EN | AR
التَّشْبيكُ والإصلاح
الخميس, مايو 19, 2011
د. جواد العناني

إذا كانت العشيرة أو البلدة هي المحور الاجتماعي الذي يعطي "هوية" لأبناء بلاد الشام وما بين النهرين، فإن "الحتة" أو "الحارة" في المدن الكبرى بمصر، ودمشق، وفاس، والمدن القديمة الكبيرة هي التي تعطي تلك الهوية.

الحارة كانت وحدة اقتصادية اجتماعية، يتقاسم الناس فيها التخصصات، ويعرفون فيها بمهنهم. فهذا الخياط، وذاك الصباغ، وذاك الدباغ، وذاك الشوربجي، وهذا السقا، وذلك "الطباخ"، والحداد، "والنجار" وفلان "الخطيب"، وجاره "القاضي"، وخلفهم يسكن "المفتي".

وصارت تعريفات الناس بالمهن التي يمارسونها هي أسماءهم نفسها التي عرفوا بها، وتلاشت أسماء العشيرة، والقبيلة. ولم يعد الاسم يرمز الى هوية الشخص الإثنية تحديداً.

ولكن في عصر العولمة، كان لا بد أن تخضع هذه الوحدات الاجتماعية الى ضغوط. فالانفتاح دعم حركة الهجرة، والتنقل داخل الدول وبينها، فتغيرت أشكال الناس، وعلاقاتهم، وصار البحث مستمراً عن هوية للناس توحدهم في كيان اجتماعي واحد. ولذلك ضعفت النظرة تدريجياً "للحارة" أو "الحتة"، واستعيض عنها بمفهوم "البلد" أو "مفهوم" الشراكة في الظلم، أو "الحزب" كناظم للأفكار التي يود الناس الوصول إليها.

ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وانهيار بُرجي نيويورك، تصاعدت الحملة ضد العرب "كقوم" والإسلام "كحضارة وطريقة حياة". واختار المهاجمون بعض المفردات التي حولوها الى بقرات غير مقدسات لمهاجمة هذا الدين، وحملة ذلك الدين وهم العرب، وصارت كلمات مثل "الإرهاب الإسلامي"، "التطرف الديني"، "الجهاديون" ، "القاعدة" وغيرها من ألفاظ لا تستخدم في إطارها الصحيح، بل تستخدم كصفات عامة لوصف المسلمين والعرب.

وللإنصاف هنالك دعوات مضادة في الغرب لهذا التوجه العدائي. ولكن القضية صارت مع الوقت صراعاً فكرياً بين مُثل الغرب الديمقراطي، والفكر الإسلامي الإنساني. وتحول هذا الخصام الأيديولوجي الى هجوم على أي تجمع سياسي أو ثقافي يعطي نفسه عنواناً إسلامياً. وقد ساهم في توسيع كل هذا الأمر، إدخال التكنولوجيا العصرية، ووسائل الاتصال والإعلام الحديثة، وبخاصة أخيراً الشبكة الاجتماعية عبر بوابات مثل "الفيس بوك"، و "تويتر" ، وقريباً "الحوسبة الغمامية". وبواسطة هاتف صغير ذي طاقة تخزينية هائلة، يتواصل الناس مع بعضهم بعضا.

والآن صار بالإمكان خلق "وحدات اجتماعية" جديدة خارج الجغرافيا، سواء كانت القرية أو الحارة، وتسمى هذه بالمجتمعات الافتراضية. فهنالك أناس من مختلف أقطار العالم قادرون على خلق بلدية يصوتون فيها، ويختارون من بينهم أعضاء مجلسها التنفيذي، من دون أن يتلاقوا وجهاً لوجه. وهذا ما حصل في تونس ومصر. وصار شاب مثل المصري "وائل غنيم" ، والذي لم يعرف عنه أحد شيئاً قبل أسبوعين، بطلاً في مصر والعالم، ومحركاً لِهبّةٍ شعبية، بفضل الشبكة الاجتماعية.

ولذلك نحن نعيش في عالم بدأ يتحول فيه الافتراضي الى الواقعي. فالمجتمع الافتراضي خرج ليعلن عن نفسه في "ميدان التحرير". وهكذا صارت هنالك وحدة اجتماعية سياسية تجمع بين الراغبين في التغيير داخل ميدان اسمه ميدان التحرير.

ومهما تغيرت الوسائل، فإن دافع الناس للانتفاضة على أوضاعهم يبقى هو المحرك. ولكن التاريخ عَلمنا أن نخشى من تحول ما هو قائم على نوايا حسنة ورغبة جادة في الإصلاح الى فوضى، وفتنة، وديكتاتوريات تعتقد أن معها شرعية الثورة التي نهضت على أكتافها.

إن ما يجري الآن في مصر وما جرى قبله بتونس، يحمل في طياته بذور تغيير وتحولات اجتماعية اقتصادية سياسية أعمق بكثير مما قد ندركه للوهلة الأولى.

 

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©