EN | AR
لنرفض ( وداوني بالتي كانت هي الدّاء )
الخميس, مايو 19, 2011
د.علي فخرو

 

كلما مرت الايام على ذلك المشهد الثوري العربي المتلاطم, وهو يتفجر من تحت ذلك السُّبات الذي خيّم لعدة عقود, كلما تراكمت الدروس والعبر المغذية للحاضر والمستقبل الممتد في الأفق التغييري الشامل البعيد. واليوم, اذ يصنع العرب قدرهم, يحتاج قادة ثوراتهم ان يعوا جيدا ما قاله الامين العام السابق للامم المتحدة, داغ همر شولد, من اننا لا نستطيع اختيار اطار قدرنا ومصيرنا, ولكننا حتما قادرون على ان نضع ما نشاء داخل ذلك الاطار. وما تفعله او تحصده الثورات الآن جزء اساسي من ذاك الذي يضعونه في اطار قدرهم الجديد.

1- اذا كانت ثورات العرب الحالية هي محاولات لاقتحام حصون الديمقراطية, التي ظلت منيعة عليهم طوال القرون, فانهم يجب ان ينتبهوا الى ضرورة رفض ما تقدمه بعض الانظمة حلولا كانت في الاصل من اهم عوامل العجز الديمقراطي في الوطن العربي. ففي كتاب "تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي" تحرير ابراهيم البدوي وسمير المقدسي, من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية, يخلص المحرران الى ان النخبة من الباحثين العرب والاجانب الذين استغرقوا لانجاز هذا البحث مدة عامين, خرجوا بنتيجة مؤدّاها ان العوامل التي تفسر استمرار العجز للانتقال الديمقراطي تقع تحت عنوانين: الاول هو النفط, وصراعات المنطقة, والتدخلات الخارجية, والثاني القضايا التاريخية والسياسية والمجتمعية.

ما يهمنا في العنوان الاول هو النفط. واهمية النفط تكمن في انه احد ابرز العوامل الحديثة التي ادت الى ترسيخ وتقوية وإدامة مفهوم الدولة الريعية في ارض العرب. في بلدان النفط سهلت ثروات النفط المقايضة بين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي وبين الحرية السياسية المطلوبة للانتقال الى الديمقراطية. وفي الاقطار العربية غير النفطية سهلت الثروة النفطية استعمال فوائضها بشتى الاشكال لدعم النظم الاستبدادية في تلك الاقطار.

اليوم, والثورات الديمقراطية على أشدها, تحاول العديد من النظم العربية استعمال نفس الوسائل, الوسائل الريعية التي اشترت تأجيل الديمقراطية برفاه البترول الاقتصادي, وذلك لحرف او تشويه او تنزيل سقف المطالب الديمقراطية. فمن حكم يوزع المليارات من الثروة البترولية كرشوة لشعبه ليركز على المطالب المعيشية حتى يقبل راضيا وسعيدا بأن تدور حياته حول أكل العلف في الزرائب المسوَّرة بألف حاجز وحاجز. ومن حكم يرصد المليارات, التي ظلت عصيّة في خزائن النهب والفساد, للبدء في حل إشكالات البطالة والاسكان والغذاء الخ ... التي كان لعقود يتجاهلها. ومن حكم يرفع الاجور بنسب خيالية دون ربط بالجوانب الاقتصادية ودون حساب لإمكانيات الاستمرارية في المستقبل. ومن حكم يجنّد ويشتري البلطجية المرتزقة من الداخل والخارج ليقمع شعبه ويحيلهم الى سلاسل العبودية الخائفة من ظل الدولة.

تتوالى العطاءات الريعية, في اجواء الذعر والخشية من نفس مصائر من سقطوا تحت اقدام الثورات الناجحة, لتستمد قوة جديدة, فمن قبل ساهمت في تثبيت عجز الديمقراطية العربية واليوم تساهم في قص اجنحة الانتقال اليها. وهكذا تتضح الصورة بان الانتقال للديمقراطية في بلاد العرب لن يتم الا بانهاء الدولة الريعية كمفهوم وممارسة وواقع تاريخي متجذر استطاع افساد وتأجيل كل المحاولات للانتقال الديمقراطي السليم الشامل عبر القرون الطويلة.

2- ما يهمنا في العنوان الثاني هو الارث التاريخي الذي تمثل في شرعيات حكم مبنية على ولاءات قبلية او طائفية, وعلى شخصنة للحكم, واعتماد على شرعية لم تتطور اسسها ولا تجلياتها مع الزمن ومع تغير الظروف, وادعاء بخصوصية وتميز المركز السياسي والثروة والجاه الاجتماعي لجماعة الحكم. هنا ايضا استعمل الارث التاريخي, الذي اثبت الباحثون انه كان احد اسباب العجز الديمقراطي العربي, في التعاطي مع مطالب الثورات الجديدة.

فاستمعنا للذين طالبت شعوبهم برحيلهم وهم يذكرون شعوبهم بفضلهم على هذه الشعوب وبالخدمات السابقة التي قدموها لاوطانهم وبمكاناتهم العسكرية والثورية الغابرة. ووصل الهذيان باحدهم بان اعتبر نفسه رمزا مجسما لمجد الامة او لكيانها السياسي. الامة التي مرغ كرامتها في الوحل. لقد استمع الجميع لهلوسة سياسية من قبل شخصيات مهزوزة متعجرفة بابتذال ظلت تحاول استدرار عطف الجماهير باسم بعض القيم والعادات الثقافية العربية من مثل توقير كبار السن او حق القائد المخطئ في الحصول على فرص جديدة او الغفران للمذنبين التائبين.

لقد كانت ظاهرة عجيبة لافتة استعمال ادوات الدولة الريعية, وعلى رأسها الرشوة بالمكرمات المالية والخدمية المذلة, واستعمال شتى انواع الارث التاريخي السياسي والثقافي.. استعمال نفس الادوات التي كانت السبب في العجز الديمقراطي العربي, وذلك من اجل اقناع جماهير الاحتجاجات والثورات بان انظمة الحكم العربية في طريقها التاريخي نحو تحقيق المطالب الديمقراطية. انها احجية الكثير من الانظمة العربية في مداواة المرض بالجراثيم التي كانت في الاصل سبب المرض. من هنا الاهمية القصوى لان ترفض قوى الثورات الديمقراطية, عبر مسيرتها التي ستطول, حقنها بنفس جراثيم امراض مجتمعاتها, الثورات العربية الجديدة يجب ان تفتش عن, وتحصل على, علاجات جديدة تبقيها قوية ومعافاة من علل الماضي.

 



exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©