-1-
إستذكرتُ، وأنا أتابع الأخبار العاصفة هذه الأيام في تونس ومصر وغيرهما، الكاتب والروائي العراقي الراحل شمران الياسري، المشهور باسم "أبو كَاطع" الذي كان يردد أحياناً، وبين الجد والهزل، توصيفات يقول إن لا أساس لها في علوم السياسة، مثل "الفاشية الريفية" أو "الفاشية البدوية"، وذلك بعد عجزه عن إيجاد تفسيرات للظواهر الجديدة التي كان المجتمع العراقي يعيشها في سبعينيات القرن العشرين، ولاسيما بعد فورة النفط، خصوصاً تماهي الحكم مع البزنس مصحوباً بالعنف والتخلّف والبيروقراطية الطفيلية الكسولة، لا فرق في ذلك بين ما إذا كانت السطوة لدور القطاع العام أو لدورة الانفتاح الاقتصادي اللاحقة، ما دام ذلك يشكّل مراكز ثقل السلطة في العوائل الحاكمة التي تمسك بيدها الثروة أيضاً، وتتحكّم في شؤون التجارة، خصوصاً الاستيراد والتصدير، والسياحة والرياضة والثقافة، وقبل كل شيء، في الموارد الطبيعية.
ما تناقلته الأخبار عن امتلاك الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ثروة تبلغ نحو 30 مليار دولار أمريكي، وامتلاك الرئيس المصري محمد حسني مبارك نحو 70 مليار دولار أمريكي أيضاً، وتحكّم عائلة بن علي وزوجته ليلى طرابلسي وعائلتها، إضافة إلى تحكّم أبناء الرئيس المصري، يحتاج إلى تفسيرات جديدة لتوصيف الجمهوريات التسلطية التي احتكرتها عوائل الحكّام وحاشيتهم لتحقيق هذه الثروة، لدرجة يصعب توصيفها إلاّ على طريقة "أبو كَاطع"، فنظاما بن علي ومبارك أخضعا الدولة وثرواتها، باسم الانفتاح والاقتصاد الحر لسلطة الأبناء والأقرباء والأنسباء، إلى حدّ أن السلطة أصبحت تعادل الدولة، وهذه الأخيرة هي: "دولة العائلة الرأسمالية وحواشيها" التي أصبحت ثرواتها أكثر من ميزانية الدولة بقضّها وقضيضها، لاسيما وأن "النخب الحاكمة- النخب المالكة" ساقت البلاد والعباد أكثر من جيلين نحو جمهوريات وراثية- عائلية، كانت الهوّة فيها تزداد اتّساعاً بين شعوب تعاني من الحرمان وحكام يتقيأون تخمةً.
-2-
لقد طرحت الانتفاضتان التونسية والمصرية أسئلة جديدة هي بحاجة إلى دراستها والتوصّل إلى استنتاجات بخصوصها، لاسيما بشأن قوى الانتفاضتين المحرّكة وتركيبتها وأهدافها وأساليب عملها، فضلاً عن فن إدارتها وتفاعلاتها وتماهيها مع قاعدة اجتماعية عريضة وواسعة، وتدرّج مواجهتها والارتفاع بمطالبها. ولعلها تذكّر الباحث بعدد من الانتفاضات التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، لاسيما طابعها الجماهيري الهائل، وأعني بذلك ما أفرزته الثورة الإيرانية العام 1978-1979 ضد نظام الشاه، حين قابلت الجماهير بصدور عارية موجات القمع والرصاص، لتسدّ المنافذ والأبواب بوجه الشاه، الذي اضطرّ إلى مغادرة البلاد، كما تذكّر بأحداث أوروبا الشرقية، التي كان ذروتها انهيار جدار برلين العام 1989، وشملت بولونيا منذ حركة التضامن العام 1980-1981 وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها.
لم يقتصر التماثل في الشعارات المدنية والسلمية والحضارية، التي رفعتها الحشود الغاضبة على تونس ومصر، بل شمل عدداً من البلدان العربية، مثل الجزائر وليبيا والبحرين واليمن والأردن، ومن دول الجوار إيران التي جددت حركة الاحتجاج ضد نتائج الانتخابات العام 2009؛ الشعارات الأساسية التي بدأتها هذه الحركات كانت شعارات برغماتية في الغالب، واضحة وملموسة: " إرحل"، فضلاً عن المطالبة بمكافحة الفساد، والحق في المشاركة، والحريات واحترام حقوق الإنسان، لكن هذه المطالب الأولية التي تمّ قمعها تعاظمت حتى آلت إلى الدعوة للإطاحة بالأنظمة: " الشعب يريد إسقاط النظام".
