أين هو المفكر العربي، مما يجري من أحداث ومتغيرات في الوطن العربي؟ كيف غاب صاحب الضمير الحر، والرأي المستقل وترك الساحة لغيره ممن يسمون أنفسهم خبراء أو محللين، أو أصحاب مراكز بحثية، يتكرر ظهورهم على شاشات التلفزة، ولا يزيدون المواطن العربي البسيط إلا اضطراباً وقلقاً وخبالاً؟
يبحث المواطن العربي دوماً، وربما صانع القرار أحياناً، عمن يملأ كيانه بالحقائق والطمأنينة والبدائل والخيارات، وينبهه للمخاطر والتهديدات والفرص، وعمن يكشف ما لدى المجتمع وصانع القرار من عوامل قوة، وعوامل ضعف في القدرات والإمكانات والسياسات.
نبحث عمن يفكر خارج «الصندوق» والنمطية المعتادة، خاصة حينما تخرج الأوضاع عن السيطرة أو الاحتواء، وعمن يقول ويحلل ويوثق ويقترح البدائل ويتشوف المستقبل، من دون أن يخطر في ذهنه أن ما يقوله ينبغي أن يرضي سامعيه.
جهود معظم مراكز التفكر والدراسات في إقليمنا العربي، ومنه إقليم الخليج، ما زالت موزعة ومشتتة تجتر نفسها بنفسها، لا تفاعل ولا تنسيق، تبدو وكأنها مجرد دور نشر متواضعة، وتستخدم مقراتها وإمكاناتها، كنواد سياسية ومحاضرات علاقات عامة، وتلميع لساسة فاشلين في بلادهم الأجنبية.
من مِن مراكز البحث والدراسات العربية، أطلق ثورة أفكار تزيل المناطق الرمادية والحيرة في الضمير المجتمعي العربي، وتقترح بدائل لمواجهة الضيق والضنك من فضاءات الحياة؟
ما الذي قدمته هذه المراكز من أفكار وخيارات، لأسر خيال المواطن العربي، وصانع القرار، وبقيمة مضافة ملموسة، تخدم الأمن الإنساني العربي بكل أبعاده.
غابت هذه المراكز البحثية، وربما عجزت، عن قراءة وتوقع وتحليل «الصدمات» الجارفة الراهنة، وكيفية امتصاصها مثلما فشلت في قراءة وتحليل ظواهر عديدة كالسلفية في تونس والجزيرة العربية والخليج، والإسلام السياسي، قبل حدوث هذه الزلازل السياسية والثقافية والأمنية.
ماذا حدث للمفكر المستقل الحر، حينما طرح ذات يوم مسألة التعليم الديني على بساط البحث والاستنباط والاستشراف والمآلات؟
الأمثلة كثيرة ومعروفة ومسجلة في ذاكرة التاريخ.
لم تكتشف بعض مراكز البحث إلا مؤخراً، واقع عجز النخب السياسية والثقافية والحزبية والنقابية العربية عن ممارسة الحد الأدنى من العيش المشترك في مجتمعاتها، فضلاً عن عجز نخب ليبرالية عن تقديم حلول لنقل مجتمعاتها إلى حياة سياسية عصرية، وبدت أهدافها لا تتعدى مسألة الوصول إلى السلطة، والبقاء فيها إلى زمن يطول.
لنراجع خرائطنا المعرفية وسنكتشف أننا لا نملكها ليست بحوزتنا.
بعد أن قمنا بتجريف السياسة والثقافة ولم ندرك خياراتنا المستقبلية، وعالجنا الأمور قطعة قطعة ويوماً بيوم.
غابت الخرائط المعرفية المتكاملة لمجتمعاتنا، فوقفنا مشدودين أمام المتغيرات الجارفة والمفاجئة. كان صعباً علينا فهم وقياس الانقلابات الاقتصادية والثقافية المصاحبة لظواهر العولمة ، حققنا إنجازات اقتصادية في بعض بلداننا وقفزات كمية في التعليم والرعاية الصحية، لكن غابت عنا فضيلة التفكر والاستشراف والبحث في مسائل البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية المطلوبة، ومنظومات قيمية حداثية تحميها وتراكم عليها وتطورها، وتطبيقات على الأرض تعلي من شأن العقلانية والابداع والمواطنة المتساوية والتسامح والانصاف.. الخ.
