نستقبل العام الميلادي الجديد ونحن نتطلع إلى ما آلت إليه أوضاع العرب على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعقائدية، كما نرنو بترقب وأمل ووجَل إلى المستقبل؛ راجين أن يحمل في طياته بشائر السلام والاستقرار والأمان في ربوع وطننا العربي الكبير.
إن تأسيس التكافل الاجتماعي وبناء السلام المجتمعي في ظل أي مجتمع أو ثقافة لا يمكن أن يتمّا في ظروف تبيح ممارسة أي صنف من صنوف الإرهاب. إن غياب التعريف الصحيح للإرهاب رافقَه تعدّد صنوفه وأشكاله؛ فهنالك «إرهاب الفرد» و»إرهاب الجماعة» و»إرهاب الدولة»، و»الإرهاب البيئي» و»الإرهاب الثقافي» و»الإرهاب الفكري»، ناهيك عن الإرهاب السياسي وصراع القوى عبر تاريخ البشرية.
إن اجتثاث الإرهاب، الذي تتعدد جذوره وأسبابه يحتاج إلى مبادرة إنسانية شاملة وإلى صحوة تعظّم مركزية الإنسان في موضوعي الاستدامة والتنمية، ولا تزال الموارد البشرية في مجملها تُمثّل الهدف الأساسي للتنمية العادلة التي نسعى إلى تحقيقها.
علينا أن ندرك أن الأمن المتكامل إنساني وطبيعي ويأتي قبل أي اعتبار آخر، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (سورة قريش: 3و4).
يكمن التحدي الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم في كيفية بناء السلام وإرساء قواعد الأمن واستدامة التنمية وسط عالم سريع التحوّل، فلا يمكن تحقيق السلام من خلال التنمية الاقتصادية والسياسية وحسب؛ بل من خلال تنمية رأس المال البشري وتحقيق التضامن الفكري والأخلاقي، وترسيخ الدولة المدنية ضمن هويّة المواطنة الحاضنة لقيَم التعددية والتنوع الثقافي والديني.
أقول: اتقوا الله وتفكروا كيف تنتهي الحروب!
لا بدّ من تأكيد الحاجة إلى الجمع بين إعادة الإعمار بعد الحروب ومآلاتها وتكافؤ الفرص، ففي غياب الإعمار الاقتصادي والاجتماعي المتوازن، ستعاني الدول المضيفة للاجئين من الآثار السلبيّة على الاقتصاد نتيجة تدفق المقتلعين والحاجة إلى توفير المزيد من الخدمات الحياتية والمعيشية الأساسية، ومع انعقاد اللقاءات على المستويات كافة لبحث مشكلات اللاجئين وسبل معالجتها، فإن تأطير هذه الاجتماعات بما يؤدي إلى إصدار رسالة واحدة تهدف إلى إخراج الأمة من هذا الوضع المأساوي أمر أساسي يضمن نجاح الجهود المبذولة من أجل إنهاء هذه المعاناة الإنسانية التي تطال آثارها الأجيال الحالية والقادمة.
إن احتكار الحقيقة من سمات الخطاب الضيّق الذي أصبح يميّز التطرف العقائدي السياسي في كل أنحاء العالم، ولدى كافة الشعوب تقريبًا بلا استثناء، فهو، بذلك، شكل من أشكال الإرهاب الفكري، الذي يرفض قبول الرأي الآخر ويجنح إلى تكفير صاحبه لأنه يختلف معه فكريًّا أو مذهبيًّا، كما يؤدي إلى ممارسات القتل باسم الدين. لذلك، يتعارض «الإرهاب الفكري» مع الإسلام، أولاً وقبل كل شيء، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (سورة الغاشية: 21 و22).
كما يصطدم هذا النمط من الفكر المنغلق مع مصفوفة من المفاهيم والقيَم التي تشكل عماد أي مجتمع مدني ودولة حديثة قابلة للحياة، وهي: «المواطنة المسؤولة؛ التفويض المجتمعي»؛ العيش المشترك في خدمة الصالح العام؛ التنوّع دونما تمييز إلا على أساس احترام حق الحياة وحق الأجيال القادمة؛ والقيم التربوية في نظرة جامعة للمشتركات، وفي هذا السياق، أشير إلى وصف قداسة البابا فرانسيس في رسالته في عيد الميلاد للذين يُضطهدون اليوم بسبب دينهم بأنهم «شهداء اليوم».
