لماذا لا يتدخّل الغرب في ليبيا؟، ثم: لماذا تدخّل الغرب في ليبيا؟
السؤالان خرجا من الأفواه نفسها التي أجابت عن الأول بالقول إن إنسانيته مجرّد مزاعم. ثم أجابت عن الثاني، وكان قد صدر قرار مجلس الأمن 1973، بالقول إن أطماع الغرب وشهوته إلى النهب والإخضاع تملي سلوكه. أما رأي الليبيين في الأمر، فليس مهمّاً، تماماً كما لم يكن رأي العراقيين في 2003 مهمّاً.
والحال أنه في مسيرة الثورات التي بدأت في تونس، كانت مواقف الحكومات الغربية في عمومها متقدّمة على إجمالي المواقف الرسمية العربية، ومتقدّمة كثيراً. وهي، كذلك، كانت متخلّفة عن الصورة المثلى التي تشيعها عن نفسها ناشرةً للديموقراطية وحقوق الانسان، وأحياناً متخلّفة كثيراً. وهي تريَّثت، ومراتٍ تأخرت، في تأييدها. إلا أن كل نجاح كان يكسبه العمل الثوري، وكل قابلية للحياة كان يبديها، كانا يزيدانها تأييداً. وهنا لا بد من إدراج الموقف الحيادي الذي وقفه جيشا تونس ومصر، والذي لولاه لفشلت الثورتان. والأهم أن تلك الحكومات حين كانت تتحفّظ كانت تفتعل كلامها، وحين كانت تؤيّد كان كلامها يجيء شبيهاً بها، أقرب إلى العفويّة والسلاسة.
فالمسألة، في النهاية، لا تختصرها كلمتان تستعجلان التنديد أو التأييد. فأوّلاً، هناك لحظتان في تاريخ الغرب تتلاقيان أحياناً وتتصادمان أحياناً، هما لحظة الحرية ولحظة المصلحة. وهناك، ثانياً، تعاطٍ مع عالم مختلف قد لا تنتظم ثوراته في نسق الثورات كما عهدها الغرب، وقد يطلع منها تديُّنٌ أصولي ونزاعٌ أهلي واستبداد وفوضى، مثلما قد تسفر عن آفاق جديدة مفتوحة تتكامل مع العالم الأوسع. وهناك، ثالثاً، حسابات الربح والخسارة التي يفترضها أيُّ وعي حديث ونفعي. وهناك، رابعاً، وجود دول عدة يدور بينها النقاش والتشاور قبل اتخاذ القرار. وأخيراً، هناك بطء اتخاذ القرار المعهود في الأنظمة الديموقراطية، لأن القرار ليس نزوة حاكم فرد. يضاف إلى ذلك، في حالتنا الراهنة، رضّة العراق بالنسبة إلى أميركا، وهي ما أظهر الأخيرة كأنها تمارس الدلع في الاختبار الليبي، ملحّة على المشاركة الأوروبية والغطاء العربي. أليس مدهشاً أن طرفين متناحرين كـ «القاعدة» ومقتدى الصدر (أو «القاعدة» والقذّافي أو...)، لا يجمع بينهما إلاّ... العداء لأميركا!؟. أليس في هذا العنصر «الثقافي» ما يستدعي التدقيق والحذر؟
حين تُحسب تلك العناصر يُفهم سببُ التدخل في ليبيا، حيث تتكامل المصالح والقيم وإصرار المنتفضين والشروط الإقليمية والدولية، ولماذا لم يحصل تدخل مماثل في اليمن والبحرين.
أمّا وأنّ التدخل قد أثار الهلع الذي يثيره، لا عند القذافي فحسب بل عند خصوم الغرب أيضاً، فيشي بنظرة إلى الغرب تظنه شيطاناً رجيماً وتحاكمه، في الوقت عينه، كأنه جمعية خيرية. وهو ما يفضي إلى جهل آخر أخطر، هو أن الهلعين لا يجدون ما يقترحونه على الليبيين سوى أن يموتوا بنيران القذافي. صحيحٌ أنّ بعضهم يداري عجزه باقتراح تدخل عربي لا يقول «العرب» أنفسهم إلاّ أنهم عاجزون عنه، وربما غير راغبين فيه. فهل ننتظر تغيُّر الوضع العربي كله للمبادرة إلى إنقاذ الليبيين، وهذا فضلاً عن أن التغيّر وحده لا يكفي، بدليل أن مصر وتونس المحيطتين بليبيا تغيَّرتا من دون أن تصبحا قادرتين على التدخل. ثم، أين كانت تجارب التدخّل العربي صالحة لاعتمادها مثالاً: تدخُّل المصريين في اليمن أم تدخّل السوريين في لبنان؟.
إن ما يحدث، وما يقال، يثير نقطتين أخريين، فالتدخل لم ينتج عن «مؤامرة»، بل عن نقص الشروط الثورية في بعض المجتمعات التي تنتفض، أو عن اقتصار تلك الشروط على تردّي النظام وبسالة معارضيه، وهذان لا يكفيان لحسم الصراع وإن كانا كافيين لزجّ البلد في فوضى الحرب الأهلية المفتوحة. في المعنى هذا، وكما دائماً، يناط بنظرية المؤامرة أن تحجب ضرورة النقد والنقد الذاتي لمجتمعاتنا، بحيث نُترك أمام قطبين خرافيَّيْن: من جهة عفويّة الشعب العظيمة، ومن جهة أخرى قدوم العدوّ من وراء البحار لإحباط هذه العفوية.
الأمر الآخر، وهو على الإطلاق أهمّ ما تحمله الحقبة الثورية الجديدة، أن الشر لم يعد يتجسّد في الغريب، بل صار يتمثّل في القريب. فالعدوّ، اليوم، هو الحاكم المستبدّ والفاسد ضدّاً على تقليد عريق ومديد جمع بين الحاكم والمحكوم العربيّين.
طبيعيٌّ، إذاً، أن يصاب بالهلع فرسان الحرب على «الاستعمار والامبريالية والصهيونية» (متى كانت آخر مرة نسمع هذا التعبير في تظاهرة؟). وطبيعيٌّ أن تسود، بين غير الليبيين، الرغبة في إفشاله بدل الحماسة لإنجاحه، بما يخفّف مصاعب تعميمه على بلدان أخرى، بلدانٍ شروطها تشابه شروط ليبيا.