EN | AR
خطاب ما بعد الكولونيالية: مراوغات الواقع
الخميس, مايو 19, 2011
عبد الحسين شعبان

 

 ما جاء به الاستفتاء السوداني طرح مجدداً مبدأ حق تقرير المصير على بساط البحث، لاسيما موضوع الاتحاد أو الانفصال، في خصوصية دول متعددة القوميات والأديان . وإذا كانت التجربة السودانية في الانفصال، حسب رغبة وإرادة شعبية لسكان الجنوب، وبتوافق دولي لم يكن بعيداً عن الأمم المتحدة، فقد سبقها انفصال إقليم كوسوفو في عام 2008 عن صربيا واعتراف العديد من دول العالم به، كدولة مستقلة، خصوصاً بعد قرار محكمة العدل الدولية الصادر في 24 يوليو/ تموز 2010 القاضي بأن الانفصال لا ينتهك قواعد القانون الدولي، وقبله استقلال إقليم تيمور الشرقية، الذي جاء بعد احتراب وعنف، بقرار من مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي جعل موضوع الانفصال لدول قائمة وذات سيادة إشكالياً وراهنياً، بتجاوز المرحلة الكولونيالية ولاعتبارات التنوّع الثقافي، وهو ما تم استعادته خلال الذكرى الخمسين للقضاء على الكولونيالية في مؤتمر رفيع المستوى انعقد في الجزائر بمناسبة صدور القرار 1514 عام ،1960 وهو الوقت الذي راجت فيه خطابات ما بعد الكولونيالية، لاسيما بصدور كتاب فرانس فانون “معذبّو الأرض” الذي كتب مقدمته المفكر جان بول سارتر .

إن الحق في تكوين كيانية مستقلة سواء للإقليم أو للشعب، على أساس الوحدة الجغرافية أو على أساس الهوية ما يزال مصدر جدل فقهي في القانون الدولي، خصوصاً ما يشوب موضوع “الأقليات” من التباسات ومفارقات وتداخلات خارجية . وإذا كان المجتمع الدولي اليوم، لا يجد ضيراً، من قيام كيانات خاصة، بل ويشجّع عليها وهو ما تمت الإشارة إليه على حساب مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وطبقاً لمبدأ حق تقرير المصير، فإن الأمر يحتاج إلى دراسة متأنّية لإمكانية تطبيق هذا الحق، من الناحية القانونية، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأوضاع والظروف السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، وانطلاقاً من رغبات شعبية قومية أو دينية أو لغوية أو غيرها، خصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة، وتفكك المنظومة الاشتراكية السابقة وتحوّل الاتحاد السوفييتي إلى دول عديدة مثلما هي روسيا وأوكرانيا ومولدافيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا وغيرها وكذلك أصبح الاتحاد اليوغسلافي بين ليلة وضحاها خمسة كيانات سياسية، وانفصلت جمهورية تشيكوسلوفاكيا في عام 1993 إلى دولتين هما: جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا بعد فيدرالية دامت عقوداً من الزمان، وغيرها من النماذج .

لقد كان هناك ثلاث رافعات أساسية تاريخياً لإعلاء حق تقرير المصير هي:

الرافعة الأولى، الحركة اليسارية الاشتراكية وتيارها الأساسي الماركسي الذي تجسّد في مؤتمر الأممية الثانية المنعقد في لندن عام 1896 الذي اتّخذ قراراً بشأن حق تقرير المصير حين أعلن “تأييده لحق جميع الأمم التام في حرية تقرير مصيرها”، كما أعرب عن تعاطفه مع: “كل بلد يقاسي حالياً من نير الاستبداد العسكري والقومي أو غيرهما” .

وقد تجلّى ذلك لاحقاً بموقف لينين بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في عام 1917 خصوصاً بإصدار مرسوم السلام ومرسوم حقوق شعوب روسيا، وفي بعض المواقف العملية من استقلال فنلندا وبولونيا ولتوانيا وأوكرانيا، على الرغم من بعض التطبيقات المشوّهة لاحقاً .

