EN | AR
يوسف الحسن:تدهورنا الفكري يغيّب «ثقافة السؤال»
الأربعاء, حزيران 1, 2016
د. يوسف الحسن

لا يمل د. يوسف الحسن من البحث المعمق في مسائل حوار الحضارات، وعن أقوم أشكال تحصين القيم الإنسانية، بموازاة انهماكه في استكشاف سبل نافعة تكفل انفتاح الشعوب ولقاءها الفكري والقيمي، في وقتنا المعاصر.

إلا أنه لا يغفل، وهو في خضم نهجه هذا، معاودة توسيع مسارات تفتيشه وتقصيه الدقيقين، حول أسباب واقع التردي الثقافي في مجتمعاتنا العربية.. وما أفرزه من حالات وبنى فكرية مشوهة متطرفة، لا تمت إلى جذر مكوننا الحضاري بأية صلة.

«بيان الكتب» يضيء في حواره مع الحسن، على قضايا ثقافية واستراتيجية تنموية، عدة، عاكساً تصوراته وخلاصات دراساته في خصوص الموضوعات الفكرية الإشكالية المتنوعة، التي تحيط بنا وتعترضنا.

لا تسر الناظر إلى إفرازات وحال الثقافة العربية، راهناً، طبيعة تأثيراتها وثمارها المجتمعية التنويرية المعيشة. ما السبب الذي أنتج هذا الواقع يا ترى؟ وأيعقل أن القضية مبعثها ضعف تجاوب الأفراد وغياب تفاعلهم مع طروحات ومفاهيم الانفتاح والتسامح والاقتداء بالثقافة، نهجاً وشأناً ومبتغى؟

إن هذا الواقع نتاج طبيعي لثقافة معلولة غابت عنها حاسة النقد والمساءلة والإبداع، وكذا السلطة الأخلاقية والمشاركة في الدورة الثقافية الكونية، وهو أيضاً نتاج تعليم معاق، وسياسات غير رشيدة ومنغلقة على حقول كثيرة مسكوت عنها..

وأنساق قيمية لا تتشرب في دواخلها سحر الإنسانية. تفاعلت قطاعات واسعة مع حصاد هذه الأنساق المريضة، ووصلنا إلى حالات من الجدب وجفاف الروح، والتوحش (باسم دين الرحمة)، والخنادق المتقابلة، وصراع ديكة مثقفة! وفنون هابطة وغناء غرائزي، وقيم استهلاك تفاخري.. إلخ.

نعم

أيُلام مثقفونا على هذا الواقع؟ هل هم مقصرون في عدم الإجادة والتمكن من مفاتيح التعامل النوعي في الصدد.. وأين هي مفاعيل المشروعات الفكرية التي أطلقت قبلاً.. ألم تُحدِث أثراً ولو بسيطاً؟

نعم، إن النخب المثقفة ملومة أيضاً بعد أن غابت عنها «ثقافة الأسئلة» ومفاهيم التسامح المعاصرة.. وخيال التأمل والاستشراف. مالت هذه النخب إلى الأجوبة المعلبة المحفوظة، وظن البعض منها، وهو يزرع البصل أنه سيحصد اللؤلؤ،

قل لي: مَن مِن هذه النخب اجترح مشروعاً فكرياً بأبعاد تنويرية وإنسانية، يكفل توليد تيار مجتمعي فاعل؟ مَن مِن هذه النخب، والعلماء أيضاً، وصل إلى قامة ومنزلة محمد عبده والكواكبي والأفغاني، أو طه حسين أو ابن خلدون الذي حرضنا على الشك فيما نقرأ ونسمع، وعلى إدراك ثنائيات الدولة ونقيضها، وعرّفنا بقوانين التفكيك وقواعد التمدن والتنوير، وكذا تعامل مع التاريخ كمحلل وفاحص ومقارن بين الروايات؟

أجل. مثقفونا مقصرون، ولا يزال بَعضُنَا يلعب بغلاظة فكرية، ويتسلل آخرون بين المواقف والفراغات بخفة حاوٍ، في أزمنة خلعت فيها أعمدة المعبد (الوطن)، ويتمزق نسيج المجتمع.. وتعِم الكراهية واللايقين. وهناك من أراح واستراح باعتبار أن «كل شيء عند العرب صابون». في كل الأحوال، تبقى ثقافتنا الراهنة تحمل نزعة مزمنة للفرار من مواجهة الأسئلة المسكوت عنها.