إن كثيراً من مراكز البحث في منطقتنا، مازال يستعمل أدوات تحليل قديمة، لفهم المتغيرات والتطورات في الإقليم وفي العالم، وبعضها يعيد إنتاج «شيء»من منتجات مراكز أبحاث أمريكية بعد «تعريبها» وليّ شيء من استخلاصاتها.
وقد أدى ذلك إلى ضعف إدراكنا للمتغيرات في السياسات والقوى الفاعلة في الغرب وبخاصة في أمريكا فضلاً عن عمى شبه تام، عما يجري من تغيرات في الصين وروسيا وغيرهما من القوى الصاعدة على المسرح الدولي.
لم تعمل مراكز البحث العربية، بما فيها الخليجية، الفكر في متغير خطير حدث في السياسات الأمريكية منذ أكثر من عقد من الزمان حينما ركزت في تحالفاتها على ما يسمى «المجتمع المدني» في دول المنطقة، والمشرق العربي ومصر وفلسطين المحتلة بشكل أساسي، ودعمت مالياً ومعنوياً واحتضاناً منظمات مجتمع مدني عديدة، فتكاثرت هذه المنظمات حتى غدت، ربما أكثر من عدد محطات البترول في المدن العربية، ممولة من صناديق تابعة للحزبين الديمقراطي والجمهوري، ومن صناديق أحزاب أوروبية ليبرالية ويسارية. في ألمانيا وإيطاليا، دعماً لديمقراطية غائمة في تعريفها وآلياتها.. وسمعنا في حينه مقولات الإسلام السياسي، والأقليات والاثنيات.. إلخ، ومؤتمرات وضغوط، وتوليد منظمات مدنية من خلال «الأنابيب» وكثير منها شخصي أو عائلي.. وكأنها «دكاكين» خاصة.
رأينا في حينه، كيف تحولت الرهانات الغربية من الرهان على الدولة الوطنية، إلى الرهان على «الإسلام السياسي»، وأدركنا ذلك فقط في السنوات الثلاث الماضية، لم تنشغل مراكز أبحاثنا في التفكر والنحت في أسباب هذا التغيير ونتائجه إلا بعد خراب «البصرة» وما أكثر «البصرات» في وطننا العربي في هذه الأيام.
قلة من المفكرين العرب، رأت بعيون زرقاء اليمامة، أن هناك اختراقاً في الأمن القومي العربي، وأن الخرق سيتسع على الراقع. وها نحن اليوم «نداريها وقد مزقت». واتسع الفتق.... إيران هنا وهناك، واثيوبيا وتركيا، وروس وأمريكان.. وغيرهم.
ونبحث في مراكز البحث الغربية عن «خبير» يخبرنا ما العمل؟ بعد أن «بلغ السيل الزبى».. وها نحن نسدد الأثمان.
من المسؤول؟؟
من المسؤول عن ضمور إنتاج مراكز البحث، وعن غياب الباحث الرصين صاحب الصدقية والمفكر الموسوعي؟ لماذا انعزل المفكر أو همش أو ظل يصرخ في البرية في أحسن الأحوال، فلا يحدث صوته تموجاً أو أثراً في الراهن العربي؟
هل هي مسألة تتعلق بالموازنات أو الفجوة ما بين النظرية والتطبيق، أم هي مرتبطة بالمراكز نفسها وبطبيعة عملها ومهماتها؟ أم هي مسألة تتعلق بالفجوة القائمة ما بين المفكر و«الأمير» والرؤية السلبية المتبادلة بينهما؟ أم هي مسألة تتعلق بالحرية والمعرفة وثقافة التفكير.
أم هي كل ذلك مجتمعاً؟
مطلوب، أن تراجع مراكز الأبحاث الخليجية والعربية دورها، وأن يمكنها صانع القرار، من أداء الدور المنشود، وليس التمكن منها.
إن الأمة، وكل دولة وطنية، تقف اليوم أمام مرحلة مفصلية وتأسيسية للمستقبل، فليتحمل كل مسؤولياته، ولنعمل معاً قبل أن نخرج من التاريخ.
مراكز التفكر والبحث... ليست ترفاً.
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/9445ab73-643b-451e-871b-...