يعد انتصار الثورة عادة لحظة تاريخية فاصلة بين مرحلتين ما قبل اندلاع الثورة، ثم ما بعد نجاح الثورة، وبقدر مخاطر القيام بالثورة لوجود نظام قمعي، بقدر ضخامة تحديات مرحلة ما بعد نجاح الثورة، حيث أن الثورات عادة هي حصيلة تفاعل عدة عوامل وتعاون عدة قوى معاً بهدف تغيير النظام القائم. ولكن بعد نجاحها، فمن المفترض العمل لإقامة نظام جديد، وهنا تبدأ كل قوة من قوى الثورة في حالة صراع مع القوى الأخرى للسعي للحصول على أكبر قدر من المكاسب أو اجتذاب الثورة لصفوفها، سواء كانت تلك القوة مجتمعية أو قوى سلطوية بمعنى قوى تعتمد على السلطة. ومن هنا ظهر القانون السياسي المعروف باسم "إن الثورات عادة تأكل أبناءها"، حدث هذا مع الثورة الفرنسية والروسية والإيرانية ومصر عام 1952م، وغيرها من الثورات. كما حدث صراع بين القوى السياسية والمجتمعية التي عملت على بلورة الثورة، ولو أخذنا ثورة 1952م، أو بالأحرى الحركة الانقلابية التي تحولت إلى ثورة نجدها تصارعت مع الأحزاب السياسية، ومع الأخوان المسلمين، ثم مع القوى الأجنبية التي حاولت السيطرة عليها. ولهذا نقول، إنه لا يمكن عزل أي ثورة في أي مجتمع عن القوى المجتمعية الداخلية وعن مؤثرات القوى الخارجية وبخاصة في القرن الحادي والعشرين، حيث تلاشت المسافات وانفتحت السموات وتراجعت الحدود وصلابتها، وهكذا تحول العالم إلى قرية صغيرة، وتغير مفهوم الزمان والمكان، وكانا من المفاهيم الثابتة في الفكر والفلسفة قبل منتصف القرن والعشرين، ولكن ثورة المعلومات التي تحولت إلى ثورة المعرفة، التي هي حصيلة ثورتين المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، منذ أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.
ثورة مصر في 25 يناير، كانت حصيلة تفاعل قوتين هما قوة الشباب الذي بلغ حوالي 50% من سكان المجتمع، ولكنه عانى من ثلاث مشكلات: البطالة، محدودية المشاركة السياسية ومحدودية المشاركة الاجتماعية. الشباب الخريج من الجامعة والمدارس لم يجد فرص العمل ليس في مكاتب الوزارات فحسب، بل في سوق العمل الحر، حيث سيطرت القلة الحاكمة، مما أطلق عليهم بعض الكتاب الاقتصاديين، بأنه سيطرة (الرأسمالية المتوحشة) التي لا تؤمن إلا بمبدأ البقاء للأقوى، وبشريعة الغاب، ومن ثم غيرت القوانين لمصلحتها، وأخذت أسوأ ما في الرأسمالية، وهي الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة، وأسوأ ما في العمل السياسي، وهي الفساد وتزوير الانتخابات، وأسوأ ما في النظام الإداري وهو تسخير أدوات الإدارة وأدوات القمع لخدمتها، وأسوأ ما في الثقافة والتعليم، وهي تحويل المتعلمين والمثقفين إلى منظرين للفساد والمحسوبية، وقمع المجتمع من خلال السيطرة على الإعلام المسمى بالإعلام القومي، والسيطرة على السياسة بالحزب الحاكم، وبث التفرقة والتناحر في أحزاب المعارضة، ومع إدراكنا أن الأحزاب كافة بما في ذلك الحزب الحاكم، كانت أحزاب أنابيب بدون رعاية الدولة ليس لها وجود أو قواعد شعبية. والقوة الوحيدة التي لها قواعد حقيقية فكانت قوة الدين لأن المجتمع المصري متدين بطبعه، فظهر الدعاة والسياسيون يرفعون شعار الدين، وأصبح أحد الدعاة من طائفة أصحاب الملايين، أما الآخرون فكونوا ثروات تحت شعارات دينية مثل شركات توظيف الأموال. أما القوة الثانية التي لها قواعد فهي الجيش الذي ينتمي للطبقات كافة، وسعى المسيطرون على السلطة لإفساد هاتين القوتين، فحاولوا إنشاء خلايا لهم في الأجهزة الأمنية وفي القوات المسلحة، وتغلغلوا في الجماعات الدينية، ولكن لحسن الحظ ظلت القوات المسلحة سليمة بدرجة كبيرة، أما الجماعات الدينية فإنها عاشت في معاداة مع السلطة، بل يمكن القول إنها عاشت أو معظمها في معاداة مع المجتمع.
