EN | AR
إعــادة اختــراع السياســـــــة‏!‏
الخميس, مايو 19, 2011
السيد يسين

حسمت ثورة 25‏ يناير مشكلة العجز الديموقراطي في مصر‏,‏ والذي تمثل أساسا في تجفيف منابع السياسة نتيجة لهيمنة النظـام السلطوي‏,‏

 وهذه الهيمنة تمثلت أساسا في سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية‏,‏ وتغول شديد للسلطة التنفيذية علي السلطة التشريعية‏,‏ ومحاولات خفية للنيل من استقلال القضاء‏,‏ وانفراد الحزب الوطني الديموقراطي بالسلطة طيلة ثلاثين عاما‏,‏ وتهميش الأحزاب السياسية المعارضة‏,‏ ومنع نشوء أحزاب سياسية حقيقية جديدة‏,‏ والقمع المنهجي لمن يعارض السلطة من السياسيين والمثقفين‏.‏

هذه قائمة طويلة حقا تكشف بوضوح عن مفردات النظام السلطوي‏,‏ والذي أدي في الواقع الي وقف العمل بالسياسة بمعناها الحقيقي‏!‏

والسياسة في أي مجتمع ديموقراطي تقوم علي أساس التعددية الفكرية والتعددية الحزبية‏,‏ في سياق يسمح بتداول السلطة بعد انتخابات رئاسية ونيابية شفافة‏,‏ لا يشوبها التزوير‏,‏ ولا تحمل في طياتها تزييف إرادة الجماهير‏.‏

في ضوء ذلك كله إذا ظننا أن مجموعة من التعديلات الدستورية مهما تكن أهميتها في مجال توسيع إطار المشاركة السياسية وضمان نزاهة الانتخابات‏,‏ وانتخاب رئيس جديد للجمهورية‏,‏ ومجلسين للشوري والشعب‏,‏ ستحل مشكلة انسداد الآفاق الديموقراطية في البلاد نكون مخطئين خطأ جسيما‏.‏

وذلك لأننا في حاجة الي إعادة اختراع السياسية بعد أن جفت مياهها‏,‏ وأنا هنا استعيد عنوان كتاب لي صدر عام‏5002‏ إعادة اختراع السياسة من الحداثة الي العولمة‏(‏ ميريت‏5002).‏
وحين أعود الي فصوله المختلفة أجدني أثير من المشكلات مايستحق إعادة إثارته اليوم‏,‏ ولكن في سياق جد مختلف‏!‏

لقد كنت أتحدث من منظور الاصلاح السياسي لا من منظور الثورة‏,‏ والتي كان وقوعها في جيلنا يمثل ضربا من ضروب الخيال‏!‏

والدليل علي ذلك أنني كتبت مقالا بعنوان محنة التحول الديموقراطي العربي تحدثت فيه عن عملية التحول الديموقراطي‏,‏ والتي هي بحسب التعريف الانتقال من السلطوية الي الديموقراطية‏.‏
وقررت أنه في هذه المشكلة بالذات تبدو محنة التحول الديموقراطي العربي وذكرت بالنص إذا كان هناك إجماع عالمي علي أن عهد الثورات والانقلابات قد ولي‏,‏ وأننا نعيش في عصر الاصلاح بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏,‏ فإن التحدي الحقيقي يكمن في أن معظم النظم السياسية العربية لن يجدي بصددها أي تغييرات جزئية‏,‏ بل لابد من تغيير طبيعة نظمها السياسية حتي يحدث التحول الديموقراطي‏.‏

وهاهي ثورة‏52‏ يناير تثبت صدق هذه المقولة‏.‏ ذلك أن عملية الاصلاح السياسي في عهد الرئيس السابق حسني مبارك تعثرت وتجمدت بحكم تشبث نظامه بالسلطة المطلقة‏,‏ ورفضه القاطع لمسألة تداول السلطة‏.‏

