هل يتغيّر جوهر السياسة الخارجية الأميركية بتغيّر الإدارات الحاكمة، وهل يؤثّر كثيراً تنقّل "البيت الأبيض"، بين رئيس "جمهوري" وآخر "ديمقراطي"، على هذه السياسة؟! أمْ أنّ هناك "مصالح أميركية عليا" يتواصل العمل لتحقيقها وللدفاع عنها، من قبل مؤسسات وأجهزة لا تخضع للتغييرات السياسية الطارئة في "البيت الأبيض"؟!. الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد طبعاً وجود أهداف ومصالح ومؤسسات أميركية، محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأميركية من تحوّلات وصراعات انتخابية محلّية.
ولعلّ أبرز مضامين الرؤية الأميركية للشرق الأوسط في مطلع القرن الجديد، هو ضمان التحكّم مستقبلاً في منابع النفط، كأحد أهمّ مصادر الطاقة الدولية، لعقود عديدة قادمة، خاصّةً وأنّ المنافسين الجدد للقطب الدولي الأعظم حالياً يعتمدون في نموّ اقتصادهم على نفط الشرق الأوسط، إضافةً طبعاً إلى التنافس الدولي التاريخي على ما تمتاز به المنطقة من موقع جغرافي إستراتيجي.
فالحرب على أفغانستان في نهاية العام 2001، ثمّ الحرب على العراق في مطلع العام 2003، وما رافق هاتين الحربين من انتشار عسكري أميركي في محيط دول الشرق الأوسط، وإقامة قواعد في بعضها، كانت وما تزال أعمالاً عسكرية من أجل خدمة رؤية سياسية لها مضامين أمنية واقتصادية.
وتعلم واشنطن أنَّ " خيط النفط " لا يمكن مسكه فقط من طرف واحد في منطقة الخليج، المصدّرة والخازنة لأهم مصادر الطاقة العالميّة. لذلك فإنَّ اختلال معادلة مسك " خيط النفط "، بعد سقوط نظام الشّاه في إيران، قد أدّت إلى ابتداع نظريّة (الاحتواء المزدوج)، وإلى دعم نظام صدّام حسين في حرب مدمّرة مع إيران، طوال عقد الثمانينات، مع توظيف كبير لأخطاء السياسة الإيرانيّة تجاه الجوار العربي. وإذا كان عقد الثمانينات قد تميّز بدعم واشنطن المباشر وغير المباشر لطرفي الصراع المسلح في الخليج، رغم الاعتراض الأميركي على طبيعة نظامي الحكم في بغداد وطهران، فإنَّ عقد التسعينات كان مرحلة "العزل المزدوج" لهذين النظامين، دون الوصول إلى إسقاط أحدهما أو هزيمته لصالح الآخر.
لذلك، كان محتّماً في السنوات الماضية التركيز الأميركي على إيران، بعدما أسقطت واشنطن نظام صدّام حسين بالقوة العسكرية الأميركية، ولم يحصل في العراق ما كانت تراهن عليه الإدارة الأميركيّة، من وجود وضع سياسي عراقي يعكس واقع قوّة عسكريّة أميركيّة ضخمة احتلّت أرض العراق، وعلى امتداد حدوده مع إيران.
فإيران استفادت ولم تضعف من حصيلة سقوط نظام صدّام حسين، وكسبت (كما تركيا أيضاً) نفوذاً سياسيّاً وأمنياً في العراق، بينما كانت المراهنة الأميركيّة أنَّ زلزال غزو بغداد سيجعل الأرض تهتزّ تحت نظام طهران، الأمر الذي لم يحدث.
ولقد سعت إدارة بوش في ولايتها الثانية لتوظيف سياسي وأمني واقتصادي، لما قامت به الإدارة بعهدها الأوّل في المجال العسكري، وما زال هذا التوظيف الأميركي مستمرّاً على أراضي الشرق الأوسط، في العديد من بلدانه، رغم تغيّر الإدارة في واشنطن.
ولأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الرؤية الأميركية المطلوبة للمنطقة، فقد عملت "المؤسسات الأميركية" على توفير ثلاثة عناصر سياسية، وبشكلٍ متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:
1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في بعض دول العالم الإسلامي لتصبح مبنيّةً على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية.
فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية، كما جرى بين واشنطن وبعض بلدان أوروبا الغربية، أو مع الحكومة التركية، بشأن الحرب على العراق سابقاً.
أيضاً، فإن إثارة الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر "سياق ديمقراطي" ضابط لها في إطار من الصيغة "الدستورية الفيدرالية"، يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمر يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود بالرؤية الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمر، في ظلّ حروب أهلية ومفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثير من أطراف تناهض السياسة الأميركية.
