منذ ألقى رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، خطابه الشهير أمام الكونغرس الأميركي، في مارس/آذار الماضي، في محاولة لعرقلة الاتفاق النووي مع إيران، مع ما رافق زيارته واشنطن من استياء لدى أوساط أميركية كثيرة (وإسرائيلية)، وتدهور في العلاقات بينه وبين الرئيس، باراك أوباما؛ وبعد أن دخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ، ولم يعد في وسع نتنياهو القيام بأي نشاط سلبي حياله؛ أتاح أوباما لنتنياهو فرصة زيارة واشنطن والاجتماع به في البيت الأبيض، في 9 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري. لكن، يبدو أن نتنياهو لا يترك فرصة، من دون أن يحاول إحراج أوباما. ومن هذا القبيل، عيّن قبيل قدومه ران باريتس، ناطقاً رسمياً بلسان الحكومة الإسرائيلية، والمذكور يسكن في مستوطنة، وسبق أن صرّح أن "الرئيس أوباما معاد للسامية، وذكاء وزير خارجيته، جون كيري، لا يفوق ذكاء ولد مراهق". وأثار هذا التعيين احتجاجات واستياء فاق الاستياء الذي رافق ذلك الخطاب في الكونغرس، ما حمل نتنياهو على الإعلان أنه "لم يكن على اطلاع بهذه التصريحات"، وإنه يفكر في إعادة النظر في هذا التعيين. ويدل هذا الأمر على أن معظم قرارات نتنياهو تدل على التسرع في اتخاذها، معتقداً أنه يستطيع تمريرها وتنفيذها. كذلك تصريحاته عندما أعلن، أن مفتي فلسطين الراحل، الحاج أمين الحسيني، هو الذي أقنع هتلر بتنفيذ محرقة اليهود، ما أثار غضباً شاملاً لدى معظم يهود العالم.
غالباً ما يتصرف نتنياهو بطريقة فوقية، يملي ولا يقنع. وكأن الحقائق لا تعني له شيئاً، وكأن من ينتقد أخطاءه، وهي كثيرة، ليسوا سوى طفيليين. ولا يدعم أقواله سوى من هم أكثر منه تطرفاً. ويفسر هذا النهج الذي يتبعه نتنياهو التزامه بإلغاء كل حقوق الشعب الفلسطيني، متحدياً قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والرأي العام العالمي. كما يتحدّى قسماً متزايداً من الرأي العام اليهودي في العالم. بمعنى آخر، أخذت شرعية حكمه تتلاشى، وبدأت إدانته تزداد في أوساط من يتكلم ضدهم، وكثيرين ممن بدأوا يدركون خطورة استمرار أمثاله في الحكم والمخاطر التي أصبح ينطوي عليها، من تصديه للرئيس أوباما في الكونغرس، إلى ما يحصل اليوم في القدس الشرقية. بالإضافة إلى التزامه سياسة التمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، وحروبه على غزة، إصراراً منه على استحالة قيام دولة فلسطينية.
"الأرجح أن نتنياهو سوف يطالب بمزيد من الأسلحة المتطورة لإسرائيل، ومن المساعدات المالية والاقتصادية لمجابهة ما يروجّه بشأن الاتفاق النووي الإيراني" |
وإذا كان لا بد من توقع ما قد يحصل اليوم من زيارة نتنياهو هذه إلى البيت الأبيض، فالأرجح أنه سوف يطالب بمزيد من الأسلحة المتطورة لإسرائيل، ومن المساعدات المالية والاقتصادية لمجابهة ما يروجّه بشأن الاتفاق النووي الإيراني، أنه يشكل "خطراً وجودياً على إسرائيل"، إذ إنه يسوّق على أن أي انتقاد لإسرائيل خطر وجودي عليها. وهذا ناجم من تصميمه على المبالغة في تصوير الأخطار على إسرائيل. وعليه، أصبح واضحاً أن هذه المبالغات أدت إلى مزيد من العزلة لإسرائيل، وبداية للتنصل من سياساتها الشرسة، وهذا يؤدي إلى تنامي عدم أخذ كلامه على محمل الجد.
ولعل ما يختزل تحدي مصداقية نتنياهو، وأمثاله، ما يقوله ويكتبه صهيونيان يكيلان لنتنياهو أشد الانتقاد، هما ستيفن ليفنسكي ومالكوم وايل، اللذان نشرا مقالاً في 25 أكتوبر/تشرين أول الماضي، في "واشنطن بوست"، يؤكدان فيه أن جل ما يفيد إسرائيل هو سحب الدعم الأميركي الدبلوماسي والمساعدة لها، وكذلك مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، لاعتقادهما أن الاكتفاء بمقاطعة المواد المنتجة في المستوطنات لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة في حمل الإسرائيليين على إعادة النظر في الوضع الراهن. ومن هنا، هما يعلنان أنهما يرفضان بحزم السفر إلى إسرائيل، ويطلبان من النواب الأميركيين مساعدة وقف مساعدة إسرائيل إلى أن تلتزم بعملية سلام جدية، إما بإقامة دولة فلسطين أو بإعطاء الفلسطينيين جميع الحقوق الديمقراطية ضمن دولة واحدة.
قد يعتقد بعضهم أن هذا المنحى لا يعكس سوى الأقلية، لكن من شأن وجود مثل هذا الجو داخل إسرائيل أن يسرّع قيام الدولة الفلسطينية، بعد إزالة العوائق التي يمثلها ويضعها أمثال نتنياهو، إذ يؤثر ازدياد هذا الوعي على سياسة نتنياهو وأمثاله على إسرائيل، ما يشكل، في المقابل، دفعاً للشعب الفلسطيني على ترسيخ وحدته الوطنية، وتصميمه على إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وتخلص القيادة الراهنة من واقعية "مزورة" أدت، منذ اتفاقية أوسلو، إلى إضعاف البعد المقاوم وفقدان المرجعية الواحدة، وضرورة تجاوز الخلافات القائمة التي تشوه نقاء الالتزام بالقضية الفلسطينية. -