لقد أبدى بعض الأوساط في الغرب وفي الوطن العربي تخوّفه وخشيته من أن تقع الانتفاضات الشعبية تحت هيمنة الإسلاميين، ولاسيما "حركة الاخوان"، لكن قراءة متأنّية لإداء الجيل الشاب لا تعطي مثل هذا الانطباع، وإنْ كان جيل الشباب جلّه من المسلمين، لكنه لا يستعين بالاسلام السياسي كأيديولوجيا حسبما يبدو. إنه جيل ما بعد الآيديولوجيات الراديكالية، الماركسية الرسمية والقومية التقليدية والاسلامية المتعصّبة، وهو ما يتبيّن من الشعارات التي رُفعت، والتي كانت خليطاً وطنياً وعربياً متجانساً وعفوياً.
كانت الانتفاضة تعددية، بمعنى قبولها التنوّع والاختلاف؛ ففيها الديني والعلماني، اليساري واليميني، الاسلامي والمسيحي، الرجل والمرأة. ولعل ثقافة الطبقة الوسطى الغالبة لعبت دورها على هذا الصعيد، لاسيما إعلاء شأن الكرامة والحرية، وهما قيمتان كونيتان عالميتان تلتقي عليهما الشعوب والحضارات والثقافات، وتمثلان المشترك الانساني لبني البشر، بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس أو الاتجاه السياسي أو الأصل الاجتماعي.
إن ما يميّز هذه الحركات الشعبية أنها ابتدأت من القاعدة لا من القمة، أي من الجمهور لا من قيادات أو زعامات تاريخية، أيديولوجية أو سياسية أو حزبية أو دينية، أو غيرها. وامتلكت أدوات تفاعل غير مسبوقة لدرجة يمكن القول أنها تجاوزت قدرات الدولة على قمعها، حيث كان السلاح الفعّال والنافذ هو الانترنت والتويتر والفيسبوك والهاتف الجوّال، إضافة إلى أجهزة الستلايت والتلفزيونات وغيرها، الأمر الذي ساعد الشباب في التواصل والتنسيق والتنظيم، ومكّنهم من التجمّع والتحرّك بسرعة وفاعلية منظمة غير قابلة للاختراق.
ومثلما كانت انتفاضات إيران وأمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية جماهيرية وشعبية عارمة، كانت سمة انتفاضتي تونس ومصر وغيرهما، جماهيرية سلمية مليونية تصاعدت في مسلسل أحداث متسارعة، لم ينفع معه القمع مثلما لم تنفع معه الديماغوجيا أو محاولات الاستفزاز أو البلطجة. وعلى الرغم من التنازلات التي قدمتها الأنظمة، بما فيها رمي بعض من عناصرها في العراء، والإقرار بعدم التوريث، أو التجديد لولايات أخرى، أو بذل الوعود بإجراء تعديلات دستورية أو إجرائية، فإن ذلك كله لم ينفع، بل ازداد النظم الحاكمة تفككاً وانهارت انهياراً سريعاً ومدوياً، خصوصاً أن الثورات الجديدة لم تعد ثورات خبز أو انتفاضات جياع (مصر 1977، وتونس 1984، والأردن في تسعينيات القرن الماضي)، بل ثورات مجتمعات امتازت بالتمدّن والتحضر (تونس- مصر) لفئة جديدة من المثقفين والمتعلمين الذين كانوا في مواجهة انغلاق فرص الحياة، والبطالة، وانسداد الآفاق، لاسيما في ظل شحّ الحريات والمعلومات، فضلاً عن الفساد والرشاوى. ولعلها تذكّر بوثبة كانون الثاني /يناير العراقية العام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، وثورة تشرين الأول/اكتوبر السودانية ضد الجنرال عبود العام 1964.
-3-
لقد برز جيل جديد من الشباب أخذ على عاتقه مسؤولية قيادة الانتفاضات الميدانية بعيداً عن التنظير، مبتدعاً أساليب كفاحية جديدة، وغير مألوفة، سبّبت الذهول والحيرة والتردد للنخب الفكرية والسياسية القائمة في السلطة والمعارضة، لا سيما في الأيام الأولى. وقد انطلق الجيل الثوري الجديد من فضاء مجتمعي، بعيداً عن الآيديولوجيا وتفريعاتها الشمولية والدينية، مثلما كانت سمته وطنية عامة بدون فئوية أو تعصب أو تطرف أو غلو.
وبهذا المعنى يمكنني القول أن الحدث التونسي والحدث المصري كانا صناعة محلية بكل امتياز، لكن تأثيراتهما عربية وإقليمية بلا أدنى شك، وقد تكون كونية، وهو ما يمكن قراءته لاحقاً، كما هي الثورة الفرنسية العام 1789 والثورة البلشفية العام 1917 والثورة الإيرانية العام 1979 وانتفاضات أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وغيرها، أي أن دلالاتهما يمكن أن تتجاوز إلى مناطق أخرى ، وربما انتشرت عدواهما لتصل الى العالم كلّه.
