يكثر القلق وتتعاظم الهواجس بعد التغييرات التي حصلت في عدد من الدول العربية بخصوص الحقيقة والمصالحة، ولا سيّما بعد ما حصل في مصر بعد ثورة 25 يناير العام 2011، وأيضاً وعلى نحو أشد، بعد ما حصل في 3 تموز (يوليو) العام 2013 حيث تمت الإطاحة بحكم "الأخوان" بتدخل من الجيش، وهو الأمر الذي قد يواجه حكم النهضة في تونس، خصوصاً بارتفاع وتيرة الجدل حول مبادرة " الرباعية" التي بلورها الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي تقضي بتقديم الحكومة استقالتها، وقد استمر النقاش بين الجذب والشدّ حول قانون العدالة الانتقالية، منذ ثورة الياسمين والكرامة كما أطلق عليها، ولكنه لم يحسم حتى الآن، وهو الأمر المطروح في مصر وليبيا واليمن وكذلك في سوريا على الرغم من أن الصراع لم يحسم فيها بعد.
صحيح أن لكل دولة ديناميكيتها الخاصة، وهذا يعني أننا أمام صورٍ متنوّعة وفسيفسائية على درجة كبيرة من الاختلاف، وإنْ كانت بعض مدخلاتها ومخرجاتها مشتركة أو متشابهة، ولعلّ سؤالاً على غاية من الأهمية يتردّد صداه في جميع الدول التي حصلت فيها تغييرات، سواءً بالانتقال من حكم تسلطي استبدادي صوب الديمقراطية أو من حالة الحرب الأهلية إلى السلم أو بعد انهيار نظام قانوني أو انتهاء احتلال أو غير ذلك وجوهر السؤال يتلخّص بـ: كيف السبيل للتعامل مع الماضي، ولا سيّما مع ظواهر العنف والانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان؟ ولا بدّ من التنبّه عند الحديث عن العموميات، إلى الخصوصيات الضرورية لكل تجربة، سواءً ما يتعلّق الأمر بحجم ونوع الصراع الذي كان دائراً، هل هو صراع آيديولوجي، كما حدث في أمريكا اللاتينية أم صراع ديني أو إثني أو مذهبي أو اتسّم بشيء من ذلك، فالأمر مختلف وما يترتب عليه من احتمالات للحلّ مختلفة أيضاً، لا سيّما ما يتركه في الذاكرة من آثار أليمة، إضافة إلى خصوصية المسعى لتحقيق الذات والحفاظ على الهوّية الخاصة الفرعية أو الكيانية.
وبعد ذلك فإن مسلسل الانتقال نحو الديمقراطية هو الآخر يمتلك خصوصية، ففي بعض البلدان التي شهدت هزيمة عسكرية مثل اليونان والأرجنتين والعراق وليبيا، فإن المسار كان مختلفاً عن بلدان ظلّ جيشها متماسكاً، كما هي حالات تونس ومصر وقبل ذلك البيرو والتشيلي، حيث لم يتعرّض الجيش إلى هزيمة أو إهانة، وحتى الهزيمة التي تعرّض لها كانت سياسية وليست عسكرية مذلّة.
ولا بدّ من التأكيد أن الحلّ المثالي غير متوفر، وأن تحقيق العدالة بالمطلق غير ممكن، وكلّ شيء نسبي وليست هناك حلولاً كاملة، ولكن يمكن القول هناك حلولاً جيّدة وأخرى سيئة، ولا بدّ من إرادة سياسية، وجهد بشري مثابر لتحقيق أكبر قدر من العدالة وكشف الحقيقة وإنجاز المصالحة الوطنية وتأمين السلم الاجتماعي.
