في ملھاة المشھد السياسي الكويتي
عدت الى الكويت، بعد زيارة خاطفة الى القاھرة لأقرأ واسمع عن الكوميديا المثيرة التي رافقت المداولات والتعليقات حول أبعاد الشريط المشھور
الذي طفح على سطح السياسة بوسيلة بوليسية ملتھبة، وعن أسماء المحظوظين الذين نزلت في حساباتھم شيكات التدليع والغنج السياسي، وكنت
مثل الآخرين، أنتظر الكشوفات الصريحة بأسماء بلا تجمل ولا مساحيق ولاغموض، ومن الطريف في ھذه الرحلة السريعة ان الذين ذھبت الى
لقائھم من الأخوة المصريين كانوا في حالة من التلھف والقلق لا تقل عن مشاعري حول الاكتشافات الموجودة في الملف الذي يحمله النائب السابق
مسلم البراك ووعوده الى الرأي العام الكويتي بكشف محتويات ھذا الملف الخطير.
وكنت أريد السؤال عن أحوال مصر وتوقعات المصريين من النظام الجديد، ولم أتوقع عمق الھم الكويتي في فكر السياسة الشعبية المصرية، كما
لمسته من ھؤلاء الأخوة المتابعين.
وبدون مساحيق، أقول خاب ظني بعد ان انتھت الزفة الاعلامية التي أعدھا النائب السابق مسلم البراك والتي لا تخلو من عناصر التشويق ولا تغيب
عنھا الحرفية في أساليب اثارة غريزة الاستطلاع الى ھمسة باھتة أضرت بمھندسھا الأكبر.
كان أمام مسلم البراك خياران، الأول سيأخذه الى مستوى عال من الجاذبية السياسية الشعبية التي تؤھله للتعبئة الجماھيرية والتي تجد فيه العنصر
الأبرز في حملة المطاردين للفساد والملاحقين لأصحاب الذمم الركيكة وتراه رمزا للحس السياسي الوطني الصافي، والخيار الثاني ان تنتھي
الاستعراضية الاعلامية بفقاعات خالية من المحتوى الذي وعدنا به ا لنائب السابق مسلم البراك.
فقد مسلم البراك اللحظات الھامة في منطلقاته السياسية حين تبدلت حساباته ونقض الوعود التي التزم بھا لكشف المستور.
والواضح ان الامكانات الواقعية للنائب السابق وحجم ذخيرته في كشف المستور وتعرية الأسرار لا تتعدى ما يملكه الاخرون وأن التشنيعات التي
جاءت في غمز ولمز لا تعتمد على اثباتات قائمة وأدلة لا يمكن الطعن في صدقيتھا.
واذا كانت الحصيلة النھائية سلبية، ومؤذية لمصداقية التجمع الذي يقوده البراك، فان مسار الأحداث التي رافقت ھذه الضجة لا ترحم الحكومة في
ميوعتھا وتخبطھا في معالجة الموضوع وابقائه تحت قيادتھا دون توضيح للحقائق، وامتناعھا عن ممارسة الشفافية مع الرأي العام الكويتي الذي
زادت شكوكه في مقدرة الحكومة على حسن التدبير.
ولا أشك مطلقا في نزاھة الكلمات التي عبر عنھا سمو رئيس الوزراء في ان ھذه الأوراق لا ترتقي ان تكون محل فحص وھي عبارة عن أوراق
بيضاء وعليھا أرقام وأسماء لا يمكن الأخذ بھا، وأجزم بأنه بعيد وبريء من خيوط المسرحية التي تسيدت المشھد السياسي أخيرا، ومع ذلك
قصرت الحكومة في الامتناع عن الالتزام بالطرح المكشوف وتحاشي الشفافية أمام مجلس الأمة، وأضاعت الحكومة أيضا مناسبة تاريخية لعرض
الموضوع بكل تفاصيله أمام المجلس، لكي يشعر الأعضاء والرأي العام بأن الحكومة تملك المبادرة ومدركة لضرورات القيادة.
وأشعر بأن الموضوع كاد ان يمر دون توقف لولا المداخلات المھمة التي تكفل بھا السيد رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم والتي غيرت مسار حفظ
الأسرار والتعتيم، الأمر الذي فرض ردا من وزير العدل بالنيابة الشيخ محمد عبدلله المبارك، قائلا بأن ھذه الأوراق ليست دليلا ماديا وھي أوراق
بيضاء فيھا أرقام وأسماء أشخاص، ويضيف وزير العدل بالنيابة بأن الحكومة لا يمكن ان تظھر ھذه الأوراق لأنھا بذلك تساعد من يبث الاشاعات
والحكومة على يقين أنھا لا تشكل دليلا ماديا وتعتذر عن اظھار ھذه الأوراق.
ومع احترامنا لھذا الموقف الذي ينبع من مناخ الأبوية السياسية التي ترتكز عليھا الكويت في مسارھا الداخلي ومن شروطھا مزج نبل القيم بالقرار
السياسي وممارسة دبلوماسية الأدب الجم في الشأن العام، الا ان الحالة الاستثنائية التي تتميز بھا ھذه القضية وأبعادھا في التعبئة المضادة
وتصاعد الاشاعات وتسيدھا لأحاديث المجتمع، لكل ھذه الأسباب، تظل ھذه حالة فريدة لابد من معالجتھا بالأسلوب الحديث في المواجھة ووضع
النقاط على الحروف دون قيود الموروث في الامتناع عن البوح بالأسرار.
وبدون شك بأن أصحاب الحملة الغليظة ومھندسيھا يريدون شيئا آخر غير الاغتيال السياسي لبعض الشخصيات، فالھم الأكبر فرض اذعان الحكم
وبكل نظامه ومؤسساته للمنظور الذي يمنحھم التسيد في قيادة البلد وتوجيه دفتھا نحو الأھداف التي يريدونھا وأولى خطواتھا حل المجلس واعتماد
لائحة الصوتين بدلا من الصوت الواحد، والقبض على الحياة فيھا واخضاعھا لبرنامجھم السياسي والاجتماعي.
وأكبر أخطاء الحملة المضادة يكمن في توجيه مدفعيتھا نحو القضاء للتشكيك في نزاھته وتلويث سمعته، وحسن فعل القاضي المستشار فيصل
المرشد في التصدي لھذا المنحى الخطر من أجل القضاء عليه في مھده لكي لا يتكرر..
ولعل قرار مجلس الأمة في احالة كل المستندات والوثائق بما فيھا ما لدى الحكومة الى النائب العام مع اثارة غيرة المواطنين الذين لديھم أية
معلومات عن ھذه القضية المزعجة لتقديمھا الى ديوان المحاسبة تمھيدا لتحويلھا الى النيابة العامة، وھنا لا مجال للتراخي، فمن له معلومات
توضح وتساھم في ابراز الحقائق يتحمل مسؤولية وطنية في عرضھا على الجھات المختصة.
لا يمكن ان تلتقي ممارسة الدلع مع الحكم الصالح والراشد لأن الدلع ھدام وتغنيج فئة معينة أو طائفة أو شخصية مھما كانت خلفياتھا لا تنسجم مع
حكم الانضباط والقانون ولا تلتقي مع متطلبات ھيبة الحكم بما فيه الحرص على مقام القضاء واحترامه.