لعل مفهوم "الوطنية" لدى جيل الشباب يختلف عمّا يفهمه ويريده الحكام باعتباره "شرط خنوع" مثلما يختلف مفهوم "الخارج" لدى الجيل الجديد من الشباب عن جيل الحكام العتاق الذين شاخوا وهم في السلطة، حيث حاولوا تصوير الاحتجاج بأنه "صناعة خارجية" ولخدمة الأهداف المشبوهة المعادية للأمة، في حين إن الجيل الجديد كان يربط الوطنية بالحقوق، ويرى فيهما تلازماً لا انفصام فيه، فهما عنده يقومان على مساءلة رجل الدولة وحكامها باعتبارهم خدم الشعب وليس العكس.
لقد تبنّى الجيل الجديد النقيض، فلم يعد يهمّه التشدّق والسفسطات الأيديولوجية والتعويذات الدينية، وذلك بسبب سياسات الاستبداد الطويلة الأمد، واحتكارات العوائل الحاكمة لجميع مرافق السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة في الدولة، لذلك وجد نفسه في القيم المغايرة، التي تقوم على الحرية، والحق في الحصول على المعلومات، وحق المساءلة والشراكة والعدل.
وإذا كانت الحرب الباردة السابقة قد انتهت بانهيار الكتلة الاشتراكية، وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد، متخذاً من "الإسلام" عدوًّا ينبغي القضاء عليه، لاسيما من جانب القوى الغربية المتنفّذة، وخصوصاً الولايات المتحدة، سواءً اتخذ ذلك شكل مكافحة "الإرهاب الدولي" أو لم يتخذ، فإن المجتمع الدولي اكتسب، على الرغم من محاولات الهيمنة والتوظيف، بُعداً جديداً في ظل العولمة، لا بوجهها المتوحش حسب، بل بوجهها الإيجابي بما فيه عولمة الثقافة وعولمة حقوق الإنسان، وثقافة المساواة من خلال تكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات والطفرة المعلوماتية الرقمية "الديجيتل".
من معالم الانتفاضات الأخيرة أنها لم تكن ذكورية، بل ساهمت النساء فيها إلى حدود كبيرة، وكان لهنّ دور بارز في القيادة والإدارة والحضور والمشاركة، ولعل ذلك يمثل رسالة جديدة حداثية لبدء عهد جديد انتقلت فيه النساء من الصفوف الخلفية المساندة للثورة إلى واجهات الحدث، ليتصدّرن المنابر والقيادات، سافرات أو محجبات، مسلمات أو قبطيات، لا فرق بينهن؛ فقد وحدّهن حب الوطن وشارع بورقيبه وميدان التحرير، وكنّ جميعهن يرددن الشعارات ذاتها المطالبة برحيل النظام ومحاكمة الفساد.
وكشفت الانتفاضتان اختفاء صورة الثوري القديمة، فلم يعد يأتي بسترته المتّسخة وقميصه الرث، متنكّراً بأزياء أخرى شعبية أو فلاحية، أو واضعاً لفائف الرأس دليلاً على الثورية أو التديّن أو العمل السري. جاء الثوري الجديد بكل أناقته، ومعه جوقة البروفسورات وأساتذة الجامعات والإعلاميين والمحامين والأدباء والكتّاب والقضاة والشغيلة بكل فروعها، أي شغيلة اليد والفكر. جاء الثوري هذه المرّة ومعه أغاني "الراب" التي كان يستمع إليها قبل وصوله إلى "شارع الحبيب بورقيبة" أو "ميدان التحرير". لم يفكر قبل مجيئه بتلقّي التعليمات من الأوكار السرّية، أو من خريجي السجون، أو المقيمين في الجوامع والمساجد والكنائس أو من مقار الأحزاب التقليدية وبياناتها الروتينية النمطية. فهؤلاء كلهم هم من اتّبعوه هذه المرّة لأنه كان يعرف قضيته أكثر من غيره، ولديه القدرة للتضحية من أجلها، بدون وصاية أو أبوية أو ادّعاء احتكار المعرفة والحقيقة. لقد أثبتت قوة الشباب أنها العامل الأساسي في رسم الخارطة المستقبلية للعالم العربي والشرق الأوسط.
وإذا كانت الكتب الدينية أو القومية أو الكتاب الأحمر أو مقولات لينين وكاسترو وجيفارا محفّزاً للثوار سابقاً، فإن عود الجيل الجديد قد اشتد في غرف الانترنيت وعلى صفحات الفيسبوك ومقاهي المهمّشين وعلى الأرصفة، وأثبت جدارة لا حدود لها، على عكس الانطباع السائد الذي كان يتّهمه بالميوعة واللامبالاة وقلّة الشعور بالمسؤولية؛ فهو أبدى استعداداً للموت أكثر بكثير مما أبدته أجيال سابقة.
