حال الاتحاد الأميركي" ما زال قوياً بفعل قوة الدستور الأميركي واستمرار "الاتحاد" بين الولايات الأميركية، فإنّ "الحال العربي" سيبقى ضعيفاً طالما أنّ الحياة الدستورية السليمة ما زالت مغيَّبَة والصراعات الداخلية والعربية هي السائدة!.