EN | AR
إشهار (أغصان الكرمة: المسيحيون العرب) في منتدى الفكر العربي
الثلاثاء, نوفمبر 3, 2015

عمّان- هديل الخريشا

مندوباً عن الأمير الحسن بن طلال رعى الأمين العام لمنتدى الفكر العربي د. محمد أبو حمور حفل إشهار ومناقشة كتاب (أغصان الكرمة: المسيحيون العرب) للمفكر د. عبد الحسين شعبان، والذي نظمه المنتدى بالتعاون مع المعهد الملكي للدراسات الدينية والجمعية الأردنية للعلوم والثقافة، مساء أول من أمس في مقر المنتدى.
وشارك في مناقشة الكتاب والتعقيب عليه بحضور المؤلف كلٌّ من: الدكتور منذر حدادين، والمهندس سمير حباشنة عضو المنتدى، والأستاذ جريس سماوي، وأدارت اللقاء الدكتورة ماجدة عمر مدير عام المعهد الملكي للدراسات الدينية.
و قال د. أبو حمور في كلمته الافتتاحية: «إن هذا الكتاب بما يطرحه من أسئلة مصيرية لا يعالج قضايا فرعية أو آنية مجردة عن امتدادها الحضاري، وعن إعادة بناء الدولة العربية واستشراف المستقبل القريب والبعيد معاً؛ بقدر ما هو بحث يغوص في حقيقة الكيان الإنساني العربي وهويته الثقافية، ومخاطر ما يتعرض له من تهديدات في مكونات وحدته وتماسكه الكياني».
وأضاف أن قضية المسيحيين العرب، :»بما تعنيه من مكون أساسي في حضارة هذه المنطقة وتنوعها الثقافي، وبما تفضي إليه من تشابكات العلاقة مع الغرب والتشوهات التي أصابت صورة الإسلام والمسلمين، نتيجة الممارسات المُدانة في الداخل والخارج، أصبحت تمثل قضية وجود للمسلمين والمسيحيين على السواء، وتؤكد أن الاستهداف بدعوات التكفير والاضطهاد والطائفية البغيضة وأشكال التفرقة والإساءة للمقدسات وممارسات العنف والإرهاب على أي جانب كان، هو استهداف للمشترك الإنساني في هذه المنطقة، ولا ينفصل عن استهداف الأرض والإنسان والتاريخ والمستقبل في الصراع العربي الصهيوني».
وأشار د. منذر حدادين إلى الوثائق النبوية التي تضمنت عهوداً بالأمان لنصارى نجران ورهبان طور سيناء، وبعض ما جاء في القرآن الكريم من آيات تحض على معاملة أهل الكتاب بالمودة والحسنى. وقال :»إن في كتاب د. شعبان شجاعة في الإعراب علناً عن آراء أمر بها الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) في زمن طغى فيه من ابتعد عن الإسلام في ممارساته وقيمه، وهو زمن استبد فيه الاحتلال الصهيوني للأرض التي بارك الله حولها، وبدلاً من رص الصفوف والاتحاد بيننا لإنقاذها من أصفادها، نرى من يدعي النصرة لله واحتلال آخر للعقل، ملأه الصهاينة ومتطرفو الفكر الغربي بفكر لا يناسب إلا أعداء الإسلام، وانتجت حرب الغرب على الإرهاب بدلاً من القضاء عليه دولة مزودة بالسلاح تصدر النفط لحلفائها المعروفين».