وبالنسبة للحقوقيين لا بدّ من التمسّك بالجانب الأخلاقي والإبقاء على الوعد بإمكانية الوصول إلى العدالة وعدم المساومة على أية عملية غير مشروعة بالانجرار أحياناً وراء السياسيين، وأخيراً لا بدّ من الركون إلى تقديم معلومات دقيقة وتحقيق جلسات استماع للضحايا للتخفيف عن معاناتهم، وفي الوقت نفسه تهيئة المستلزمات للمرتكبين للتطهّر من خطاياهم بالاعتراف والاعتذار، وهو ما حصل في جنوب أفريقيا والبيرو والمغرب، في حين لم يحصل مثل هذا الأمر في الأرجنتين والتشيلي، لاعتقاد خاطئ أن الحاجة النفسية إلى الإنكار هي الطاغية، وهو ما أثبتت الكثير من التجارب عكسه، حيث كانت جلسات الاستماع مفيدة ومؤثرة في الإبقاء على الذاكرة حيّة وتجنّب تكرار ما حصل، تمهيداً للتحوّل الديمقراطي.
لقد عرفت الأرجنتين مصطلح التحول الديمقراطي، الذي تم نحته وتطويره من جانب محامين وحقوقيين وأساتذة جامعة وعلماء سياسة وقانون، وهؤلاء اشتغلوا على أمريكا اللاتينية، وقصدوا منه الانتقال من الحكم البيروقراطي السلطوي إلى الديمقراطية. وبعد سبع سنوات من الدكتاتورية سلّم العسكر السلطة إلى المدنيين إثر حرب العام 1983 وهزيمة الأرجنتين على يد بريطانيا في جزيرة الملوين، وقد أجريت أولى الانتخابات الديمقراطية، وتحققت تجربة انتقالية بعد انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان. وقد شعر الجيش بعمق الهزيمة الاستراتيجية، وجرت مراجعات فيها شيء من النقد الذاتي، في حين أن بعض القوى ظلّت متشبثة بالماضي.
لكن مثل هذا الاعتقاد لم يكن صحيحاً، فعلى الرغم من هزيمة الجيش الاّ أنه ظلّ يحتفظ باحتكار السلاح في أنحاء البلاد، وهو الأمر القريب من التجربة اليونانية (أواسط السبعينيات) فبعد هزيمة الجيش اليوناني في قبرص على يد الأتراك، إنهار النظام العسكري في العام 1974. وفي اليونان أيضاً احتفظ الجيش باحتكار السلاح. صحيح أنه كان محبطاً، لكنه بقي مدجّجاً بالسلاح، وهو الشيء نفسه الذي حصل في الأرجنتين، وهناك تشابه في الحالتين. وقد حصل مثل هذا الأمر في العراق بعد هزيمة الجيش العراقي في الكويت العام 1991، لكنه ظلّ مُمسكاً بمقاليد الأمور، واستطاع القضاء على الهبّة الشعبية التي شملت 14 محافظة.
في الأرجنتين، مثلما في اليونان، كانت مبرّرات النظام مواجهة "الخطر الشيوعي"، وكلا النظامين سقط بسبب الهزيمة العسكرية في حرب مع عدو خارجي، وقد قرر الرئيس الأرجنتيني ألفونسي أن يفتح الباب للمحاكمات، لكّن الأمر كان في غاية الصعوبة بسبب الانتهاكات الواسعة، وكان قد صادف أن الجيش استعاد انسجامه الداخلي بعد عامين من انتهاء الحرب، وظهرت بعض أعمال العنف والأعمال المسلّحة، وكان الانطباع السائد أن الذي يقف وراءها هو الجيش، ولهذا شعر الرئيس بصعوبة الواقع بالتدريج، وهو الأمر الذي لم يظهر بعد سقوط النظام العسكري مباشرة .
