فجأة انطلقت شعوب الشرق الأوسط العربية والإسلامية، أقصد من تونس ومصر والأردن وليبيا واليمن والجزائر والمغرب والبحرين وإيران، وإرهاصات في سوريا وغيرها تلوح في الأفق.
وفجأة أنهار النظامان في تونس ومصر، ومازالت بعض الأنظمة في عدد آخر من الدول المشار إليها تواجه صعوبات في التعامل مع القوى المعارضة لها.
وفجأة تحولت الولايات المتحدة والدول الغربية إلى مدافعة عن حريات الشعوب العربية والإسلامية، سواء كانت هذه الشعوب تحكمها نظم حليفة للولايات المتحدة أو نظم معادية لها، وكانت الوصفة واحدة التي قدمتها الولايات المتحدة وتبعتها أوروبا بل وتركيا، ومن خلفهم أمين عام الأمم المتحدة، كما أن دولاً مثل الصين وروسيا لم ترغب أن تتخلف عن ركب تقديم الوعظ للنظم العربية، وإن كانت الصين وروسيا بلغة مخففة.
وفجأة تحولت القوى الإسلامية التي ترفض الديمقراطية وتدعو للنظام الإسلامي إلى دعاة للديمقراطية، وترفض أن تتصدر الحركات الثورية الجديدة في مصر وتونس وغيرها، وتقبل أن تكون أحد الأطراف وتعلن التزامها بالشراكة مع القوى السياسية الأخرى في المجتمع، سواء علمانية أو يسارية أو ليبرالية، بل أن عالماً إسلامياً بارزاً يخطب في ميدان التحرير بمصر ليعلن في خطبته أنه كان يقول في الماضي أيها المسلمون، والآن يقول أيها المصريون، أي المسلمين والأقباط، وهذا العلامة وأمثاله كانوا يدعون على الكفرة والمشركين والنصارى واليهود والمجوس وغيرهم لكي يهلكهم الله ويجعلهم غنيمة للمسلمين، والتساؤل الذي نطرحه هل هذه ثورات شعبية حقيقية؟ وما هي القوى الداخلية والخارجية المؤيدة لها؟ وما هو الهدف الإستراتيجي لهذه الثورات أو الحراك الشعبي؟
وبما أن الفكر النقدي هو أحد مداخل التحليل والبحث السياسي وخاصة الاستراتيجي، فإننا نلجأ إليه كمدخل لمحاولة فهم هذا التغير المفاجئ. وكما هو معلوم فإن الفكر النقدي يرفض الأخذ بالمسلمات التقليدية في الفكر أو البحث، ويبحث عن الجانب الآخر من القصة ولو من خلال منطق افتراضي.
إن كل هذه التغيرات المفاجئة لو وضعناها بجوار بعضها بعضاً لكي نفهم دلالاتها تجعل المنطق التقليدي يعجز عن تفسيرها. ولكن لا يمكن استبعاد العلاقات الارتباطية بين هذه الشواهد "ثورات لشعوب كانت مستكينة - حكام أقوياء بالسلطة ينهارون فجأة، وآخرون يهرولون لاسترضاء الشعوب، وقوى الاستعمار الجديد والقديم تدافع عن حقوق الشعوب العربية، وجماعات سياسية عقائدية ودينية تتحول لملائكة الرحمة تحتضن خصومها. ويرد على هذه الظاهرة ثلاثة استثناءات، الأول: من الولايات المتحدة التي لا ترى في شعب فلسطين، إنه مشمول برحمتها وإنسانيتها حتى في ظل الحزب الديمقراطي برئاسة الليبرالي باراك أوباما، الثاني: إيران التي ترى الثورة في مصر تحرراً من الطغيان، في حين ترى أن الثوار في إيران هم خونة وعملاء، رغم أن الشعارات واحدة في الحالتين، والمطالب واحدة، والمظالم تكاد تكون واحدة، والاستبداد واحد وحكم الفرد واحد، الثالث: عدم وجود حراك ثوري شعبي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة رغم معاناة من الاحتلال.