معاداة السلطة لأنها تتنافس من أجل الحصول عليها، ومعاداة مع المجتمع لأنها تفكر في منطق ماضوي لا ينظر للمستقبل، كما أنها تفكر بمنطق طائفي لا يعكس مفهوم المواطنة والولاء للوطن، بمنطق القرن الحادي والعشرين، ولذلك لم تلق أطروحاتها استجابة حقيقية، ولكن لم يكن هناك موقف واضح للمجتمع من قبولها أو رفضها، لأنه لم تكن هناك آية سليمة لمعرفة ذلك، ولتعبير الشعب عن إرادته وللتنافس السليم بين القوى السياسية بعيداً عن الخوف من بعبع الدين أو سطوة المال أو أدوات القمع المسخرة لإرادته.
كانت معضلة مصر في نظامها الرئاسي الذي تم اعتماده منذ ثورة 1952م، فالرئيس هو محور النظام السياسي، ومن ثم فإن السيطرة عليه تضمن السيطرة على النظام وكافة أدواته القمعية والسياسية والاقتصادية. ولقد حقق عبدالناصر شعبية كبيرة بتجاوبه مع الطموحات الاقتصادية والسياسية للمجتمع، ومع الفكر القومي العربي، ولكنه لم يستطع بناء نظام ديمقراطي، ولا مؤسسات حقيقية تحمل فكره، فسيطر الاستبداد ومعه الفساد، وبرز الانتهازيون من المثقفين وفلاسفة السلطان، ووقعت هزيمة 1967م المنكرة، وهذا لا يقلل من انجازات التجربة الناصرية في المجالات الوطنية والعربية والأفريقية والدولية فهي ثورة عظيمة رائدة.
وجاء السادات ليعكس منهج عبد الناصر فحقق انتصار 1973م، وهو المعادل لانتصار عبد الناصر في 1956م، ثم ضرب قوى اليسار والناصرية بالقوى الإسلامية، بنفس ما ضرب عبد الناصر الإقطاع والإسلاميين في الخمسينات، وحتى منتصف الستينات باليسار، وأدى ذلك إلى هزيمة السادات على يد أنصاره واغتياله على يد الإسلاميين.
عرفت القوى الناشئة كيفية السيطرة على حسني مبارك ،وهو رجل عسكري مستقيم مؤمن بوطنه وقدم له العديد من الخدمات وحارب بشجاعة في الحرب والسلام، وكانت لدي الرئيس مبارك نقطتا ضعف الأولي استمراره في السلطة لفترة طويلة والثانية طموح أسرته الخارج عن حدود قواعد اللعبة السياسية في نظام جمهوري وقد قدم الكاتب والمفكر المصري طارق حجي،- وهو رائد فكر إصلاحي، ورغم قرابته لأسرة الرئيس مبارك كان ناقداً لأسلوب حكمه أثناء وجوده،- تشخيصاً لذلك في حديث مع محطة الإذاعة البريطانية بعد سقوط النظام بقوله: (حكم مبارك ثلاثين عاماً، في الخمسة عشر الأولى حكم بمفرده، وقدم انجازات متعددة، وفي الخمسة عشر الثانية حكم مع أطفاله، وأدى ذلك لسيطرة الرأسمالية الجديدة على السلطة والاستبداد والانحراف والفساد). وفي سياق مشابه قدم الوزير الأسبق للإسكان المهندس حسب الله الكفراوي تشخيصاً للانحراف في المرحلة الثانية لحكم مبارك، مستشهداً بالآية القرآنية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}، سورة التغابن – الآية رقم (14).