ورأى د. حدادين ان ما تضمنه كتاب (أغصان الكرمة) من حقائق منها أن المسيحيين العرب هم عرب قبل أن يكونوا مسيحيين، تحدروا من القبائل العربية الأصيلة، ولهم دور تاريخي وثقافي قبل الإسلام وبعده، ولا سيما في عهود حروب الفرنجة، إذ اصطف العرب المسيحيين في هذه المنطقة إلى جانب بني قومهم، حتى إن مؤرخي تلك الحروب ذكروا دهشة قادة الفرنجة يوم فتحوا الكرك في جنوبي الأردن عام 1142 بعد حصار طويل من أن أهل المدينة المقاومين كانوا من المسيحيين العرب. كما كان دورهم رائعاً عند دخول صلاح الدين بيت المقدس سلماً بعد حطين حقناً للدماء، إذ تم تسليم المدينة إلى المسيحيين العرب الذين كان أول ما فعلوه تطهير المسجد الأقصى من رجس بهائم الفرنجة، واستحضار منبر صلاح الدين من حلب ليحتل مكانه في هذا المسجد».
ودعا د. حدادين في كلمته :»إلى تحرير فكر الإرهابيين من استيطان الفكر التكفيري في عقولهم وفهمهم المنحرف والمغلوط للإسلام السمح، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة إلا من ظلم منهم».
وبدوره دعا رئيس الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة وعضو المنتدى المهندس سمير حباشنة المفكرين العرب المستنيرين :»للمحاولة لأن تستعيد الأمة ذاكرتها الإيجابية، وإحياء كل المعاني الخيرة والسامية، وأن نعيد لعقيدتنا الواحدة باشتقاقاتها المتعددة والمتنوعة مكانتها المرموقة، فنطفىء حرائق التخلف والجهل التي تسيطر على المشهد العربي اليوم». وقال:» إن كتاب د. شعبان يأتي في وقت نحن في أمس الحاجة إليه، باعتبار أننا نمر بمرحلة حرجة يغيب بها العقل ونفتقد ذاكرتنا الإيجابية تحت وقع القتل والدمار».
كما أكد الحباشنة على :»تغليب الهوية العربية على كل الهويات الفرعية والإثنية والعرقية، وتنزيه الأديان فوق كل المعاني الدنيوية المادية والسياسية، وأن تكون المواطنة المكتملة هي الأساس الذي يحتكم إليه العرب، بصرف النظر عن دياناتهم أو مذاهبهم أو طوائفهم؛ موضحاً أن العودة إلى مفهوم العروبة كوعاء حضاري يستوعب كل الأعراق الأخرى التي عاشت بين ظهرانينا وانخرطت في الحياة العربية، كما أنه أساس للانطلاق والنهوض العربي وتحريره من كل التناحرات والمناكفات الذهنية والخشنة التي تمايز بين العرب على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي... لكي نعيد لملمة الجسد العربي المتشظي، ولنصل إلى أن مشكلتنا مع إسرائيل ليست مع اليهودية؛ بل مع الصهيونية كحركة استعمار غربي جاءتنا بلباس اليهودية، مع أنها ليست إلا شكلاً مكرراً من أشكال الاستعمار الكولونيالي على غرار الاستعمار العنصري الأبيض لجنوب إفريقيا وروديسيا «زيمبابوي حالياً».
كذلك دعا إلى الخروج من الإطارات النخبوية وأن نشرح للعرب حقيقتهم الأزلية، وتخليص الإسلام من كل ما علق به من خزعبلات وبدع تمكنت من ثقافتنا في عصور الظلام، وغطت على جوهر الإسلام السمح الذي يعترف بحق الآخر بالاختلاف».
ووصف الشاعر جريس سماوي جهد د. شعبان في كتابه (أغصان الكرمة) :»بأنه يعبر عن شجاعة علمية وموقف أخلاقي، في وقت تعصف الكراهية والانشقاق والظلامية والسطحية بالمنطقة، خصوصاً فيما يتعلق بالمكونات الأصيلة من مكونات مجتمعاتنا، ومنها المسيحيون العرب الذين ساهموا في الحضارة العربية الإسلامية مساهمة الأبناء المدافعين عنها والمحاربين من أجلها لأنها منهم ولهم، وأيضاً في الوقت الذي لم نجد مظاهرة أو صوتاً أو صرخة احتجاج على ما حصل لمسيحيي الموصل أو أزيديي العراق، وكأن الشارع العربي قد لمسته يد أدت به إلى الشلل».