إن البيئة التي ترعى الإرهاب بأي شكل كان هي بيئة منكفئة على ذاتها لا تولي اعتبارًا للقيَم الإنسانية والتلاقي بين الثقافات وأتباع الديانات، ولاسبيل للتقدم والإصلاح إلا بمعالجة تلك البيئة الحاضنة التي أنتجت أشكالاً من الغلاة والغزاة والطغاة وغاب فيها احترام الآخر وتقدير ثقافته ودينه. فما أحوجنا إلى الخطاب العربي الوطني ذي الأبعاد السياسية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية، الذي يصبّ في خدمة الصالح العام لوطننا العربي ويجمّع مكوّنات هوية الأمة ولا يفرط فيها، ولا بدّ من تعريف الصالح العام؛ استنادًا إلى معلومات دقيقة وسليمة غير مسيّسة، وخطاب اجتماعي يعبّر عن مصالح الناس جميعًا، أقول: ما لم نسُدّ العجز في ميزان الكرامة الإنسانية ونصون وقار الإنسان سنواجهُ مزيدًا من صناعة الكراهية.
وفي هذا السياق، أؤكد الحاجة إلى الربط الإيجابي المثمر بين ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها، وتحقيق الانسجام والتوازن في العلاقة بين «الأنا» و»الآخر» وبين الفكر والواقع، وإعطاء الأولويّة للتفكير النقديّ العلميّ والثقافة العلميّة؛ انطلاقًا من المسؤولية الفردية والجماعية، فمتى يتحقق الانتقال من ثقافة «الأنا» إلى ثقافة «النَحْنُ»؟ ومع مرور مئة عام على انطلاق الثورة العربية الكبرى في العام 1916، فإننا نستذكر منطلقات هذه الحركة النهضوية المباركة المستندة إلى حفظ كرامة الأمة العربية ووحدتها والتمسك بقيَم الإسلام النبيلة.
حدّد عبد الرحمن الكواكبي قِوام النهضة بأمرين أساسيّين: الدين والعلم؛ الدين العامِل، والعلم الواعي ،إنّنا بحاجة إلى نهضة عربية تستكمل مسارات النهضة التي حصلت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي. فالنهضة هي المحصّلة لعملية التغيير، وهنالك أمران مهمّان مؤثّران في حدوث النهضة: الذات والآخر.
إن النهضة العربية، التي عبّر عنها عبد الرحمن الكواكبي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وروّاد الفكر في تلك المرحلة تلتقي مع سيرورة الشريف الحسين بن علي النهضويّة عبر ثقافة التّحديث التي لا تعتمد على الإقصاء وإلغاء الآخر، وتستلهم من التراث ما يجعل للتحديث والحداثة هُوية.
إن أمتنا العربية بحاجة اليوم إلى تقرير المصير الثقافي في خضم ما تشهده من فراغ خلّفته الظروف السياسية والتحديات على أكثر من صعيد، لا بد من تعزيز الاهتمام بالثقافة العربية في كل مكان، بصرف النظر عن الانتماء الديني للمنتسبين إليها، هنالك حاجة إلى تجديد الخطاب العربي بما يحرص على الطرح العقلاني للمشكلات التي تشغل الوطن والإقليم والأمة، بحيث يكون التعاطي معها من دون مبالغة ولا تشدّد بغيْر حق، بل بعرض منطقيّ متماسك للحُجج.
وفي إطار مواجهة التطرّف العقائدي في أوساط الشباب، ومكافحة انتشار العنف باسم العقائد المسيّسة؛ سواء أكانت دينية أم علمانية، لا بدّ من إيلاء المؤسسات التوجيهية المعنيّة بالتربية والتعليم والإرشاد والقضاء والإعلام العناية التي تمكّنها من النهوض بوظائفها ومهماتها، والتصدي بالقدوة والريادة لما يتمّ من تحويلٍ للمفاهيم وتحريف لها من طرف واحد. إن استيعاب حقيقتي الإرهاب والتطرف بحاجة إلى رؤية ثقافية ومشروع حضاري لنهضة العالم العربي والإسلامي. وهنا أدعو إلى الحوار مع مكوّنات المجتمع الفتية بأدوات المحادثة والحوار المسؤول والعمل على تفويضها بما يمكّنها من المشاركة الفاعلة في صنع المستقبل - مستقبلنا جميعًا.
وحتى نتمثّل بقوله تعالى في محكم التنزيل: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر» (سورة آل عمران: 104)، علينا أن نحافظ على وحدة الصف، وأن نبتعد عن أسباب الفرقة حتى تنفتح أمامنا آفاق الرسالات السماوية التي جاءت رحمة لبني البشر.
http://www.alrai.com/article/759025.html