قضينا يومين متابعين لمداولات القمة العربية الخامسة والعشرين، نستمع الى خطب امتدت بين تمنيات وبين الينبغيات
وبين روتينيات، وقليل من المواعظيات، فيھا أمل، وفيھا شكوى وتذمر، وفيھا أسى على ما ضاع وأكثر من ذلك في
صرخات الاستغاثة، وطلب النجدة وفيھا المضحكات أيضا.
واذا جاز لي ان أبدأ بالايجابيات فلن أحيد عن الواقع في اطار كتيبة الكويت بقيادة سمو الامير، واذا كان سموه أمد القمة
بحقن الحكمة وفضيلة الصبر ونعمة التفاؤل في ادارة رشيدة وعادلة تمثل فيھا موقع الأمل في تجاوز تعقيدات المؤتمر،
فلا شك بأن الآخرين من أفراد الكتيبة الكويتية قدموا نموذجا لعلو الترتيبات واتقان التنظيم وأجادوا في الصياغة وفي
استحضار أجمل متطلبات القيادة، وھي الكفاءة، بالاضافة الى روح وطنية تسيدت الأعضاء في سخاء العطاء وفي تقدير
المسؤولية، وفي أولوياتي، رجال الأمن الذين تحملوا الكثير في تأمين سلامة ھذا العدد الھائل من قيادات ووفود وصحافة
وزوار.
كنت أستمع الى كلمات سمو الأمير فيتحدث في وفاء واضح لعمل المستحيل للوصول الى منفذ تاريخي يشكل المعبر القادم
لمؤاتمرات المستقبل في التعامل مع ما تريده الشعوب في التنمية والانطلاق والبعد عن الشعارات والخياليات التي تسيدت
العمل العربي المشترك سابقا.
وأود ان أبدي بعض الملاحظات على ما جاء في كلمات القيادات التي مثلت دولھا في ھذا المؤتمر:
أولا - أعتقد بأن الشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر أجاد في التحضير لخطابه الجامع في بداية المداولات، وأعتقد بأنه
شخصيا مشروع نجاح جذاب في انطلاقاته وفي روحه، اذا ما اختار المسار المستقبلي المنطلق بعيدا عن قيود الارتباطات
في تجمعات لھا اجتھادات مختلفة عن المزاج العام للمؤتمر وغير مرغوب في وجودھا داخل المداولات.
وأعتقد بأنه أجاد في اشارته الى العراق وشكوى رئيس الوزراء العراقي في تحميل الآخرين أعباء الانقسام السياسي
والطائفي في العراق، لكني لا أتحمس لتصوراته لقدرة قيادة حماس في غزة على الاسھام في تحقيق الممكن للدولة
الفلسطينية، فالواضح ان الأجندة في غزة بعيدة عن الواقع وھي من افراز الخياليات.
ثانيا: في كلمة سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العھد في المملكة العربية السعودية، استحضار للأولويات التي
تراھا الرياض في ھذه الفترة، وھي فلسطين وسورية والارھاب، وتمنيت لو ان سمو الأمير أضاف وبشكل حاسم في
الدعوة الى التآخي التجاري والاقتصادي والسياحي مع الاصرار على ضرورات تعديل القوانين التي أضرت بالدول التي
تدعو الى الاستثمارات في بلدانھا دون تبدلات في ھيكلتھا الاقتصادية، فالدعوة الاقتصادية لتصحيح الأنظمة الصادرة من
المملكة لھا صدى، ولأسباب معروفة.
ثالثا – استمعت الى كلمة الرئيس المستشار عدلي منصور وھي خطبة الوقار والنضج، صوته ترجمة لحقائق مصر في
الأخوة وفي تلقائية الترحيب وانسياب الطيبة، وحب الخير، وصوت مصر الحالي غير ذلك الصوت القديم المسكون
بالشعارات، وذكرني في حديثه عن وحدة اللغة والتراث، عن واقع أمريكا اللاتينية حيث وحدة اللغة والتراث، لكنھا غير
كافية لبناء روح المصالح، التي يشيدھا الاستثمار والتجارة، على شرط ان تؤسس على قواعد اقتصادية دائمة لا تتبدل
مع تبدلات الحكم وفلسفاته، وتكفي الاشارة في ھذا الاطار الى ضرورة النظرة الجدية لاصلاح ھيكلة الاقتصاد المصري
بتفكيك الأجھزة القديمة بذراعھا الاشتراكي الطارد، وأضيف بأن مصر تملك آليات التفوق على مشاكلھا الحالية مع
ضرورة العبور الى التوافق الوطني الجماعي.
ومن الملح الآن ان تصدر الرسالة بأن مصر في عصر جديد فيه حرية اعلام وتعبير، ومناخ استثماري بنظام اقتصادي
منفتح، ومنظمات أھلية حرة وفاعلة، وانطلاق فكري متنوع تذوقه الجيل القديم وأبدع من تراثه، وقضاء مستقل،
وبرلمان مؤثر، وحكومة مسؤولة شعارھا الشفافية والمحاسبة، ھذه صورة مصر المستقبلية التي ينتظرھا الجميع.
رابعا – أتعاطف مع الرئيس اللبناني في صرخة الانقاذ التي أطلقھا، وأشعر معه بضعف البدائل وضياع الحيلة كما نقول
في الكويت، مع حزب لله، وخاصة أن وزير المالية اللبناني لم ينكر خروجه من القاعة مع كلمة أحمد الجربا رئيس
الائتلاف السوري، وأتساءل: ماذا يقول الرئيس اللبناني اذا كان الحزب الذي يساھم في تدمير لبنان موجودا بحيوية
المؤلمة وبدلا من لوم الآخرين، لابد من « الصرخة » وبكبرياء داخل حكومة لبنان، ويجلس ممثله بجوار الرئيس صاحب
خيال صحي يعطي لبنان مخرجا من الاعراض السياسية المدمرة التي أصابته بتسھيلات من بعض نجوم السياسة فيه.