وناقش سماوي مجموعة من الأسئلة والأفكار التي يتضمنها كتاب د. شعبان، والمتعلقة بدور المسيحيين العرب الوطني والنهضوي والتنويري، وحفاظهم على اللغة العربية، والدفاع عن الإسلام، وعدم اعتبارهم أقلية كونهم في بلدانهم هم أغلبية لأنهم عرب. وأشار إلى إن الجواب عن التساؤل حول هجرة المسيحيين المتزايدة من الشرق العربي وتفريغ المنطقة منهم، يقع :»على عاتق إقامة الدولة العصرية التي تقوم على المساواة، وعدم التمييز، وهي مسؤولية عربية وإسلامية - كما يؤكد د. شعبان - ودعا من جانبه إلى قوانين وتشريعات تعزز المساواة والعدل وحرية الفرد وحقوق المكونات الثقافية المختلفة، وتحترم الاختلاف والتنوع وتحرّم وتجرّم التمييز والطائفية».
من جهته، أكد د. عبد الحسين شعبان أن ثمة ستة عناصر للوحدة بين أقطار الوطن العربي :»هي التنمية والتحرر السياسي والديمقراطية والانبعاث الحضاري، باستنهاض طاقات الامة، والعدالة الاجتماعية، مستبعداً جدوى أي حديث عن مشروع عربي جوهري في ظل حالة تخيم فيها اجواء الفقر والجهل، وغياب المواطنة».
وأشار إلى :»أن هجرة المسيحيين في الشرق العربي بدأت بفلسطين قبل عام 1948، وبصورة منظمة، حين تناقص عددهم من اكثر من 20 بالمئة، الى ما نسبته 5ر1 بالمئة راهنا، مشيرا الى ان القدس وحدها كانت تحتض 50 الفا، لكنهم اليوم لا يزيدون فيها على 5 آلاف».
كما شرح د. شعبان إلى أن ثمة تمييزاً قانونياً لدى بعص البلدان العربية بحق المسيحيين وغياب المواطنة السليمة المتمثلة بعناصر اساسية كالحرية والمساواة والشراكة والعدالة الاجتماعية»، وارجع شعبان في كتابه أسباب هجرة المسيحيين العرب إلى بروز المذهبية ودور الإعلام، واشتعال نار الطائفية في عديد البلدان العربية، في ظل غياب المشروع العربي النهضوي. يذكر أن الكتاب يطرح سؤالاً كبيراً: هل المسيحيون «أقلية»؟ وهل هم أغراب؟ ويتناول أخطاء شائعة على هذا الصعيد، ويتوقف عند إشكالية التنوّع الثقافي في العالم العربي وقصور النخب والتيارات الفكرية والسياسية إزاءها، لاسيما بعد موجة ما أطلق عليه الربيع العربي بنجاحاتها وخيباتها، ويسلط الباحث الضوء على موضوع مرجعية الدولة الوطنية والسبيل لحل مشكلة المجموعات الثقافية والهوّيات الفرعية.
كما يستعيد الباحث بعض الآراء ووجهات النظر القديمة، فيناقشها من منظور روح العصر وبما يستجيب للتطور والتغيير والعيش المشترك والحقوق والحريات ومقاصد الإسلام،  فيحاول إجلاء بعض الإشكاليات التي يتعكّز عليها المتعصبون والمتطرفون والإرهابيون على مختلف توجهاتهم وخصوصاً في التصدي للمسيحيين واستهدافهم تحت عناوين «دار الحرب، ودار السلام» وأهل الذمة ودفع الجزية، ويفرّق بين الإرهاب والجهاد، ويفنّد الأطروحات الأصولية السلفية التي تريد توظيف النصوص الإسلامية بالضد منها.