وفي تقديري، إن أهم انجازات ثورة 25 يناير ليست هي استقالة حسني مبارك كرئيس، وإنما القضاء على أمل التوريث، الذي لعبت ثلاث قوى داخلية في تعميقه ووضع أسسه وفلسفته وإرساء بنيانه القانوني والسياسي والاقتصادي، ثم انهار كل ذلك بين عشية وضحاها، وانطبق عليهم قول الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، سورة الأنفال، آية رقم (30). كلمة المكر هنا بمعنى التدبير في مواجهة التآمر لإحباطه. التدبير الإلهي لإحباط التآمر الذي قامت به الثلاثية سيئة السمعة وهي، الأولى: المثقفون والسياسيون والإعلاميون ورجال القانون الذين وضعوا وفصلوا المواد (77) و(78) و(88) بوجه خاص، لكي يغلقوا كافة الطرق أمام أي تنافس حقيقي وشريف، رجال السياسة والإعلام الذين ضمتهم لجنة السياسات، وكانوا يتفننون في الكتابة والتفسير والتأصيل لمفهوم التوريث، دون أن ينطقوا علانية بتلك الكلمة، ولعب قادة الصحافة الحكومية دوراً سيئاً في تغطية الأخطاء وتحويلها إلى مكاسب وهمية، وهي ليست صحافة قومية، كما أطلق عليها، بل هي صحافة حكومية حزبية، لأن المجلس الأعلى للصحافة يخضع للرئاسة الحزبية كذلك قيادات المؤسسات الصحفية هم من ترشيحات حزبية، ويعملون وفقاً لتوجيهات الحكومة والحزب. القوة الثانية هي قوة من الحزب من خلال أداة الخداع السياسي والإعلامي وأداة القمع الأمني والإداري، فمن ليس مع الحزب فهو ضده، ويتم امتهان كرامته وحرمانه من مزايا نفسه، ومن حقوقه الطبيعية، والقوة الثالثة هي قوة رأس المال الذي بدأ بالتخصيص، وهي ليست خصخصة رشيدة، وإنما سرقة واضحة للمشروعات والمصانع والقطاع العام الذي تم تكوينه خلال فترة حكم جمال عبد الناصر ليتحول إلى قطاع خاص لمجموعة الربع في المائة، بعد أن ثار نظام عبدالناصر على حكم النصف في المائة قبل 1952م. ولكن مع الفارق الجوهري، إن حكم النصف في المائة اعتمد على الإنتاج والقيمة المضافة للاقتصاد، وعلى الإقطاع الزراعي. أما حكم الربع في المائة فقد اعتمد على سماسرة الأراضي وسرقة الشركات الصناعية، وبروز الاحتكار والعمولات. وكما هو معروف، فإن رأس المال جبان ولذلك عندما اندلعت ثورة 25 يناير اختفى الرأسماليون الجدد وهرب بعضهم، وبلغ فجور النظام إن وجد مطاراً خاصاً للطائرات الخاصة لهؤلاء الرأسماليين بجوار مطار القاهرة الدولي في دولة نامية بها حوالي 40% تحت خط الفقر.
السؤال، هل هذا اكتشاف جديد الآن بعد نجاح ثورة 25 يناير؟
نقول لا، لقد كتب كثير من الاقتصاديين والسياسيين وعلماء الاجتماع تحليلات عديدة، كما كتب الكثير من المفكرين ورجال الإعلام والثقافة عن ذلك، والأكثر إن أجهزة الرقابة الحكومية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية وغيرها سجلت كل ذلك في تقاريرها، ولكن كل تلك التقارير كانت توضع في الأدراج، وتحفظ لأن القرار السياسي كان هو السائد، والقرار السياسي سيطر عليه الفاسدون أنفسهم، أي أن حاميها حراميها كما يقول المثل المصري.
أما النتيجة الثانية فهي إحياء الحس الوطني لدي المجتمع ككل والانتماء الوطني في الحفاظ علي النظام والأمانة وعد تخريب أي شئ وتنظيف ميدان التحرير بعد انتهاء التظاهر وهكذا اثبت الشباب درجة عالية من الوعي الذي يليق بمصر وحضارتها وهو ما افتقدته الأيام السابقة من كبار السن بسبب المحسوبية والواسطة والفساد فاضعف ذلك الحس بالانتماء