مرحلة مفصلية

ماذا عن الكيفية التنموية الثقافية الأغنى والأنفع؟ ما ركائزها.. وأي محاور ينبغي أن تتضمن. وأيضاً: ما المشروعات الأفعل في الشأن لتحقيق المراد؟

نحن نعيش مرحلة مفصلية تاريخية، وتحديات هائلة.. على كل المستويات، وكذا هي عابرة للحدود وللهويات، وكذا تحيق بنا عولمة كاسحة في ظل تداعيات ثورة الاتصال والمعلومات، وتحولات فارقة طالت البنى الاجتماعية والحياتية والمعرفية والقيمية.. فما العمل؟

إن المطلوب خيارات أخرى، لا تدلك العواطف، ولا تبرز الورم باعتباره عافية. لنتذكر دائماً أن التاريخ غير قابل للمكوث عند لحظة ما، وهذا هو مكر التاريخ. وتعلمنا تجارب المجتمعات المتقدمة، أنها لا تتأسس فقط على قاعدة رأس المال المادي، وإنما على مخزون صحي من رأس المال الاجتماعي الذي يحقق التماسك الوطني، ويطور منظومة قيمية تعاضدية ملائمة لثقافة التسامح والسلم المجتمعي وقبول الآخر المغاير، كذلك الارتباط بهوية جامعة لا فرعية ضيقة.

إن المشروع الثقافي الوطني الإنساني، هو عنصر حيوي في تأسيس الدولة الحديثة، وفي صوغ ذهنية الإنسان وقيمه ومعايير سلوكه، وصورته عن نفسه وأمام الآخر. وأي استراتيجية تنموية ثقافية ناجحة، تتطلب أن تتماشى مع الشمولية في ميادينها وتحتكم إلى التوازن في حقولها، وأن تكون نابعة من الذات ومتطلعة إلى التجدد والتفاعل مع العصر، وذات علاقة تبادلية مع التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الإعلام متهم

هل واقع التطور في قنوات ومنابع تلقفنا الجرعات المعرفية (خصوصاً عبر الإعلام المرقمن وفي ظل سطوة مواقع التواصل الاجتماعي)، بات يفرض تغييراً حقيقياً في مهام وأدوار مثقفينا؟

لا شك أن الإعلام الجديد، ومعه وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، ضاعف من إرباك الناس. فالمعلومات والأفكار والصور تنزل عليهم كالمطر، الذاكرة تعطلت وتراجعت القراءة الجادة التي تتسلل إلى العقل والوعي وتفتح بوابات سحر التأمل. هذا الجديد.. أحدث انقلابات هائلة في شؤون الحياة وفي المفاهيم وأنماط التفكير. وفيه رابحون وخاسرون، ولا ندري حتى الآن: هل سيزداد قلق الإنسان.. وهل ستتوسع خياراته؟ أم أن فيه ومعه فوضى وتيهاً وذعراً وشقاء؟

ومن هنا، فإن أمام النخب المثقفة مهام وأدواراً أخرى جديدة، للتعامل مع عصر «ثقافة الصورة» المعولمة، ذات السلطان والسطوة، والمسلحة بأحدث طاقة تكنولوجية وإعلامية وإعلانية مغرية وجذابة. نحن في العالم العربي نقبع متوجفين حائرين أمام هذه التحديات، في أزمنة ترهلت فيها مؤسسات التنشئة التقليدية وتراجعت رسالة التعليم والذهنية الإنتاجية والإبداعية والنقدية.