الرافعة الثانية، مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون الأربعة عشرة، والتي أكّدت مبدأ حق تقرير المصير، على الرغم من فشله في إدراج هذا المبدأ في عهد عصبة الأمم عام 1919 بسبب مواقف الدول المنتصرة بالحرب، لاسيما بريطانيا وفرنسا، ولكن الأمر تطور خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حتى صدر تصريح الأطلسي عام 1941 بين الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل، والذي تضمن مبدأ حق تقرير المصير تمهيداً لقيام الأمم المتحدة .

الرافعة الثالثة، ميثاق الأمم المتحدة الصادر في عام 1945 حيث تضمنت المادة الأولى والمادة الخامسة والخمسون منه إقرار مبدأ حق تقرير المصير كقاعدة أساسية من قواعد القانون الدولي، وهو الأمر الذي هيّأ لتطورات لاحقة أبرزها القرار 1514 عام 1960 وقرارات الجمعية العامة، لاسيما قرارها حول الحق في التصرف بالموارد الطبيعية عام ،1962 والقرار المعروف باسم “التعايش السلمي” رقم 2625 عام 1970 وقرار “حقوق الأقليات” عام 1992 والقرار حول “الشعوب الأصلية” عام 2007 ثم القرار 566 الصادر في 29 يونيو/ حزيران ،2010 حول مشاركة الأقاليم المستعمَرة سابقاً في تحقيق أهدافها .

 

من جهة أخرى كانت هناك ثلاثة أوهام حول حق تقرير المصير ما تزال بحاجة إلى إعمال الرأي والحوار بشأنها من جانب النخب الفكرية والسياسية والحقوقية .

الوهم الأول- هو أن الأنظمة الاشتراكية حلّت المسألة القومية، واتّضح بعد تجربة دامت أكثر من سبعة عقود من الزمان، أن هذه المسألة ازدادت تعقيداً وتشابكاً وضبابية بسبب تطبيقات مشوّهة وقراءات مغلوطة وإرادوية، ليست بعيدة من أنظمة شمولية لم تكن تخلو من نزعة الهيمنة والاستعلاء للقومية الأكبر، الأمر الذي قاد إلى انعزالية وضيق أفق لدى القوميات الأصغر، خصوصاً الشعور بالاضطهاد والتمييز وهو ما شجّع على الانفصال .

الوهم الثاني- إن البلدان النامية والمتخلّفة هي التي تعاني من مشكلة قومية داخلية، في حين أن البلدان الصناعية المتقدمة والديمقراطية تجاوزت المسألة القومية بتحقيق المواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان . واتّضح أن البلدان المتقدّمة والديمقراطية تعاني هي الأخرى من مشكلة قومية، بما فيها أنظمة فيدرالية، كما هي بلجيكا مثلاً التي قد تلجأ إلى الحل الانفصالي على الرغم من نظامها الديمقراطي العريق وفيدراليتها المتميّزة، خصوصاً احتدام الصراع بين الفرنكوفونيين والفلامانك . وكذلك إسبانيا حيث توجد المشكلة الباسكية، التي قامت على أساس التمايز والخصوصية اللغوية والثقافية، الأمر الذي دفع المجموعة المتمرّدة إلى تأسيس منظمة إيتا، الدعوة إلى حق تقرير المصير واختيار أسلوب الكفاح المسلح . ولم يكن ذلك بعيداً عن مشكلة ايرلندا في بريطانيا واختيار الأساليب العنفية، الذي كان طرفاه البروتستانت والكاثوليك، ويمكن ذكر مشكلة رابطة الشمال الإيطالية والمشكلة الكورسيكية في فرنسا، وبالطبع هناك المشكلة القومية في كندا، لاسيما إقليم كيبك . وهكذا فالمسألة القومية لا تقتصر على البلدان المتخلّفة أو النامية .