 

 

 

تعقيب على كتاب

د. عبدالحسين شعبان

 

أغصان الكرمة: العرب المسيحيون

 

 

المعقب

 

د. م. منذر حدادين

 

 

1/11/2015

 

سيدي صاحب السمو الملكي الأمير الحسن المعظم

يا رعاك الله

أستأذنك يا مولاي لتوجيه الشكر لمنتدى الفكر العربي رئيساً ومديراً عاماً، وللمركز الملكي لحوار الأديان رئيساً ومديراً عاماً، على دعوتهم الكريمة التي وجهوها لي للتعقيب على كتاب يثير الإعجاب بقدر ما يستحق من الثناء والإطناب. فشكراً للداعين وشكرا للمؤلف والسامعين.

أيها الحضور الكرام:

 

منتدى الفكر العربي

كتاب الدكتور عبدالحسين شعبان

أغصان الكرمة: المسيحيون العرب

 

يعيد الدكتور عبدالحسين شعبان في كتابه، أغصان الكرمة: المسيحيون العرب، يعيد إلي الشوق القديم في الزمن القديم، يوم أعطى النبي العربي محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وعلى الأنبياء من قبله، يوم أعطى نصارى نجران ومن هم على ملة النصارى خارجها عهدَه المشهور الذي ألزم به كافةَ المسلمين من بعده. فأوصيكم جميعاً بدراسة ذلك العهد النبوي، وأقتبس منه البندين التاليين، وكل بنوده حرية بالاقتباس:

تاسعا- «لا يُرفَضوا (أي النصارى) ولا يُخذَلوا ولا يتركوا هملا، لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».
عاشرا- «على المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام، والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم، وفيما عليهم».

هذا في نظري هو الموقف المبدئي الشرعي التأسيسي لعلاقة المسلمين بالمسيحيين، وهو موقف التزم به أمراء المؤمنين حتى أن ملوك بني أمية قدموا للمسيحيين العون في بناء كنائسهم وترميمها استناداً إلى هذا العهد.

وأعطى النبي العربي عهد الأمان إلى كافة المسيحيين في عهده إلى رهبان طور سيناء المكتوب بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مسجد المدينة وفيه يقول صلوات الله عليه:

"هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجميها معروفها ومجهولها كتاباً جعله لهم عهداً فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئاً وللّعنة مستوجباً سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين"، ويقول:

" ولا يجادلوا إلاّ بالتى هى أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا." وقد شهد على هذا العهد صحابة رسول الله من بينهم:

ابو بكر بن ابى قحافه ، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، على بن أبى طالب ، عبد الله بن مسعود ، العباس بن عبد المطلب ، الزبير بن العوام.

 

وأعرج على معاملة النبي العربي للوفد المسيحي بقيادة المطران الغساني يوحنا بن رؤبة، مطران إيلة، الذي أمّه في تبوك . وصالحه الرسول وأعطاه الأمان. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"يحنة بن رؤبة" "يحنة بن رَوْبَةَ" وأهل أيلة " أعطاهم الأمان لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر ... ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر".

هذه سنة رسول الله، مقتدياً بما أنزل عليه من رب العزة القائل في سورة المائدة (82): "لتجدن أشد عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون."

وقال تعالى في سورة العنكبوت (46):

" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون:"

 ولقد قصدت من الاقتباس أن أذكر أنفسنا والسامعين بما أمربه الله في آياته وتبيان، سنة رسوله وأعمال أبناء الإسلام من بعده. إذ أن ما يشير إليه الدكتور شعبان في كتابه من أفعال الإرهابيين والتكفيريين ما هو إلا خروج عن محكم التنزيل وعصيان لما أمر به الرسول في عهوده للنصارى، فهم بذلك قد خرجوا على الدين الذي فيه أنزل الله قوله "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (المائدة 32). فإذا كان للمسيحيين ما هو للمسلمين كما أمر بذلك الرسول في عهده لنصارى نجران، فقد سن الله للمسلمين في سورة البقرة قوله تعالى:

)واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ( 191 ) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ( 192 ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ( 193 ) )

وأرى جموع المسيحيين الذين اكتووا بنار التكفيريين يتساءلون: من هم هؤلاء الذين يدعون أنهم ينصرون الله في دينه وهم باسمه الأبرياءَ يقتلون ؟ هل رب السموات والأرض بحاجة إلى نصرة من خلقهم أم أنه هو العلي العظيم القادر الجبار، له الملك وله الأمر يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير؟ وأراهم، أي جموع المسيحيين، يمتثلون لأوامر رب العزة ويدعون إلى جدالهم بالحكمة والموعظة الحسنة فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.