خامسا – أقدر شخصيا أبومازن، وصعوبة وضعه، ويأتي تقديري الكبير من معايشتي في الأمم المتحدة لھذه المشكلة
الدائمة، ھناك وحيث صوت الأسرة العالمية يقول وبوضوح من المستحيل تحقيق عدالة لشعب فلسطين، وكل الأمل
اضعاف حجم الظلم، والحصول على أفضل الممكن في التواصل مع جھود الولايات المتحدة.
ومھما كانت لائحة النيات العربية ففي النھاية ترتبط المسؤولية بالرئيس أبومازن، فھو الذي يتخذ القرار وفق قناعاته،
ولن يرضى عنه الكثيرون من الفلسطينيين، وسيخاصمه بعض العرب، لكنه ھو الذي سيقف على المعبر التاريخي
بخطوات نحو الممكن والمھضوم، وليس الحسن المقبول، وأعجبني حديثه الصحافي الذي أشار فيه الى ان حالة اللاسلم
واللاحرب لا تصب في صالحه، بكلام مسؤول وبوعي للحقائق.
في عالم اليوم ما زال ضمير القوة فاعلا ومھندسا، وليس قوة الضمير، ھذه حقيقة ھيكلة النظام العالمي الموجود منذ
الحرب العالمية الثانية.
سادسا- عجبني الرئيس التونسي في حماسه التنموي، وباعتباري رئيس شركة لھا استثمارات في تونس، ربما من
المفيد الاشارة بالتذكير بأن قوانين تونس ما زالت غير جاذبة، وما زالت بحاجة الى التطوير لتصل الى تحرير العملة التي
ھي جوھر الاستثمارات.
سابعا - كلما تحدث رئيس النظام في السودان كلما شعرت بأن ھناك شخصا غريبا يدخل الدار العربية في مناخھا الجديد،
فمعظم الذين كان البشير في صحبتھم، تركوا الدار والديار وراحوا الى يوم لا ينفع لا مال ولا بنون، وتركة النظام
السوداني ليست جاذبة وستدخل ملفات التاريخ المشين، والشيء الوحيد الذي خطف انتباھي، اشارته الى أزمة الغذاء
العالمي، وكأنه يشير الى السودان كسلة الغذاء العربي.
ثامنا – طالب سمو الأمير سلمان بدعم الائتلاف السوري برئاسة أحمد الجربا، سياسيا وبشكل بارز في تحويل المقعد
السوري في المؤتمر ليشغله الائتلاف، وأعتقد بأن المخرج الذي تم الاتفاق عليه في اشغال المقعد مستقبلا في اجتماعات
الجامعة مقبول، ويشكل رافعة سياسية للائتلاف الذي يجب ان يتحمل عبء المسؤولية بتعميق الوحدة بين الأطراف
المتباينة وھو الأمر الذي يؤدي الى اضعاف تردد بعض الدول العربية في دعم الثورة، وستبدأ بمراجعة مواقفھا عندما
تصمد وحدة الائتلاف.
تاسعا – لا أشك بأن في ذھن سمو الأمير من خلال لقاءاته مع رؤساء الوفود، خيوط اً لمعالم طريق المستقبل نحو
تفاھمات وآليات تضعف التباينات وتتجاوز العقبات لاسيما بعد ان أكد الشيخ صباح الخالد نائب رئيس مجلس الوزراء
وزير الخارجية في مؤتمره الصحافي بأن لقاءات سمو الأمير المكثفة اتسمت بالصراحة وشملت جميع القادة وركزت على
ايجاد الحلول لاذابة الخلافات وايجاد أرضية مشتركة يمكن الانطلاق منھا، وأن النتائج ستظھر قريبا، لاسيما في المجال
الخليجي.
وأحيي اشارة سمو الأمير في خطابه الى أزمة المياه في المنطقة وندرتھا وضرورة وضعھا في ملف الأولويات في العمل
الجماعي الخليجي والعربي.
عاشرا – قمة الكويت بلا مساحيق تثير آمالا أكبر من الواقع، فقد كانت مقاربة المؤتمر للقضايا، واقعية براغماتية، وحتى
الذين طالبوا بالصعب والمستحيل وضعوا تلك المطالب بكلمات ناعمة وھادئة وتقبلوا الممكن بدلا من ثقل الآمال، فلا
توجد قفزات في فضاء الخيال المتوارث خاصة نحو وحدة الأھداف ووحدة الأمن ووحدة السياسة، وانما الكلام عن دعوة
وحدة الصف في عالم عربي يبني مستقبلا في الانجازات الحياتية للمواطن، فقد ضاعت سنوات طويلة في مداولات عن
الھم الوحدوي والأمني، على حساب التنمية والتطوير، وأتذكر خطب زمان عن وحدة الھدف قبل الحديث عن وحدة
الصف، كلام كان يتردد في المدارس الراديكالية العربية.
قمة الكويت قمة النثر الواقعي الغليظ، لا شعر منمقا في التحليق ولا افتنان بالشعارات..
وتحية صادقة لكل من عمل على نجاح المؤتمر من الآخرين خارج المجموعة الكويتية، وأخص الجامعة العربية التي
يترأسھا الصديق الفاضل نبيل العربي ومساعديه، للجھد المضني الذي أخرج القمة الى ھذا المستوى..
بقلم: عبدلله بشارة