وهكذا جاءت الثورة لتبدأ مصر طريقها الحقيقي إزاء الديموقراطية‏.‏ والديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي ولكنها أسلوب حياة‏.‏

وفي ضوء ذلك ينبغي التفرقة بين إجراءات الديموقراطية وقيم الديموقراطية‏,‏ إجراءات الديموقراطية قد تتمثل في الانتخابات وفي إجرائها بصورة دورية‏,‏ إشارة الي أن ممثلي الشعب ينبغي أن يتم اختيارهم من قبل الجماهير‏.‏ غير أنه إذا جرت انتخابات في غيبة الالتزام بقيم الديموقراطية نصبح أمام موقف جد خطير‏.‏

وإذا كنا ناقشنا من قبل مسألة أن أولي خطوات الاصلاح السياسيي العربي هو تحول الدول البوليسية العربية الي دول قانونية في ضوء التفرقة الدستورية المستقرة بين دولة البوليس التي لا يطبق فيها مبدأ سيادة القانون‏,‏ ودولة القانون بكل المباديء التي تقوم عليها‏,‏ من وجود دستور ومدونات قانونية ومحاكم مستقلة وضمانات للمتقاضين‏,‏ إلا أنه هذه هي مجرد خطوة أولي حاسمة في تفكيك البنية السلطوية السائدة في المجتمع العربي المعاصر‏.‏

ولاشك أن هناك قائمة طويلة تشكل مفردات الديموقراطية‏,‏ وعلي رأسها احترام حقوق الإنسان واحترام التعددية‏.‏

ويمكن القول إننا نعيش في عصر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية‏.‏ وشعارات العولمة المرفوعة هي الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية‏.‏

وحقوق الإنسان تثير في التطبيق مشكلات شتي وخصوصا في الوطن العربي‏,‏ وذلك لأن الوضع السلطوي السائد أدي في التطبيق عبر الخمسين عاما الأخيرة الي اعتداءات جسيمة في هذا المجال‏,‏ وخصوصا في طرق إدارة النظم السياسية السلطوية العربية لصراعها مع خصومها السياسيين‏.‏

والتاريخ السياسي العربي المعاصر زاخر بوقائع تعذيب الخصوم السياسيين ونفيهم وسجنهم غير المشروع‏,‏ بل إنه في بعض البلاد العربية تعرضت بعض الجماعات السياسية الي إجراءات قمع بالغة العنف‏,‏ وكانت أشبه بمحاولة إبادتهم تماما‏!‏

هذا السجل المخزي هو الذي دفع عديدا من الأنظمة السياسية السلطوية العربية الي مقاومة الموجة العالمية العارمة التي تطالب بتطبيق حقوق الإنسان‏.‏

غير أن هذه النظم السياسية العربية السلطوية لم تجرؤ علي أن تعترض جهارا علي تطبيق مواثيق حقوق الإنسان والتي وقعت علي أغلبها‏,‏ لذلك ومن قبيل المراوغة رفعت حجة الخصوصية الثقافية في مواجهة عالمية حقوق الإنسان‏,‏ ومحتوي هذه الحجة أنه مع التسليم بعالمية حقوق الإنسان إلا أنه في التطبيق لابد من مراعاة الخصوصيات الثقافية للدول العربية والاسلامية‏,‏ مما يمنع من تطبيق بعض قواعدها‏.‏

وهناك اتفاق ـ علي سبيل المثال ـ علي أن أي متهم ينبغي أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي‏,‏ ولابد له أن يتمتع بضمانات قانونية تكفل له محاكمة عادلة‏,‏ ومن بينها ضرورة استعانته بمحام‏,‏ وعدم تعرضه للتعذيب‏,‏ والالتزام الدقيق بقواعد الإجراءات الجنائية المتفق عليها في كل بلاد العالم المتحضر‏.‏ في هذه المجالات وغيرها ليس هناك مجال للتعلل بحجة الخصوصية الثقافية لعدم تطبيق قواعد حقوق الإنسان العلمية‏.‏

