للفيلسوف الأقتصادي الأيطالي باريتو مقولة مشهوره مفادها أن " المجتمع كنظام قادر على أن يقوم بالتصحيحات الذاتية بشكل مستقل عن محاولات تغييره من خلال السيطرة الإداريّة " ! بمعنى ان قوانين وعوامل وعناصر عملية التفاعل الذاتي لحركة المجتمع قادرة على تشكيل جوهر واتّجاهات المسارات الكلّية والجزئية ،وأن التدخّل عن طريق السيطرة الأدارية الأعتباطية بعيدا عن طبيعة وظروف البيئة ومسبّباتها والشروط اللازمة سوف لن يحدث التغيير المطلوب كما لا يحقّق اوضاعا مستقرة متوازنة على المدى المتوسط والبعيد . فعل القدرة الذاتية على تصحيح المسارات قد يحتاج لأستكمال دورته سقوف زمنية أطول لكن التصحيح مؤكّدة ، بينما فرض التغيير الأداري القسري الأعتباطي قد ينتج حلولا مجتزءة قصيرة المدى لكنّه لا ينتج قاعدة راسخة متينة ترتكز عليها عملية بناء الدولة والمجتمع في تحقيق التراكم المطلوب في القوة والثروة الوطنية ورأس المال الأجتماعي . الدولة والمجتمع كائن حي يخضع لقوانين دينامية متغيّرة غاية في التعقيد والحسّاسية نظرا لخضوعها لتأثير العوامل الداخلية والخارجية المحيطة بعمل الدولة وتفاعل المجتمع. فلسفة الدولة و اطار عملها تصنعها الأمكانات الوطنية المتاحة من الموارد المادية والبشرية في مقدّمتها حجم ونوع ومواقع القيادات النخبوية الحقيقية في دوائر صنع القرار والأدارات التنفيذية العليا ، وقدرة تلك النخب في الرؤية والأستشراف والأدراك والخلق والأبداع حول الكيفية التي يجب أن تجري بها تعبئة وتوليف الموارد المتاحة باتّجاه احتياجات المجتمع والنهوض برفاهيته عبر الزمن . ضبط اتّساق أيقاعات أنشطة الدولة والمجتمع (القطاع العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني)على المستوى الكلّي والجزئي يعتبر شرطا مسبقا لتحقيق التوازن والأستقرار المجتمعي ( التسيير الذاتي المتوازن).
هناك قول " ان أريتني الخريطة الجغرافية - السياسية لبلدك فبأمكاني تحديد سياستها الخارجية"! هذه المقولة تؤشّر المدى الذي يمكن أن يؤثّر به المحيط الجيوسياسي والأنظمة السياسية لدول الجوار في شكل وعمق العلاقات الثنائية والمتعدّدة الأطراف للدولة المعنيّة وانعكاس ذلك على مساراتها الوطنية والخارجية . دول المحيط الجيوسياسي وطبيعة أنظمتها السياسية تحدّد نوع العلاقات الأمنية والسياسية والأقتصادية والأجتماعية للدولة كما يتحدّد عندها أيضا الأعداء والأصدقاء والحلفاء والشركاء والطامعين في اطار المصالح المتغيّرة . التطورات الأخيرة للبيئة الدولية جعلت من النظام الديمقراطي وأعتماد مبدأ التوافق السياسي في الحكم وادارة الدولة من السمات الحضارية للقرن الحادي والعشرين لكونه النظام الأقدر على معالجة الأزمات والمعضلات والمشاكل التي تتمخّض عن عمل الدولة في محيطها الوطني والجيوسياسي والدولي. في ضوء ذلك ، يصبح من اولويات مهام المهندس السياسي أن يجعل من النموذج التوافقي ماكنة فاعلة لبلوغ أهداف الديمقراطية في الحكم والحياة وآلياته ترتكز على اسس واضحة راسخة مستقرّة معلومة الممارسات والنتائج. إن من أهم العناصر الذاتية الأساسية في تحقيق النموذج الديمقراطي، تحقّق الإرادة الجمعيّة الجامعة الحرّة العقلانية التي تؤمن وتعمل وتتكافل حول ضمان وحدة البلد وصيانتها ، الحفاظ على القيم والمباديء والممارسات الديمقراطية وتوجيه عملية التنمية السياسية نحو تحقيق تعايش سلمي وطني جامع وتنمية مستدامة.
حركة الدولة والمجتمع صناعه يشترك بها الشعب ومن يمثّله من القادة والنخب من خلال الشبكات الأجتماعية والسياسية والمؤسسات الديمقراطية ذات العلاقه . على قمّة ذلك الهرم تتربّع سيادة الشعب وارادته المطلقه فالجميع يستمد شرعيته وسلطاته من تلك الأرادة التي لا يجوز تغييبها أو اقصاءها أو تهميشها في أي وقت عن قضايا حاضر ومستقبل الأمّة - الدولة .
القادة من النخب يمثّلون خيار الأمّة الذين توكل بهم رعاية شؤون الوطن والمواطنين وشرعيّة حكمهم مرتبطة ارتباطا وثيقا ومباشرا بنزاهتهم واستقامتهم وأخلاصهم ومهنيّتهم وكفائتهم في اطار المهام والألتزامات (موظّفوا خدمة عامة ) . جوهر القوة الذاتية في الدولة والمجتمع ، النخب السياسية التي يقع على عاتقها ايجاد التدابير الملائمة في تصميم وتنظيم وتنفيذ برامج الدولة والحكومة في التنمية السياسية والأقتصادية والأجتماعية وكيفية تعبئة قوى الشعب حول تلك البرامج . ان نجاح النظام السياسي يعتمد على مدى توسيع دوائر التمثيل والتفعيل للإرادات الحرّة لقوى الشعب في الهيئات التشريعية والقضائية والتنفيذية وعدم حصر ذلك بنفوذ قوة أو قوى معيّنة لكونه سيقود إلى حالة من الأرتياب والجمود السياسي وظهور الأغلبية الناقمة الصامته. إن هيمنة أقليّة سياسية أوحكومية أوأقتصادية يجعل من مبدأ التمثيل شعارا عقيما فارغا في محتواه ومقاصده نظرا لأن الديمقراطية التوافقية تهدف الى أن يتحقّق لكافة المواطنين وبدون إستثناء: المواطنة المتساوية،المشاركة السياسية المتكافئة،تكافؤ الفرص في مرافق الدولة والإقتصاد ،تعميق وتعميم روح التسامح في كافة المؤسسات الأجتماعية والثقافية والدينية وضمان التعليم والرعاية الصحية والأجتماعية والثقافة والعلم ... وغير ذلك . النظام السياسي القادر على التكيّف مع الحياة، الذي يعتمد فلسفة ونظام وسياسات وآليات وممارسات قادرة على تفعيل كافة قوى الشعب بأتّجاه تحقيق الأمن والأستقرار والتعايش الكريم المستدام.
14 / 4/ 2015