الصفيق-أو "البجح" بالعامية المصرية- هو الذي يجمع، في سلوكه وأقواله، الوقاحة بالإفتراء، فينسب لغيره بجرأة العيوبَ الشخصية الخاصة به. هذا ما خطر ببالي وأنا أقرأ التصريحات التي أدلى بها لقناة"جيويش تشانل"، "نيوت غينغريتش"الرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي، وأحد المنافسين للفوز بترشيح "الحزب الجمهوري" للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة المزمع اجراؤها في نوفمبر- تشرين الثاني من العام 2012.
والصفاقة والابتذال تقليد مألوف في موسم الانتخابات الاميركية.
فهو موسم الصراع الداخلي الأشد ضراوة الذي تجند فيه القوى والشخصيات المتنافسة كل طاقاتها، وتطلق غرائزها الوحشية على مداها، مبيحة لنفسها استخدام كل شيء ما دام يفيدها في كسب الداعمين وإضعاف الخصوم.
لكن صفاقة السيد غينغريتش، تجاوزت حدود المناورات المعتادة والمزايدات الرخيصة المتعارف عليها بين المرشحين، والرامية إلى كسب دعم وتأييد الجماعات الصهيونية واليهودية، ذات التأثير المعروف في الأوساط الأميريكية، بما تمتلكه من علاقات ونفوذ قوي، وبخاصة في مجالي المال والإعلام.
غينغريتش لم يكتفِ بالمزايدة على "باراك أوباما" في مدى دعم "إسرائيل"، بل نسب إليه ما لا يعمله أصلاً، فانتقد جهوده لإحلال السلام في الشرق الأوسط! ووقوفه على الحياد في الصراع بين "إسرائيل" والفلسطينيين! وهو الأمر الذي لا يجوز برأيه لأن الفلسطينيين ليسوا أكثر من جماعات ارهابية، حيث تتشارك السلطة الفلسطينية مع حماس في الرغبة بتدمير "إسرائيل"! وللتدليل على تهافته في الولاء الكلي "لإسرائيل"، فقد زايد حتى على "الإسرائيليين" أنفسهم، فقال أن رؤيته للعالم(هكذا قال، وليس "للشرق الأوسط" فقط!) قريبة جداً من رؤية نتانياهو!
ولو أن تهريجه توقف عند هذا الحد، لطوينا صفحته وقلنا انها الحكاية المعتادة: مرشح يسوِّق نفسه ويعرض بضاعته للبيع!
لكنه أبى الا أن يتحاذق ويتنطع، مستغلاً وظيفته كأستاذ للتاريخ، في الزعم بأن الفلسطينيين شعب تم اختراعه! وأن الحل (لمشكلتهم) يتحقق بدمجهم في العالم العربي الذي هم جزء منه!
ولم ينكر الفلسطينيون في أي وقت، أنهم جزء عضوي من الأمة العربية، وأن وطنهم التاريخي: "فلسطين" جزء من الوطن العربي الأكبر، وليس "العالم" العربي، كما قال غينغريتش.
أما حكاية أنهم "ارهابيون" و"شعب تم اختراعه" فهذا كلام مردود على قائله الذي ينتمي لدولة-الولايات المتحدة- تم اختراعها حديثاً. ويدافع عن دولة-"إسرائيل"- لم تظهر إلى الوجود إلا قبل بضعة عقود من السنين. وإذا كان لدولة أن توصف بالإرهاب، وبجدارة عالية، فهي الولايات المتحدة، و"إسرائيل" اللتان تأسستا وقامتا، بطرقٍ استعمارية عنصرية، على إبادة وتهجير السكان الأصليين، وشن الحروب العدوانية المتواصلة على بلدان وشعوب العالم. وإختلاق "اسرائيل" الحالية("شعباً" و"دولة") بإرادة وسياسة استعمارية بريطانية، أمر معروف للمتابعين وللشهود الأحياء المعاصرين. أما "إختلاق إسرائيل القديمة"، فأمر يعرفه المؤرخون والباحثون الآثاريون. ولكي لا نستشهد بمراجع لباحثين عرب- قد لا تقبل روايتهم- فإننا نشير إلى كتاب:"إختلاق إسرائيل القديمة" للباحث "كيت وايتلام"، وكتاب:" إختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني" للباحث"إسرائيل فنكلشتاين" استاذ علم الآثار في جامعة "تل أبيب". وحقوق الفلسطينيين في وطنهم، ليست وليدة اللحظة، ولا هي عمل من أعمال الفبركة والإختلاق. فهي حقوق طبيعية تاريخية أصيلة، تستند لآلاف السنين الممتدة منذ عهد الكنعانيين، الذين قدموا للبشرية أحد أعظم إنجازاتها الخالدة ألا وهو: إختراع الأبجدية.
وفي التاريخ المعاصر، فقد أفصح الفلسطينيون عن حقوقهم وتطلعاتهم بشكل موصول منذ الإحتلال البريطاني لفلسطين. وإذا لم يكن مدعي "الأستاذية" في التاريخ، السيد غينغريتش، معنياً بالإطلاع على المصادر الفلسطينية والعربية، فبإمكانه أن يعود إلى أرشيف الدولة الأميريكية، ليطلع على الوثائق التي تضم إفادة "لجنة كنج- كرين" التي شكلها الرئيس الأميريكي الأسبق "وودرو ولسون" في مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 وأرسلها لتقوم بمهمة التعرف على آراء أهل فلسطين- وعموم سورية- وإستطلاع إرادتهم فيما يتعلق بمصيرهم ومستقبلهم.
إن أغرب ما في أقوال غينغريتش، هو أنه يعود لترداد آراء صهيونية صبيانية عنصرية قديمة، أنكرت وجود الشعب الفلسطيني،وبالتالي حقوقه، لم يعد يرددها أحد جاد-علناً على الأقل- حتى في "إسرائيل"! وهذا لا يضع أفكاره فقط خارج التاريخ، بل يسِمه بالصفة المستحقة الملائمة: الصفاقة.
لكننا سنكون محظوظين إذا ما حظي غينغريتش بترشيح "الحزب الجمهوري" وفاز بمنصب الرئاسة، وأصر على آرائه السابقة، وبخاصة رأيه في الجهود السلمية! لأنه قد يريحنا مما نكابده مع"جماعتنا" المُصِرِّين على التمسك بها كخيار وحيد!
ومع معرفتي شبه الأكيدة بأن أمنيتي هذه بعيدة، إلا أنني آمل.. ففي الأمثال الشعبية، يقولون أن"رزق الهِبِل على المجانين!".