وإذا أضفنا الي ذلك حقوق الإنسان السياسية‏,‏ وحق المواطنين في الانتخاب الحر المباشر لمن يمثلونهم في المجالس المحلية والنيابية‏,‏ لأدركنا أن إعمال هذه الحقوق بشكل صحيح إنما يمثل ضربة حقيقية لصميم بنية النظام السلطوي الذي يقوم علي القهر السياسي للجماهير‏,‏ والذي حين يريد أن يتجمل ويلبس أردية الديموقراطية‏,‏ فإنه يلجأ الي الاستفتاءات والانتخابات المزورة هروبا من قاعدة تداول السلطة‏.‏

غير أن حقوق الإنسان لا تتعلق فقط بالحقوق القانونية أو السياسية ولكنها ـ أكثر من ذلك ـ تتعلق بالحقوق الاقتصادية‏.‏ وفي هذا المجال فإن الدولة السلطوية العربية التي تسيطر علي عملية صنع القرار فيها العشوائية التي أدت الي إهدار المال العام‏,‏ بالاضافة الي الفساد المنظم الذي تمارسه النخب السياسية الحاكمة‏,‏ كل ذلك أدي الي حرمان الجماهير العربية العريضة من حقها في العمل المنتظم‏,‏ وفي التمتع بالتأمينات الاجتماعية والصحية‏,‏ والتي هي حق من حقوق الإنسان في أي مجتمع معاصر‏.‏

غير أن احترام حقوق الإنسان ليست سوي جانب من جوانب الديموقراطية‏,‏ أما الجانب الثاني المهم فهو ضرورة احترام التعددية‏.‏ والتعددية ليست تعددية سياسية فقط‏,‏ ولكنها قد تكون تعددية دينية وعرقية ولغوية‏.‏

ولاشك أن جزءا من مشكلة التعددية السياسية كانت أو دينية أو لغوية‏,‏ هو غياب حرية التنظيم من ممارسات عديد من الدول العربية‏.‏

ولذلك يمكن القول إن كفالة حرية التنظيم في مجال الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المحاصرة‏,‏ مطلب أساسي من مطالب الديموقراطية في الوطن العربي الآن‏.‏ وحرية التنظيم بما تتيحه من تعددية سياسية من شأنها أن تجعل الانتخابات المحلية والنيابية آلية فعالة من آليات تداول السلطة‏.‏

وذلك لأن الظاهرة السائدة في الوطن العربي هي ديمومة النخب السياسية الحاكمة في ظل نظم سياسية لا تسمح إطلاقا بتداول السلطة‏,‏ وباستخدام آليات مختلفة غير ديموقراطية لتحقيق هذا الهدف‏.‏ وقد أدي هذا الوضع الي تجمد السياسات العربية‏,‏ وظهور مراكز القوي السياسية‏,‏ واحتكار السلطة والمال والنفوذ‏,‏ بل وأدي الي شيوع ظاهرة الفساد‏.‏ ولذلك لم يكن غريبا ان تتصاعد في العقد الأخير الدعوات العالمية لضرورة تطبيق قواعد الحكم الرشيد في الوطن العربي‏GOVERNANCE,‏ باعتبار أن هذا النمط من الحكم هو الذي سيحقق قيم المثال الديموقراطي الذي تحدثنا عنه من قبل بكل مفرداته‏,‏ في ظل تطور المجتمع المعلوماتي العالمي‏,‏ والذي يقوم أساسا علي حرية تداول المعلومات والشفافية‏,‏ التي تكفل للمحكومين ـ أيا كان نظام الحكم ـ أن يراقبوا أداء الحكام‏.‏

ومازلنا في سياق تتبع إمكانيات تطبيق مفردات الديموقراطية الأخري في ضوء كونها ليست مجرد نطام سياسي‏,‏ ولكنها ينبغي أن تكون اسلوب حياة‏.‏

 

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©