ماذا يقول لنا الفكر النقدي في تفسير هذه الظاهرة العجيبة؟ إنه يقدم لنا عدة افتراضات تحتاج لدراسة أعمق لتأكيدها أو نفيها أو استخلاص نتائج معينة، ونقدم هنا بعض تلك الفروض والتساؤلات وتترك للقارئ استخلاص النتائج أياً كانت تلك النتائج بالنسبة للافتراضات نذكر ما يلي
الافتراض الأول: عبر عنه مؤرخ بريطاني يدرس في الجامعات الأمريكية هو "أيان موريس Ian Morris" في كتابه التاريخي القيم الصادر عام 2010 بعنوان "لماذا يحكم الغرب الآن؟" هذه هي الترجمة الحرفية، ولكن المعنى الصحيح هو لماذا يجب أن يحكم الغرب العالم الآن؟ ويعتبر العالم نيال فرجسون Nial Ferguson، إن هذا الكتاب رغم مؤلفه متخصص في التاريخ القديم وفي الآثار، وإن الكتاب يدرس التاريخ القديم، إلا أنه من أحسن الإصدارات الحديثة، وإنه يقدم رؤية للمستقبل وليس فقط للماضي، ويضيف أن موريس مؤرخ موهوب وعبقري، وإنه ركز على مفهوم التنمية الاجتماعية كأساس لعرض فكره أي التحليل الاجتماعي للتاريخ، وإنه طرح عدة أسئلة ذات مغزى منها ماذا لو كان الصينيون وليس الأوروبيون هم الذين غزوا العالم الجديد في القرن الخامس عشر؟ والسؤال الثاني ماذا لو كان الغرب هو الذي خضع للشرق في القرن التاسع عشر بدلاً من حدوث العكس؟ والسؤال الثالث هل العالم المعاصر يتجه نحو الواحدية نتيجة الطفرة التكنولوجية أم أنه يتجه نحو كارثة نتيجة التغير المناخي والمجاعات وإخفاق الدولة والهجرات الجماعية والأمراض والأوبئة والحرب النووية؟
الافتراض الثاني: يقدمه لنا عالم سياسة أمريكي مشهور كثر الحديث عن الاستشهاد به، حتى انتقل إلى العالم الأخر، وهو صامويل هنتنجتون ونظريته في صراع الحضارات مع تركيزه على أهم حضارتين يرى أنهما تمثلان تحدياً للحضارة الغربية أي الحضارة العالمية من منظوره، وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية.
الافتراض الثالث: عبر عنه أيضاَ عالم أمريكي من أصل ياباني هو فرنسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ" بانتصار الرأسمالية على ماعداها من النظم الاقتصادية، وانتصار الديمقراطية على ماعداها من النظم السياسية. وإن تراجع فوكوياما عن فكرته جزئياً، وأدخل عليها بعض التعديلات بعد سيطرة الحزب الجمهوري والمجموعة المحافظة على السياسة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وإن كان هذا التراجع الجزئي لا يغير من جوهر التحليل، وهو يفسر ما يقصده بمفهوم نهاية التاريخ، إنه لا يعني نهاية العالم ولا نهاية التقدم، وإنما نهاية مرحلة من مراحل الصراع بين القوتين العظيمتين، وهو يعني سيطرة الغرب فكرياً واقتصادياً وحضارياً وتكنولوجياً.