-4-
أظهرت الانتفاضات الشعبية ضمور دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين، العقائديين، الذين بشّروا الناس بالجنة، أو بعالم يحقق الوحدة العربية أو تحرير فلسطين (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في مملكة الأرض، بل على قيم السماء. هكذا ظلّت الأمور تجريدية أحياناً، فالصراع على القيم والمثل التي كان لها أن تتحول إلى خطط وبرامج، وهذه الأخيرة إلى أعمال وأفعال، هو الفارق بين كلام الأمس وكلام اليوم. وهذا ما ينبغي فهمه والتعامل على أساسه، ولعله أكبر الأسئلة التي تواجه عملية التغيير!
لم تكن الرومانسية القديمة كافية لإشعال حماسة الشباب، بما فيها الوعود والآمال الكبيرة والشعارات البرّاقة، البعيدة المنال؛ لقد حلّت محلّها الواقعية السياسية، بلا شعارات كبرى ولا وعود أقرب إلى السراب. لقد انتظمت الملايين بشعارات مبسّطة: عاشت الحرية، تعديل الدستور، القضاء على الفساد واحترام حقوق الإنسان. هكذا سدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن باستعارة من ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته، وهو يبرّر خطاب الحاكم بالقمع السياسي أو بالقمع الفكري وبحرق البخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المعارض الذي كان بعيداً أو غائباً أو مخادعاً، أو الأغلبية الصامتة المغلوبة على أمرها، كلهم كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة.
لقد أنهت المعركة الحقيقية التي أرادها الشعب، المعارك الوهمية الصغرى، حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، رافعة أفضليات الجماهير المبادرة وجيل الشباب المتقدّم الذي قاد الشعب كله إلى الالتحام بكل فئاته، جاعلاً من انتفاضته، ولأول مرة في الوطن العربي، ثورة شعبية سداها ولحمتها الشباب الجميل الحالم بقدر واقعيته وبرغماتيته، ناقضاً مفاهيم ومسلّمات سادت، كمقولة أن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوفر لها قيادة ملهمة أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم حزب قائد "طليعة"، أو أن التغيير لن يتحقق في ظل أنظمة استبدادية ودكتاتورية عاتية دون تدخل الجيش، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها انجاز التغيير دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً " العامل الدولي" الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر دام ثلاثة عشر عاماً، الى الاحتلال البغيض.
لقد أثبت جيل الشباب بأنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة، فدخل في سبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية دجّنت الشعوب بعوامل الجوع والخوف فضمنت خضوعها اللامحدود بمكان أو زمان، وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات، محطماًً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه وقهره في أولى خطواته نحو الوجود والكرامة.
لم يكن للانتفاضتين رمز قائد أو زعيم مخلّد أو ملهم مخلّص، يصبح لاحقاً "معبوداً" ومقدساً، وفوق حدود النقد. ولم يكن للانتفاضتين أيضاً نصوص مقدسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة ورمزية وواقعية في آن واحد. ومثلما كانتا ضد الصنمية، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات واليقينيات والقدسيات والسلفيات المشوّهة والوعود الزائفة، وعابرتان للطوائف والطبقات الاجتماعية والمجموعات القبلية والعشائرية، واضحتان في مطالبهما، وحاسمتان برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتان إخلاصهما ونزاهتهما والتزامهما بمطالب شعبيهما.
إن الانتفاضات بإسقاطها الدكتاتوريات وضعت سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكية: أين دورها وما هو موقعها من الخارطة السياسية الجديدة؟! تلك التي ظلّت تلوك خطابها ولغتها الخشبية عقوداً من الزمان، سواء أكانت شيوعية أم قومية أم إسلامية، حتى بدون مراجعة أو نقد على الرغم من كل المتغيّرات؟ هكذا قدّمت الجماهير الغاضبة الفعل الثوري الواقعي الحسّي، على حساب الأيديولوجيات والوعود والخطابات الاجتماعية والثقافية، التي سمعتها كثيراً.
حقاً لقد أفرزت الانتفاضات نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدماً وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي. لقد بدأ الشباب بكل حيويته وطاقاته ومبادراته، وعلى الجميع اليوم الاستماع إليه والوقوف خلفه ليصل إلى طريق الديمقراطية، وليتمكن من حماية ثورته، قبل أن يتم الالتفاف عليها أو سرقة منجزاتها أو اللعب بمستقبلها.
إن انفجار الغضب العفوي الجماهيري في مواجهة "الفجور"، النيوليبرالي، المتمثل في أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، هو "شرط انتقال الخوف من ضفة الناس إلى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلّة الأمل" على حد تعبير غسان سلامة!