مع التحرّكات التي يقوم بها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو والدور الذي اداه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان والنشاط الدؤوب الذي يمارسه حزب العدالة والتنمية بخصوص التحوّل من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، فضلا عن ردود أفعال الغالبية الساحقة من الأحزاب التركية التي تريد دستوراً مدنياً جديداً، فإن العام الجاري 2.16 سيكون عام الدستور بامتياز.
الكرة حالياً عند رئاسة مجلس النواب، ومن المفترض إحياء لجنة المصالحة الدستورية لتمثيل متساوٍ لكل الأحزاب داخل قبّة البرلمان، للشروع بتوافق سياسي لإنجاز دستور جديد للبلاد، وهو ما تدعو إليه جميع الأحزاب السياسية وإنْ كان منطلق حزب العدالة والتنمية مختلفاً عن غالبيتها. وعلى الرغم من النفوذ الذي تمتع به الرؤساء الأتراك، ولاسيّما منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة، ولاسيما في مدّة رئاسة كمال أتاتورك، لكن تركيا لم تعرف النظام الرئاسي، الأمر الذي يعني تحوّلها إليه سيعطي للرؤساء نفوذاً أكبر وصلاحيات أوسع دستورياً.
وإذا كان المدنيون قد وضعوا دستوراً بعد الحرب العالمية الأولى وفي العام 1921 فإن الدساتير اللاحقة اسهمت في وضعها قيادات عسكرية مؤثرة في مسيرة الدولة التركية منذ ذلك الحين وحتى الآن. وكان دستور ما بعد الامبراطورية العثمانية أقرب إلى إعلان دستوري مؤلف من 23 مادة صيغت بطريقة مبادئ عامة وغير محدّدة أحياناً. ويعدّ دستور العام 1921 استمراراً للدستور العثماني الأول، أو ما سمّي بالقانون الأساس الذي صدر في العام 1876 تأثراً بالمفاهيم الدستورية الجديدة في أوربا، وبفعل الثورة الفرنسية العام 1789والثورات التي أعقبتها.
ويعدّ الدستور الأول انتقالياً، وقد عدّ مجلس الأمة (النواب) ممثلاً عن الأمة التركية، وهو الذي يدير البلاد بوصفه سلطة تشريعية، لكنه لم يحدّد طبيعة نظام الحكم برلمانياً أو رئاسياً. ثم جاء بعد ذلك دستور العام 1924 الذي ولد من رحم ما سمي بمرحلة الإنقاذ 1919- (1923 بعد انهيار الدولة العثمانية) والتوقيع على معاهدة لوزان في العام 1923 بعد معاهدة سيفر العام 1920. ليعلن عن قيام الجمهورية التركية ويلغي السلطنة العثمانية، وكان بمثابة إقرار بالواقع الذي ألغيت فيه الخلافة رسمياً في وقت لاحق، وجعل اللغة التركية لغة رسمية وحيدة ، والعاصمة أنقرة، وقد كانت التعديلات العديدة التي شهدها الدستور تأكيداً على علمانية تركيا، التي هي الخلفية الفكرية والفقهية للدولة منذ العام 1937 وقبل ذلك استبعدت الإشارة في الدستور إلى دين الدولة بموجب تعديل في العام 1928 وهكذا كانت تركيا إحدى أحدث دول الشرق الأوسط الإسلامية، علمانية.
العلمانية هي جزء أساس من أفكار أتاتورك لبناء الجمهورية، واتخذ الدستور من مبدأ الأغلبية أساساً للحكم، ولاسيّما في إطار الحزب الحاكم. وفي العام 1946 سمح للتعددية الحزبية ، وعند حصول الانقلاب العسكري العام 1960ضد حكم الرئيس عدنان مندريس. بعد ثورة 14 يوليو (تموز) العراقية العام 1958 وخروج العراق من حلف بغداد، التي كان لأنقرة دور فيه، وضع الدستور على الرف، وباشر العسكر بإعداد دستور جديد هو دستور العام 1962 وحدّد الدستور الجديد نظام الحكم بالبرلماني، وتقرّر إنشاء غرفتين واحدة للشيوخ والأخرى للنواب، ثم قام العسكر بانقلاب جديد في 12 سبتمبر (أيلول) العام 1980. والذي عُرف بانقلاب الجنرال كنعان إيفرين، وذلك عشية الحرب العراقية – الإيرانية وتمهيداً واستعداداً لها، تلك التي بدأت مناوشاتها الفعلية يوم 4 سبتمبر (أيلول) من العام ذاته، وأعلن عن اندلاعها رسمياً يوم 22 سبتمبر (أيلول) العام 1980.. وتم وضع دستور جديد لتــــركيا في العام .1982
تركيا التي تستمر إعلانها التمسك بمبادئ أتاتورك الستة، والتي تضمّنها دستور العام 1982 الذي اعتمد النظام البرلماني، بدت كأنها على مفترق طرق منذ فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي العام 2002 والذي تكرّر فوزه في الأعوام 2007 و2011 و2015 وحقق نجاحات غير قليلة في التنمية، وإنْ كان موقعه بدأ يتضعضع أو يضعف، لكن مشكلة الدستور والعلمانية والنظام الرئاسي، ظلت هواجس مقلقة لدى حزب العدالة والتنمية، مثلما هي لخصومه، الذين أخذت تساورهم مخاوف غير قليلة، بل أصبح القلق من تحوّل الدولة التركية إلى دولة إسلامية وقضم العلمانية بالتدريج أمراً ممكناً وتحدّياً قائماً، ولاسيما في ظل صعود التيار الديني بشكل عام على المستوى العالمي وبالمنطقة بشكل خاص، وما ارتبط ذلك بشكل أو بآخر بالإرهاب والتعصّب والتطرّف.