الافتراض الرابع: يقدمه لنا البابا بنديكيتس السادس عشر إذ فور تنصيبه بابا للفاتيكان ألقى خطاباً في جامعة رجنسبرج Regensburg بألمانيا في أكتوبر 2006، أعاد فيها تاريخ الصراع الإسلامي مع الدولة الرومانية والأطروحات المتصلة بها حول الإسلام، وهي أفكار خاطئة روجها الصليبيون لطمأنة أنفسهم وتشويه صورة الإسلام وصورة النبي محمد (ص) بل صوره إله المسلمين. ثم استمرار البابا بنديكيتس السادس عشر في أطروحاته التي تدعو للحفاظ على الهوية المسيحية لأوروبا وعدم السماح لتركيا ذات الأصول الإسلامية بالانضمام للاتحاد الأوروبي، والأطروحة الأخيرة حول هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط، وضرورة حمايتهم من الظلم والاضطهاد، وعقده مؤتمراً في الفاتيكان لبحث هذا الموضوع. ونتساءل هل هذه الأطروحات البابوية تدعو إلى فرض وصاية جديدة على الشرق الأوسط وإعادة الامتيازات الأجنبية. وهل ثمة تناقض بين جعل أوروبا مسيحية وجعل الشرق الأوسط تعددي كما يطرحه بابا الفاتيكان؟
ننتقل إلي التساؤلات ونلخصها في الأتي
التساؤل الأول: كيف نفسر التناقض في موقف إيران من المعارضين لديها والمعارضين في مصر أو تونس أو غيرها من الدول العربية؟وكيف نفسر تحريك إيران سفن حربية إلي البحر المتوسط لأول مرة منذ عام 1979 وقد قدم تفسيرا لذلك احد المعلقين الإيرانيين في الإذاعة البريطانية العربية صباح يوم 22فبرايربقوله إن هذا يوضح أن إيران أصبحت قوة إقليمية لها وجود ومصالح في الخليج الفارسي وفي البحر المتوسط وعلي الدول الاخري الاعتراف بذلك.ونتساءل هل إيران أصبحت الولايات المتحدة لها أسطول في الخليج وآخر في البحر المتوسط؟
السؤال الثاتي: كيف نفسر هرولة النظم العربية للانهيار أو لتقديم التنازلات؟ وكيف نفسر تخلي الغرب بقيادة أمريكا عن هذه النظم الحليفة أو الصديقة بنفس ما حدث من تخليهم عن شاه إيران عام 1979 وتسليم إيران للثورة الإسلامية الخمينية؟ هل السبب هو اكتشاف جديد للولايات المتحدة حول اهمية مفهوم الحرية والديمقراطية لمنطقة الشرق الأوسط؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا لا يمتد المفهوم إلى شعب فلسطين؟ ولماذا تصر الولايات المتحدة على استخدام حق الفيتو ضد مشروع القرار الأخير في مجلس الأمن حول إدانة الاستمرار في بناء المستوطنات؟
التساؤل الثالث: كيف نفسر تحول الموقف في الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة لتدافع عن الجماعات الإسلامية وضرورة مشاركتها في الحكم في دول الشرق الأوسط. وهذا التحول أخذ مظهرين، أولهما: فكري حيث من يطلع على منشورات مراكز الأبحاث الغربية وخاصة الأمريكية يجد عدداً ضخماً من هذه الدراسات التي تتناول الفكرين السني والشيعي، والجماعات الإسلامية فيهما وضرورة مساهمتهم في السلطة، وثانيهما: تصريحات أوباما وهيلاري كلينتون والقادة الأوروبيين الداعية لنفس الشيء. وهكذا أسقط، ما أطلقت عليه النظم الموالية للغرب، "البعبع الإسلامي أو الفزاعة الإسلامية، وما أطلق عليه الغرب نفسه "الإرهاب الإسلامي"، واكتشف الغرب وخاصة الولايات المتحدة أن التجربة الدينية الطائفية والإثنية في العراق ربما تقدم نموذجاً جديداً يحقق له مصالحه بعد أن جرب النموذج اللبناني الطائفي في الماضي، لقد أخذ الغرب موقفا عدائيا من الإسلام منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وتحول لداعية للإسلام وثقافته ودوره في النظم السياسية في ظل الثورات الحديثة عام 2011، كيف نفسر ذلك؟