ولقد أجاد الدكتور شعبان في كتابه وأرى شجاعة فيه ورباطة جأش إذ يعرب علناً عن آراء أمر بها الله ورسوله في زمن طغى فيه من ابتعد عن الإسلام في ممارساته وقيمه، وهو زمن استبد فيه احتلال الصهيونية الأرضَ التي بارك الله حولها، وبدلاً من رص الصفوف والاتحاد بيننا لإنقاذها من أصفادها نرى من يدعي النصرة لله ضحايا احتلال آخر عبر عنه المفكر الدكتور فيليب سالم باحتلال العقل، فقد كانت عقول هؤلاء التكفيريين متسَعاً بلا فكر فملأه الصهاينة ومتطرفو الفكر الغربي بفكر لا يناسب إلا أعداء الإسلام، ثم أطلق الفكر الغربي المتصهين شرارة الاستيطان في عقولهم إثر جريمة برج التجارة العالمية. وأعلن الغرب الحرب على الإرهاب ونحن نرى اليوم نتائجها: فوضى وتناحر أهلي في أفغانستان، وقضاء على بن لادن فخلقوا العديدين من أمثاله ويزيدون تطرفاً، وقضاءٌ على الدولة في العراق، ونزاعات في سوريا لا تُعرف نهاية لها، ودولة للإرهابيين جاءوا الهلال الخصيب من شتى بقاع الأرض عاثوا فيه فساداً وسفكاً لدماء الأبرياء، واستوطنت حرابُهم في بواديه وفي سهول نينوى. فلمن كانت الغلبة إذن في حرب الغرب على الإرهاب؟ فبدلاً من تحقيق أهدافها بالقضاء على الإرهاب نرى للإرهابيين دولةً مزودة بالسلاح تصدر النفط لحلفائها الذين باتوا معروفين للقاصي قبل الداني.

وأصاب الدكتور شعبان كبد الحقيقة إذ يشير إلى أن المسيحيين العرب هم عرب قبل أن يكونوا مسيحيين، تحدروا من القبائل العربية الأصيلة. وكانوا من ضمن من تجمع على جبل صهيون إثر اجتماع تلاميذ المسيح مع أمه هناك بعد عشرة أيام من صعوده إلى السماء، بل إن الحكماء الذين قدموا من الشرق حاملين الهدايا للطفل الوليد في بيت لحم كانوا من العرب الأنباط على ما يذكر مؤرخو العهد الجديد. وكان ثاني أسقف للكنيسة الأولى في هذا العالم، كنيسة القدس، بعد يعقوب بن يوسف النجار وهو القديس سمعان من أصل عربي نجدي وهو الذي خرج بالمسيحيين من القدس إلى طبقة فحل شرقي نهر الأردن قبل فتح القدس من قبل الإمبراطور تيطس وهدمها مع هيكلها عام 70 للميلاد. ثم إن الإمبراطور الأول الذي اعتنق المسيحية سراً قبل قسطنطين كان الإمبراطور العربي الغساني فيلبوس.  وكثير هم القديسون العرب على أن مسماهم الكهنوتي كان يونانياً لإن تلك اللغة كانت لغة التداول المسيحية. وما القديس ذوجوميوس ذي الموطن السوري إلا الملك ضجعم ملك سليح من قبيلة الضياغمة وكانت سليح تحكم البلاد قبل أن يستولي الغساسنة على الملك منها.