كيف تلخص واقع الحراك الثقافي الإماراتي: أي مفردات يفتقر إليها.. وما الأشواط التي قطع.. وماذا عن ركيزة انطلاقه إلى أفق حضور عالمي نوعي التأثير؟

واقع الحراك الثقافي الإماراتي الراهن جيد وموسوم بنتائج ونجاحات لافتة. وطبعاً، فإن المنشود والمخطط له، أكبر من ذلك. وربما هناك عقبات «مادية وبشرية ورؤيوية» تحول دون القدرة على حصد النتائج المرامة.

لكننا، في كل الأحوال، بحاجة أولاً، إلى: معرفة علمية للوضع الثقافي الحقيقي، ولحاجاتنا الثقافية، ومن ثم صياغة هذه الحاجات في أهداف عامة ومشاريع وأولويات.

وثانياً، إلى تأسيس علاقات متبادلة والتنسيق بين خطط الثقافة وخطط التنمية الاقتصادية والتربوية والسياسية، وإلى تحفيز المشاركة الشعبية في إنتاج الثقافة والإفادة منها، ووصولها إلى كل الناس. وثالثاً، إلى ترقية مكانة الثقافة والمثقف في المجتمع، وإقامة حركة نقد وترويج للمنتج الثقافي.

قوة رفد

ما تقييمك لمستوى العلاقة بين الشباب والثقافة وأهلها في الدولة.. وأي مساق مستقبلي سيتمخض عن المبادرات التي تطلقها القيادة الإماراتية بخصوص التركيز على القراءة والمعرفة.. والارتقاء بمستويات وعي أفراد المجتمع؟

لا تتوانى القيادة الإماراتية عن إطلاق المبادرات للتمكين الثقافي في المجتمع، باعتبار الثقافة المصدر الأساس في تنمية وعي المواطن، وتجديد حيوية المجتمع، وتعزيز وتحصين الهوية الوطنية، وبث ثقافة الحوار والإبداع. ومؤكد أننا في سعينا لإعداد مواطن المستقبل، نحتاج مثل هذه المبادرات التي تطلقها وتتبناها قيادة الإمارات..

وعلى رأسها«2016.. عام القراءة» التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، والتي وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، برفدها وتجسيد ركائزها وترجمتها بشكل خلاق.

إن قيادة الإمارات تنطلق في هذا التوجه من أساس إيمانها بأن الثقافة قوة للإنسان، ومستودع الهوية، والجذر الذي يغذي الوطن بالنماء والصمود والتجدد والتفاعل مع العصر.

ما الموضوعات التي تشغلك حالياً.. والتي تنكب على بحثها ودرسها والإضاءة عليها؟

أستشعر مدى الحاجة إلى إمعان النظر وإعمال الفكر في أسئلة الثقافة ومنظومة القيم، وعلى رأسها قيم التسامح، بمفاهيمها الحقوقية والعصرية، وليس بمنظور العفو أو «المسامح كريم». ومن بين هذه الأسئلة أيضاً، ثقافة الحوار.

وأعكف الآن على استكمال مخطوطة كتاب حول «قلق الهوية» في المجتمع. عموماً، يظل سؤال الثقافة الشغل الشاغل لدي.. وإذا أردنا أن نعرف أي مواطن نريد في المستقبل، علينا أن نعرف أية ثقافة سنقدمها له.

إدارة مثمرة للتنوع ترسخ التسامح والحوار

لم يعد يمثل الحوار الحضاري العالمي، في وقتنا المعاصر، حاجة ثقافية واجتماعية، اعتيادية، كسواها، بل غدا، وطبقاً لما يؤكده د. يوسف الحسن في إصداره الأخير «أسئلة الهوية والتسامح وثقافة الحوار»، حاجة ماسة وضرورة تفرضها حالة التشنج والتعصب الفكري والديني، في واقعنا.

إذ لا بديل عنه أبداً في ظل هذه التغيرات الجارفة وصعود منسوب الغلو والتطرف والإقصاء في المجتمعات كل. ذلك خصوصاً وأن التطرف والإقصاء أمسيا يحكمان مشهد التعاطي والعلاقات بين الثقافات في معظمها.