في حالة ألمانيا النازية فقد كان الأمر مختلفاً، فالجيش الألماني بعد دخول الحلفاء، برلين، استسلم دون قيد أو شرط، وكذا الحال بالنسبة للجيش الياباني. أما في حالة الأرجنتين فقد انهزم الجيش، ولكنه احتفظ بأسلحته وكيانيته، وكذلك في اليونان والعراق وإنْ تعرّض الأخير إلى حظر عسكري واقتصادي وعقوبات شاملة وقضم تدريجي. في تجربة الأرجنتين اتخذ الرئيس قراراً جريئاً ومستقبلياً حين وقّع على القانون المشهور "نقطة النهاية" (بوينتو فينال)، محدداً الفترة التي لا يمكن بعدها أن تقدّم أية شكوى للمحكمة، وقانون آخر سمّي "بقانون الامتثال للواجب"، والذي يلغي مسؤوليات أي عسكري في مرتبة تقل عن مرتبة كولونيل، على اعتبار أن الواجب يفرض الامتثال لأوامر الرؤساء.
لم تستجب هذه الوضعية لمتطلّبات العدالة كاملة، لكنه لم يكن من الممكن تجنّبها، وكان لا بدّ من التصرّف بمستقبلية إزاء الانتهاكات، وليس بماضوية. ولا يمكن تأمين العدالة وكشف الحقيقة كاملة من خلال المحاكمات وحدها، مثلما ليس العفو وحده طريقاً أكيداً لتأمين السلام الاجتماعي، والأمر يحتاج إلى سياقات تاريخية وخطط للمصالحة من خلال السعي لكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني.
في العام 1984 عرفت الأرغواي الانتقال الديمقراطي، حيث تسرّبت العدوى الإيجابية إلى هذه الدولة الصغيرة المجاورة للأرجنتين، وتم الاتفاق على دستور جديد مع الجيش الذي خسر الاستفتاء، وقد تفاوض العسكريون على كيفية خروجهم من السلطة وفقاً لضمانات بعدم ملاحقتهم. الحكومة الأرغواية لم تحقق الشيء الكثير على عكس من حكومة ألفونسي في الأرجنتين الذي سعى إلى أكثر مما كان بمقدوره أن يتحقق. ولعل مثال الأرجنتين والارغواي هما مثالان مختلفان من حيث الإداء.
أما في التشيلي فقد انهزم بيونشيه "سلمياً" في العام 1988 وبعد كفاح طويل من جانب المعارضة، عندما دعا لاستفتاء حول تجديد ولايته لثمان سنوات أخرى، ففشل في ذلك، وفي العام 1989 أجريت انتخابات تنافسية حيث فازت أحزاب المعارضة، ولا سيّما أحزاب الوسط ويسار الوسط، وهو التحالف الذي استمر لنحو ثلاث عقود من الزمان، تعاقبت فيها حكومات إئتلافية.
وبخصوص تجربة البرازيل فقد مرّت بمراحل مختلفة، حيث شهدت انقلاباً عسكرياً شعبوياً في العام 1964، وسارت البلاد وحكومتها العسكرية نحو المسار السلطوي منذ العام 1968، وهو نظام شبيه بالأرجنتين والارغواي والتشيلي. واستمرت الطغمة العسكرية البرازيلية فترة تاريخية أطول، وبعدها عاشت فترة "انفتاح" سميّت باللغة البرتغالية "أوبرتوار".ولهذا عندما حدث التحوّل التدريجي فيها من خلال الانتخابات العام 1985، كانت أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان قد وقعت (خلال الفترة الماضية)، الأمر الذي ساهم في تهدئة الأجواء، على عكس ما وقع في الارجنتين التي عرفت تحوّلاً مفاجئاً، وقد حدثت الانتهاكات خلال فترة الانتقال التي لا زالت حديثة العهد.
وتزعّم الكاردينال أرنس وهو أسقف ساو باولو محاولات الكشف عن انتهاكات الماضي، فاجتمع مع عدد من الطوائف البروتستانتينية وأصدوا تقريراً بعنوان "البرازيل كما لن تتكرّر". وهو تقرير مؤثّر ولقي انتشاراً واسعاً. فهل يمكن مقاربة الأمر عربياً في مصر وتونس وليبيا والعراق واليمن وسوريا وغيرها، وكل على طريقته مع ضمان الوصول إلى الحقيقة والمصالحة في إطار العدالة المنشودة!