أما القديس ايريثيوس الذي تحتفل الكنيسة العالمية بذكراه بتاريخ 24 كانون أول، لاستشهاده في الأخدود حرقا مع 300 شهيدٍ وشهيدة رفضوا الارتداد عن مسيحيتهم، فما هو إلا العربي الحارث بن كعب الذي استشهد وأبناءٌ من عشيرته عام 520 أو 523، في كل من نجران وظفار ومنحا. ووردت قصة استشهاد هؤلاء الشهداء العرب المسيحيين في "القرآن" (البروج 1-10). يقول رب العزة: "والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود." وهنا نقول: إذا كان رب العالمين يصف المسيحيين في هذه الآيات بالمؤمنين، فمن هم هؤلاء الذين ينعتون المسيحيين بالكفار تارة وبالمشركين تارة أخرى؟ ألا يخالفون الله في ادعاءاتهم هذه؟

وأصاب الدكتور شعبان أيضاً إذ يشير إلى دور العرب المسيحيين قبل الإسلام، وما طمس دورَهم ذاك إلا وصمُ العرب قبل الإسلام بالجاهلية.  وما كانوا كذلك بل كان جهلهم هو بالإسلام الذي لم تكن تبدأ رسالته إلا عام 612 للميلاد بنزول الوحي على النبي محمد بن عبدالله. ويكفي المسيحيين خدمة للإسلام أنْ كان أسقفُ مكةَ ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن عبد مناف بن قصي بن كلاب أول من هدأ من روع محمد بن عبدالله بعد نزول الوحي عليه وقال لابنة عمه خديجة زوج محمد أن محمداً هو النبي المبشر به في الكتب. وسبقت الأسقف إلى تخفيف روع محمد زوجه خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. ويشير الدكتور شعبان كما يشير غيره إلى أن معظم شعراء العربية الفحول قبل الإسلام كانوا مسيحيين من مثل امرؤ القيس بن حجر من كنده، وطرفة بن العبد من بكر، والنابغة من ذبيان، ويضيف غيره عمرو بن كلثوم من تغلب التي حافظت على نصرانيتها إلى ما بعد ظهور الإسلام وزهير بن أبي سلمى المازني، والأعشى من قيس وخلافهم. إلا أنني أميَلُ إلى الاعتقاد أن السموأل بن عادياء كان مسيحياً أيضاً وليس يهودياً كما أفاد الدكتور شعبان. إذ لم تكن من أخلاق اليهود من قبل ولا من بعد ما افتخر به السموأل بقوله:

لنا جبلٌ يحتله من نجيره       منيع يرد الطرف وهو كليلُ

ونحن أناس لا نرى القتل سبة        إذا ما رأته عامر وسلولُ

يقرب حب الموت آجالنا لنا        وتكرهه آجالهم فتطولُ

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم      فليس سواء عالم وجهول

فإن بني الريان قطبٌ لقومهم       تدور رحاهم حولهم وتجولُ

وبنو الريان هؤلاء الذي يفاخر السموأل بهم هم فخذ من كندة أهل امرئ القيس العرب المسيحيين، ولذلك نفهم كيف أودع امرؤ القيس درعه عند السموأل قبل بدء رحلته الشهيرة للاستنجاد بملك الروم للأخذ بثأر أبيه. والاسم السموأل هو تعريب للاسم التوراتي "صموئيل".

وأعجبني قول الدكتور شعبان بأن العرب المسيحيين هم عرب قبل أن يكونوا مسيحيين، وهذا ً صحيح، والصحيح أيضاً أن العرب المسيحيين لم يتكتلوا أبداً كمسيحيين بل كانت تكتلاتهم قبلية فترى حرب داحس والغبراء بين عبس قبيلى عنترة المسيحي وقبيلة ذبيان أهل النابغة المسيحي أيضاً، ولم تتم الإشارة إلى نصرانية أي من القبيلتين. ثم ترى تجمع العرب القحطانيين باسم "يمن" وتجمع عرب الشمال باسم "قيس" مع وجود قبائل مسيحية بين الأولى وبين صفوف الثانية، واصطفت قبائل يمن مسيحيوها ومسلموها إلى جانب مروان بن الحكم الأموي في مرج راهط واصطفت قيس مع عبدالله بن الزبير، وكانت الغلبة في مرج راهط لبني أمية وكان شاعرها الأخطل التغلبي، وكان شاعر عبدالله بن الزبير هو جرير.