الوهم الثالث- هو أن الدول القومية هي نتاج الثورة الصناعية وقد انقضى عهدها، وإذا بنا أمام انبعاث قومي جديد، بل إن عصراً جديداً من “الكيانية القومية” أخذ يبسط جناحيه على العالم منذ انتهاء عهد الحرب الباردة، تتساوى فيه دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير، حيث تتطلع شعوب كثيرة إلى ممارسة هذا الحق على نحو ينسجم مع مبادئ حق تقرير المصير، خصوصاً الشعب الكردي، لا في العراق فحسب، بل في الأقطار التي يعيش فيها، لاسيما تركيا التي يوجد فيها نحو ستة عشر مليون كردي وإيران التي يتجاوز عدد الأكراد فيها عشرة ملايين وسوريا التي يتجاوز فيها عدد الأكراد المليون ونصف المليون كردي أو يزيد على ذلك كما تقول بعض التقديرات .

وإذا كان هذا الصراع يتصاعد أحياناً وينخفض في أحيان أخرى، فإن أية احتدامات دولية وإقليمية، تؤثر فيه، وقد لمست صعود نبرة حق تقرير المصير ذات الطابع الاستقلالي، في متابعة أوضاع الاستفتاء السوداني في إقليم كردستان العراق خلال محاضرة ألقيتها في رابطة كاوا الثقافية في أربيل، مثلما كانت ردود الفعل العربية (القومية) شديدة من جانب القوى التي ترفض مبدأ الانفصال تحت أية ذريعة أو حجّة، من دون الاكتراث بمصير التنوّع الثقافي الإثني واللغوي والديني ورغبات السكان التي هي الأساس . ولعل مقابل الوحدة بأي ثمن، هو تأييد الاستقلال أو الانفصال بأي ثمن، وهذا وذاك قد ينجم عنه المزيد من المشكلات المجتمعية والدولية .

ومع أن هناك تبايناً بين مؤيدي الاستقلال، فهناك اختلاف بين دعاة الوحدة أيضاً، لكن دائرة النظر إلى الوحدة أو الاستقلال بدأت تتخذ منحى إنسانياً وحقوقياً وديمقراطياً وسلمياً، أكثر من قبل، خصوصاً بفشل جميع الحلول العسكرية ومحاولات الصهر، لاسيما بارتفاع وتيرة النبرة القومية والمطالبة بالاستقلال بناءً على رغبات السكان المعبّر عنها باستفتاءات حرّة ونزيهة، وهو ما حصل في جنوب السودان مثلاً، على الرغم من أن الموقف ما زال مشوشاً بسبب النظرة التشكيكية المسبقة لأي مطالبة بحق تقرير المصير، انطلاقاً من الاستعلاء والتعصب القومي، يقابلها النظرة الانعزالية وضيق الأفق كردود فعل .

وإذا كان المجتمع الدولي يراقب ويتدخل في ما يحصل في العالم، ولاسيما في البلدان النامية من تجاوز وانتهاك للتنوّع والتعددية الثقافية، فإن عدالة القضية وحدها لا تكفي لتأمين هذا الحق القانوني، إنْ لم تتوفر إرادة سياسية وبيئة محلية وإقليمية ودولية مناسبة وقراءة صحيحة للحظة التاريخية، لأن الخطأ في أي منها سيقود إلى نتائج عكسية، قد تعود بالضرر على الشعوب المضطهَدة وعلى التعددية الثقافية والتنوّع القومي والديني واللغوي وغيره، مثلما يعود بالضرر على الكيان الأول (الأصلي) بالمزيد من التصدّع والاقتتال والاحتراب وتبديد الثروات .

وإذا كانت الرغبة في العيش المشترك أو الرغبة في الانفصال متوفّرة لدى طرف من أطراف “الشراكة الوطنية”، فليكن ذلك سلمياً وودياً ووفق اتفاقات ومصالح مشتركة ومنافع متبادلة وعلاقات تاريخية، لاسيما بين المكوّنات والشعوب والأمم، المختلفة والمؤتلفة، المتّصلة والمنفصلة، الموحّدة والمتعدّدة .
 
وطالما أن الاعتراف مبدئياً بوجود كيانات ثقافية متنوّعة قومياً ودينياً، فلا بدّ من الإقرار بمبدأ المساواة ومراعاة التمايز والخصوصية وحق تقرير المصير، سواء بالاتحاد أو الاستقلال، وعلى قاعدة المشترك الإنساني التي هي الأساس، في مواجهة مراوغات الواقع .
 
فالإنسان مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©