مدينة النور والثقافة والعطور باريس تعيش أيامًا صعبة بعد ان استهدفتها الهجمات الإرهابية الجبانة التي تبنتها بكل فخر عصابة داعش من دون وجل أو حياء، فأين الفخر باقتراف جريمة منكرة راح ضحيتها اكثر من مائة وعشرين قتيلا وأكثر من ثلاثمائة جريح من دون ذنب جنوه سوى كونهم من سكان العاصمة الفرنسية باريس؟ بعضهم مجتمع في حفل ثقافي على مسرح باتاكلان، والبعض الآخر كان مجتمعا في استاد رياضي لمتابعة مباراة فرنسا وألمانيا وآخرون في مطعم.
وقد ولدت هذه الهجمات حالة من الغضب والترقب والقلق مع الاستعداد الأمني العالي لمحاربة الإرهاب وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ وأغلقت الحدود وظهرت مظاهر الحزن والأسى لدى جميع المواطنين الفرنسيين وتطابق موقف المعارضة والحكومة في مشهد فريد للوحدة الوطنية تعانق فيها الرئيس الحالي هولاند مع الرئيس السابق ساركوزي وتوعدا الإرهابيين بدحر حربهم المعلنة على دولة فرنسا.
وقد انتصر العالم أجمعه لفرنسا باستنكار هذه الاعتداءات وإدانتها واعتبارها جريمة بحق الانسانية ولا تقرها الديانات السماوية كافة ولا المبادئ والاعراف الانسانية، وقد شاركت الدول العربية والإسلامية جمعاء في استنكار اعتداءات باريس وتوجه زعماؤها بدعوة مباشرة للمجتمع الدولي لتطوير آليات فعالة وجادة للعمل المشترك على المستوى العالمي وتبني استراتيجيات للعمل الوقائي والاستباقي لمحاربة كل من يسعى للهدم والتخريب.
والقت هذه الاعتداءات الاثمة بظلالها على قمة العشرين التي تزامن انعقادها في مدينة انطاليا التركية مع هذه الهجمات حيث أدان زعماء الدول الاقتصادية الكبرى هذه الاعتداءات، فقد قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن اعتداءات باريس وغيرها من الأعمال الإرهابية الأخيرة تؤكد أن العالم يشهد نوعًا من «الفاشية» التي ظهرت في القرون الوسطى الداعية إلى التدمير ونشر الفوضى، فيما أدانت الدولة المضيفة ببيان رسمي هذه الهجمات الإرهابية وأكّد رئيس وزراء تركيا داوود أوغلو من خلال تصريح صحفي وصفه لهذه الحملة الإرهابية قائلاً: إن الإرهاب لا دين له ولا جنسية ولا يمثل قيمًا ولا يتعدى كونه جريمة ضد الإنسانية، كما ان البيان الختامي لهذه القمة ركز على سبل محاربة الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله...
وهنا استذكر التجربة التي نفذتها بلادي المملكة العربية السعودية لمكافحة الإرهاب وتجفيف موارده تطبيقًا للاستراتيجية الأمنية التي وضعها المغفور له بإذن الله الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله والتي ترتكز على استئصال خلايا الإرهاب بالعمليات الأمنية الاستباقية وبجناحها الثاني النصح الفكري والتي أشرف على تنفيذ هذه الاستراتيجية سمو الأمير محمد بن نايف ولي العهد ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ويقظة وإخلاص رجال امننا الوطني والتي أثمرت نتائجها في عودة الكثير من أبنائنا الشباب إلى جادة الصواب بالاقتناع الفكري بخطأ مسيرتهم الضالة...
وأمام هذا الحدث الجلل الذي اجمع العالم على استنكاره واستهجانه والتعبير عن الاسى والحزن على ضحاياه الابرياء والذي حدا بعواصم كثيرة في العالم ان توشح معالمها وأبراجها بالعلم الفرنسي تعبيرا عن تضامنها مع باريس عاصمة العلم والنور، ألا يحق لنا نحن شعوب العالم العربي والإسلامي ان نتساءل عن موقف المجتمع الدولي ورد فعله تجاه ما نواجهه من إرهاب متعدد الألوان والصور بات ينفذ وبدم بارد حيث اعتادت بعض مدننا سماع أصوات التفجيرات وأصبحت سيول الدماء طبيعية مألوفة لنا.