وإذا كانت جميع القوى قد وصلت إلى قناعة بضرورة استبدال الدستور القديم لعام 1982علماً بأنه لا يعترف بحقوق الأكراد القومية السياسية أو الثقافية، ولا بحقوق المجموعات الثقافية الأخرى، ويحدّد لغة واحدة وحيدة للبلاد هي اللغة التركية التي لا يعترف بغيرها ولا بتراث اللغات والمجموعات الثقافية المتنوعة، فإن مسألة التغيير تكاد تكون صعبة ومعقّدة. وقد عملت لجنة المصالحة الدستورية قبل توقّفها 2013 . على استبدال أو وضع 60مادة من الدستور الحالي، لكن هذه التوافقات تحتاج إلى موافقات سياسية لكي تظهر.
ويحاول حزب العدالة والتنمية بعد نجاحه في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 إمرار مشروع الدستور الجديد، لاسيما ان المعارضة تعاني من انقسامات وتصدّعات. وما يهمّه بالدرجة الأساس هو التحوّل إلى نظام رئاسي، لأنه يعتقد أنه يستطيع الحصول على الأغلبية، لاسيّما بمنح صلاحيات واسعة للرئيس، وبالتالي سيمكنهم من حكم البلاد لدورات قادمة.
ويسعى حزب العدالة والتنمية من معركة الدستور، إلى توجيه ضربة إلى حزب العمال الكردستاني، وإلى تمديد وجوده العسكري في كردستان العراق، التي قام الجيش التركي باجتياحها في أواخر العام الماضي 2015 ولديه وجود عسكري قرب محافظة الموصل، ولاسيّما في بعشيقة، ويصرّ على عدم الانسحاب منها، بزعم مكافحة داعش والإرهاب الدولي على الرغم من مطالبة الحكومة العراقية سحب القوات التركية، ولعلّ الهدف من ذلك هو تصويب الأنظار إلى هذه القضايا الكبرى، لكي يمرّ الدستور لصالحها.
وحتى لو اضطرّ حزب العدالة والتنمية إلى تقديم بعض التنازلات بشأن حقوق الأكراد الثقافية، فإنه يريد أن يكون الأمر بمثابة قرار من جانبه أقرب إلى المنحة وليس اتفاقاً مع حزب العمال الكردستاني، الذي لا يريد حزب العدالة والتنمية أن يعطيه مثل هذه الفرصة، ليزداد تأثيره ويرتفع رصيده لدى الأكراد.
هل يفلح حزب العدالة والتنمية في النجاح بمخططه هذا أم ثمة عقبات وعراقيل تقف في طريقه؟ أغلب الظن إن هناك تحدّيات ليست بالقليلة تواجه وضع دستور جديد وإجراء استفتاء عليه ليحظى بالمصادقة، لاسيما في ظل التجاذبات السياسية الحادة وضعف الثقة بين الأطراف المتصارعة، ناهيك عن محاولة كل طرف إقصاء أو تهميش الطرف الآخر، فالمعارضة تريد الإطاحة بالحكومة، والحكومة تتشبث بالبقاء وتحاول إضعاف المعارضة وتقسيمها، وبالتالي تهيئة المناخ السياسي لإمرار مشروع الدستور.
ويذهب حزب العدالة والتنمية لتبرير انحيازه للنظام الرئاسي لأنه يريد تجنّب حالة الفوضى والفشل الذي رافق الحكومات التوافقية أو التحالفات الائتلافية التي سبقت مجيئه إلى السلطة، ولهذا يريد بناء تجربة تركية جديدة ودولة تنموية متماسكة ومؤثرة، وإذا كان مثل هذا الأمر صحيحاً حتى حلول موجة الربيع العربي، فالأمر اختلف كثيراً بعده، لاسيما علاقات تركيا مع سوريا والعراق ومصر وتونس وليبيا واليمن وحتى مع بعض دول الخليج، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن القوى المعارضة متخوّفة جداً من تشبث الحزب بالسلطة واندفاعه للاستئثار بها، وهو ما عبّرت عنه أوساط غربية أيضاً، لا تحبّذ قبول تركيا في الاتحاد الأوربي .
http://albayyna-new.com/?p=44077