التساؤل الرابع نستمده من أطروحات أيان موريس وتعليق فرجسون عليه بأن لديه فهماً عميقا عن كيفية تفاعل عناصر ثلاثة هي: الثقافة والتكنولوجيا والجغرافيا. وإنه إذا حدث تجاهل الأفكار والثقافة فإن البحث التاريخي لتطور المجتمعات يتسم بالبساطة ولا يصبح مقنعاً كما يرى موريس، ونتساءل كيف تتفاعل هذه العناصر الثلاثة في تشكيل الشرق الأوسط الجديد، ويمكننا أن نضيف إليها عنصراً رابعاً هو الديمغرافيا بكافة جوانبها من الشباب، وتعاقب الأجيال، إلى استيعاب الشباب لتكنولوجيا الاتصال الحديثة، إلى الثروات المستمدة من النفط والغاز الطبيعي، إلى احتمالات الاستفادة من التكنولوجيا في خلق كوادر وطنية، إلى انتشار مراكز الفكر والأبحاث الغربية في مختلف دول الشرق الأوسط، وتراجع مراكز التحليل والفكر الوطنية، إلى دور النخب العربية الحديثة التي ترعرعت على الثقافة الغربية، والنخب القومية واليسارية القديمة التي أصبحت دعاة للحرية والليبرالية على النمط الغربي، إلى انتشار الفكر الديني والفكر الطائفي في المنطقة.نقول إن عنصر الديمغرافيا بكافة جوانبه، هو العنصر الرابع المؤثر في عملية التفاعل المعاصر. السؤال ما هي الخطوة التالية بعد انتصار أو هزيمة الثورات الجديدة في المنطقة العربية؟ وما هي دلالات الأحداث الراهنة؟ وهل نتوجه في المنطقة نحو المستقبل أم نحو الماضي؟ وهل سوف نتجه نحو فلسفة التقدم التي عبرت عنها أوروبا في عصر النهضة أم فلسفة "ما ترك الأولون للآخرين من شيء"، "وإن الجنة في الماضي" وليست في المستقبل؟ أو فلسفة أن التاريخ يكرر نفسه؟
التساؤل الخامس هل أخفق المحافظون الجدد في عهد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في استخدام القوة الخشنة بغزو أفغانستان والعراق؟ وأكشفت أمريكا في عهد الرئيس باراك أوباما أن استخدام القوة الناعمة يحقق لها أهدافها بطريقة أحسن وأفضل وأقل تكلفة؟ ويتساءل معلق آخر على كتاب أيان موريس بأنه كمؤرخ متخصص في الآثار، فإن معادلة الخرائط أم البشر هي محور بحثه، وإذا كانت الأطروحة بأن البشر هم أنفسهم لم يطرأ عليهم تغير، فإن الصراع في العالم هو حول الخرائط (أي الجغرافيا)؟
وفي تقديري أن مثل هذا التعليق يثير القلق والتساؤل والحيرة، خاصة إذا استرجعنا اتفاقيات سيكس بيكو للمنطقة العربية، وكيف أنها قسمت خرائط المنطقة، وفككت الشرق الأوسط، وأقامت العديد من الدول. لقد نجحت إدارة أوباما بالقوة الناعمة في تفكيك السودان إلى دولتين كمرحلة أولى، وهاهي تنجح أو على وشك أن تغير خرائط دول أخرى في الشرق الأوسط. إن موريس يوضح أن الغرب حكم العالم في الماضي بالقوة المادية، والآن ينبغي أن يتغير إلى الاهتمام بمقاييس التنمية الاجتماعية بما في ذلك السيطرة على الطاقة، والمنظمات، والاتجاهات الحضرية وتكنولوجيا المعلومات، والقدرة على صنع الحروب. ورغم أن كتاب موريس يركز كثيراً على دراسة الحضارة الصينية ومقارنتها بالحضارة الغربية، أي الصراع بين هاتين الحضارتين على المستقبل، فإن أحداث الثورات في الشرق الأوسط كمحور جغرافي مركزي بثقل اقتصادي وسياسي وثقافي وإستراتيجي لا يمكن تصور أنه بعيد عن فكر مورس أو المؤرخين والسياسيين والإستراتيجيين الغربيين، خاصة عندما طرح سؤاله الجوهري ماذا لو كان الشرق هو الذي سيطر على الغرب، واحتله في القرن التاسع عشر بدلاً من حدوث العكس.
إن ثورات الشعوب العربية والإسلامية في الشرق الأوسط هي ضد الظلم والاستبداد والفساد، وهذا من الظواهر القديمة، والتي توحشت في العصر الحديث، ولكن اندلاعها وانتشارها فجأة، واحتضان الولايات المتحدة والدول الأوروبية لها، وتحولهم من مناهضة الحركات الإسلامية إلى احتضانها، ومن التحالف مع الحكام الأوتوقراطيين إلى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، مسألة تثير التساؤل هل نحن أمام حرب عالمية ثقافية حضارية ثالثة، كما أطلق عليها ذلك بعض الكتاب العرب والأجانب.