نعم نتساءل ألا تستحق هذه الجرائم اليومية الاستنكار والحزن الإقليمي والدولي لكون الإرهاب وليد التآمر المخطط له من قبل أعداء أمتنا وتوجهه نحو تخريب أمننا القومي تنفيذًا للمشاريع العدائية ضد مجتمعاتنا في شرقنا الأدنى والأوسط؟ ولا مانع لديهم أن تكون جثث ضحايا هذا الإرهاب المستمر ودماؤنا الرخيصة بنظرهم مواد بناء للشرق الأوسط الجديد والكبير لتتربع إسرائيل ومن أنشأها على جثامين ودماء ضحايا إرهابهم المتعمد تحريضا ودعما..
وهنا لا بدَّ أن نقف وقفة تأمل وتفكير عميق ونشير بكل شجاعة وشفافية إلى المسؤول الرئيسي عن هذه اللعبة العالمية والتي تنفذ وبغباء ظاهر من جماعات تنتمي إلى أمتنا غسلت أدمغتها نحو سلوك طريق الإجرام الإرهابي تحت مظلة الجهاد الإسلامي تنفيذًا لفتاوى مغرضة غير مسؤولة سمحنا لها لتؤدي بالنتيجة إلى الحقد والنفور من كل مظهر حضاري أعلامي في المشرق والمغرب من عالمنا هذا والتي كانت بدايتها في أفغانستان وآخرها وليس نهايتها في باريس!
نحن المجتمع العربي الإسلامي ببعدنا عن مبادئ الأمن الفكري قد سمحنا بظهور التطرف السياسي باسم الإسلام المتطرف دون أدراك خطره على مجتمعاتنا وأهملنا السبل الرقابية في البيت والمسجد والمدرسة ووسعنا مسافته للتحريض نحو الصراع المذهبي والذي جعل الطائفية والعرقية عنوانًا للمشهد السياسي العربي الإسلامي وأصبح المسلم يكفر الآخر وبدعم وتأييد إقليمي ودولي وتفككت وحدتنا الوطنية حتى أن بعض العملاء من أتباع الطابور الخامس أخذوا يبشرون عن طريق أبواقهم الإعلامية بتقسيم بلادنا على أساس طائفي وعرقي، ونحن نتفرج وكأن الأمر لا يعنينا ونسينا أن في توحد قوانا درعًا لحماية أوطاننا متنازلين عن حقنا السيادي تحت التهديد الإقليمي والتحذير الدولي لنتائج اتحادنا وتخويف مراكز القرار في فقدان سيطرتها على مساحة سلطتها الوطنية.
ومع استنكاري لهذا الجنون الإرهابي لداعش في قتل الأبرياء الفرنسين وإثارة الرعب والخوف والدم بين سكان باريس الآمنين من دون مبرر مقنع وسلوك طريق الشر والإجرام المؤدي إلى النفور والعداء لديننا الإسلامي الحنيف وبهذا التصرف الأرعن والذي تنبذه كل الأديان السماوية مجتمعة فالدين أساسه وغايته الدعوة للسلام وتهدئة الروح والجسد وخلق مجتمع أخلاقي للتعايش الإنساني بين شعوب كوكبنا الذي نعيش على أرضه من دون تمييز لغربه وشرقه..
ومع هذا كله فإني أدعو العالم الذي أجتمع في حزنه واستنكاره للاعتداءات التي تعرضت لها باريس أن يخصصوا جزءًا منه على ضحايا إرهاب الدولة والمليشيات والقاعدة وشقيقتها داعش التي تفتك بأبناء المشرق في غزة والقدس وبغداد وبيروت ودمشق الشام، والمسلمين في نيجيريا ومينامار وكشمير والأيغور الصينية وغيرها في جغرافية إفريقيا وآسيا وتسيل دماؤهم وتخرب أوطانهم وتُسبى نساؤهم وتعرض للبيع وبشكل مذل للإنسانية العالمية دون أدنى اهتمام من قادة القوى الإقليمية والدولية والتي تتبجح بإعلامها بالسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية... إن دماء الغرب والشرق متماثلة التكوين وتسفك من جسد إنساني واحد وبآلة إرهابية واحدة وأتمنى ان يكون سلاح مكافحتها واحدا وبمكيال انساني واحد أيضا وبنفس الجدية والصدق الذي نحس به وبألم في الدعم والاستنكار العالمي لمأساة باريس!!
j عضو هيئة الصحفيين السعوديين عضو الهيئة التأسيسية للحوار التركي العربي عضو منتدى الفكر العربي.
abdulellahalsadoun@gmail.com
http://www.akhbar-alkhaleej.com/13754/article_touch/53516.html