إضافةً إلى أنّ "التركيبة الفيدرالية" القائمة على "آليات ديمقراطية" ستسمح للولايات المتحدة بالتدخّل الدائم مع القطاعات المختلفة، في داخل كلّ جزء من ناحية، وبين الأجزاء المتّحدة فيدرالياً من ناحية أخرى، وهذا ما حدث في تجربة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
2- التركيز على هويّة "شرق أوسطية" كإطار جامع لبلدان المنطقة، إذ أنّ العمل تحت مظلّة "الجامعة العربية" أو "المؤتمر الإسلامي" يمكن أن يؤدّي مستقبلاً إلى ما ليس مرغوباً به أميركياً، من نشوء تكتّلات كبرى متجانسة ذات مضامين ثقافية متباينة مع الرؤية الأميركية. لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في "الشرق الأوسط الكبير" المنشود أميركياً، إذ بحضوره الفاعل، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل.
3- العنصر الثالث المهم، في الرؤية الأميركية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وقبل تحقيق التسوية الشاملة. ويجد صانعو القرار الأميركي أنّ تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء ظاهرة المقاومة، حتّى من غير تسويات سياسية شاملة.
إذن، كخلاصة، فإنّ حروب واشنطن في "الشرق الأوسط"، مع بدء القرن الحالي، أرادت من خلال (النموذج العراقي) "ديمقراطيات سياسية" في المنطقة، لكن ليس إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي. فهي حروب شجّعت على صراعات سياسية محلية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، ولكن ليس إلى حدّ الصراعات الأهلية المفتوحة، وهذا ما حصل في ضبط صراعات العراق ولبنان والسودان. حروب رغبت بانتاج صيغٍ فيدرالية جامعة لأجزاء متباينة في كلّ وطن، لكن ليس إلى حدّ الانصهار الوطني الكامل. حروب أرادت إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي، لكن ليس بالاعتماد على الحقّ والعدل، بل على ما تحدّده المصالح الأميركية/الإسرائيلية المشتركة. حروب سعت إلى ترسيخ التواجد العسكري والأمني في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بأوضاع حروب داخلية استنزافية، أو الاضطرار لإبقاء قوات كبيرة العدد إلى أمد مفتوح.
ولعلّ خلاصات هذه الرؤية تفسّر المواقف الأميركية الآن من عدّة حكومات ومعارضات وقضايا عربية، تتفاعل في عام ما عُرف باسم "الربيع العربي". ولم يكن ممكناً طبعاً فصل ملف الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفات "الأزمات الأخرى" في المنطقة العربية، وعن حلفاء طهران في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع، حدث أو قد يحدث، فيما فُتِح الآن من أزمات عربية.
ومن رحم هذه الأزمات على الأراضي العربية توالدت مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان وما يزال من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ الحراك الشعبي العربي الحاصل ضدّ حكومات الاستبداد والفساد، وما يرافق هذا الحراك من عنف مسلح وصراعات سياسية وتنافس على الحكم، وأحياناً على المعارضة.
ومع اقتراب عام انتخاب رئيس أميركي جديد، نجد أنّ مفاصل السياسة الأميركية في المنطقة العربية تحديداً، والشرق الأوسط عموماً، ما زالت مشدودةً في إدارة أوباما إلى رؤية الإدارة السابقة، ولم تحدث فكفكة لهذه السياسة، ولا جرى تراجعٌ فعلي عن مضامينها.
لكن من دروس "التجربة الأميركية" في العراق أنَّ السياسة الأميركية، التي طرحت مقولة "النموذج الديمقراطي العراقي" للمنطقة، والتي أعلنتها إدارة بوش عقب غزو العراق مباشرة في العام 2003، قد أرفقتها لاحقاً بشعار "الفوضى البنّاءة"، ثمّ بأطروحة "الشرق الأوسط الجديد" عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وكلّها سياسات أميركية أثبتت التطوّرات الراهنة استمرار العمل من أجلها، رغم التغيير الذي حصل في "البيت الأبيض". والمحصّلة من ذلك كلّه، أنّ إدارة أوباما قد مارست مراجعة عميقة لهذه السياسة، على أعلى المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية في واشنطن، ولكن دون تراجع عن مضامينها، فصُنّاع القرار الأميركي يأملون الآن كثيراً في تحقيق أهداف السياسة الأميركية في "الشرق الأوسط"، من خلال تفاعلات الصراعات المحلية والإقليمية الدائرة بالمنطقة، ودون حاجة لتورّط عسكري أميركي مباشر في أيٍّ من بلدانها!.