مقاصد الشرع

يلفت يوسف الحسن في كتابه إلى أن الحوار هو أحد مقاصد الشرع الكبرى في هذا الكون، إذ يتوخى معرفة الآخر ويتفهم المغايرة والاختلاف، ويتعاون في سياق العيش المشترك.

وذلك في جوٍ من الاحترام المتبادل والمعاملة بالتي هي أحسن، بعيداً عن نوازع التجريح والتشكيك. ويشدد المؤلف على أن التنوع والاختلاف عامل إثراء وإبداع، على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.. والمهم في الأمر، حسن إدارة هذا التنوع أو الاختلاف، والاستجابة للتطور والاغتناء بالتفاعل بين المختلفين.

تفرّد الإمارات

للحوار مبادئ ومداخل.. بل ركائز لا يجدر أن يحيد عنها. هذا ما يشدد عليه الحسن، مستعرضاً مضمون ما تناولته جملة مؤتمرات وفعاليات عقدت في المجال. ومن بينها: حوار «الطاولة» المستديرة الذي نظمته وزارة الثقافة والشباب وتنمية المعرفة بالإمارات، في أبوظبي، مايو 2014، إذ شارك فيه مسلمون ومسيحيون وهندوس وسيخ وآخرون، من مجتمعات عدة.

ويلفت المؤلف إلى أسس عدة لا مفر من أن يقوم عليها الحوار، أبرزها: لا يجوز أن يساء إلى الإنسان، ينبغي ألا يخوض أي حوار في خصوصيات دين أو معتقد آخر.

ولا يفوت الحسن أن يعرض لما تتفرد به الإمارات من سمات وقضايا، على صعيد العالم، في شأن الوئام والسلام المجتمعي.. وإعلائها قيم الحرية والحوار والانفتاح الحضاري، مبيناً أن مؤتمراً - قمة، متخصصاً، عقد في مدينة «غولد غوست» الأسترالية في 2014، أشاد بدولة الإمارات واعتبرها نموذجاً رفيعاً وفريداً للحرية الدينية.

ويدرج الحسن ما قاله هو شخصياً في إحدى الجلسات عن مفهوم التسامح وتجذره الحقيقي في الإمارات، نظرياً وعملياً.

علاقة مجتمعية

يحيط مؤلف الكتاب بشتى مضامين ومسائل الحوار الحضاري، وبينها: الأديان والثقافات، العيش المشترك. كما يبين الحسن أنجح قواعد تجديد الحوار الإسلامي المسيحي. ويؤكد في محطات أخرى، أن «المواطنة الحق» ليست مجرد علاقة قانونية أو حقوقية عمودية بين الدولة والمواطن.

بل هي أيضاً، علاقة مجتمعية ومسلكية وثقافية بين المواطنين أنفسهم وبطريقة أفقية، من خلال القيم الاجتماعية المدنية المتمثلة بالتعاون والتعاضد وحسن الجوار والتعايش وحل النزاعات والاختلافات بالحوار والطرق القانونية والسلمية. ويشرح الحسن المعنى الحق والجوهري للهوية الوطنية.. والتي لا مفر من أن تقوم في بنائها على أسس عدم الانطواء على الذات أو رفض الآخر.

مناهج دراسية فعالة

يختم يوسف الحسن كتابه، بإدراج مجموعة توصيات ودعوات، تمس الموضوع المطروق وتطال ماهيات بناء الوعي المستنير عبر التركيز على المناهج المدرسية وإثرائها بمفردات الانفتاح والحوار وتقبل الآخر.. وإغنائها بمنظومات قيم تُرسخ في فلسفة تربوية تستهدف تنشئة متعلم مدرك لصحيح الإسلام وقيمه وغاياته وأحكامه وآدابه.. وتدعم قدرات الفرد على اكتساب التفكير المنهجي وقيم التسامح والمسؤولية.

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©