ونعجب كما يلاحظ أيضاً الدكتور شعبان ممن يظن أن العرب المسيحيين يميلون إلى الغرب المسيحي أو يصطفون إلى جانبه، أو أنهم بقايا الفرنجة. إذ يغفل هؤلاء عن نشاط العرب المسيحيين خلال سنوات حرب الفرنجة يوم أراد هؤلاء يومئذ إقامة مملكة الله في البلاد المقدسة متلبسين لبوس الدين للتغطية على مطامعهم الدنيوية، وكأنّ الله سبحانه في حاجة إلى من يعينه على إقامة مملكته على الأرض، وهو هدف وموقف يشابهان ما يحاوله إرهابيو اليوم من إقامة الخلافة متلبسين الدين وسيلة لجرائمهم.

وأعود لأذكّر ما خص النبي العربي المسيحيين في نجران وخارجها من أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فأشير إلى قدوم عمرو بن العاص إلى جنوب الأردن من الحجاز في عدد غير كثير من الجنود لفتح مصر عام 638 للميلاد، حين دعا شيوخ القبائل العربية في منطقتنا من غسان ولخم وجذام وقضاعة وكلها على دين النصرانية، وطلب العون منهم لفتح مصر إذ أن جحافل الفتح العربي كانت قصية ومشغولة تحارب في فارس وفي بلاد الشام، فاتصل هؤلاء المسيحيون بالقبط أهل مصر واستشاروهم في قدومهم مع أبناء جلدتهم الحجازيين لتخليصهم من حكم البيزنطيين أصحاب الطبيعتين في حين كان القبط مع مسيحيي الشرق من عرب وآراميين وآشوريين وأرمن على مذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح. وهو الانشقاق الخلقدوني الكبير في الكنيسة عام 451 للميلاد. رحب القبط بالفكرة ودخل العرب المسيحيين مع أقرانهم أبناء قبائل الحجاز من بلي وغيرها تحت قيادة عمرو بن العاص وفتحوا مصر دون معارك تذكر كتلك التي خاضها العرب الفاتحون في اليرموك وفحل وبيسان من البلاد السورية، أو جلولاء والجسر والبويب والقادسية ونهاوند من بلاد السواد وبلاد فارس، ذلك بفضل زخم المسيحيين من عرب وقبط في فتح مصر. ونشير هنا أيضاً إلى دور الغساسنة في فتح شمالي إفريقيا والأندلس.

وفي حروب الفرنجة التي ذكرنا آنفاً كان اصطفاف العرب المسيحيين إلى جانب بني قومهم واضحاً، حتى أن مؤرخي تلك الحروب ذكروا دهشة القادة الفرنجة يوم فتحوا الكرك من جنوب الأردن عام 1142 بعد حصار طويل لأهلها الذين ردوا هجمات الفرنجة المتكررة، ذكروا دهشة الفرنجة من أن أهل المدينة المقاومين كانوا من المسيحيين العرب. ثم كان دورهم رائعاً يوم قرر القائد الخالد صلاح الدين دخول بيت المقدس سلماً بعد حطين ففاوض الفرنجة على تسليم المدينة المقدسة حقناً للدماء لا كما فتحها الفرنجة عنوة وقتلوا من أهلها المسيحيين أكثر مما قتلوا من المسلمين، وكان الحل الوسط هو تسليمها للمسيحيين العرب الذين كانت باكورة أعمالهم تطهير المسجد الأقصى من رجس بهائم الفرنجة، واستحضار منبر صلاح الدين من حلب ليحتل مكانه في المسجد الأقصى، ولا ننسى دور عيسى العوام أيام حصار عكا. ولهؤلاء من أبناء جلدتنا ممن لا يفرقون بين المسيحيين العرب ومسيحيي الغرب نقول:  "ألا تعلمون أن حملة الفرنجة الرابعة عام 1204 احتلت القسطنطينية عاصمة الأمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية وعاثت فيها نهباً وخراباً وأزاحت البطريرك المسكوني واستمر احتلالهم لها حتى عام 1264؟

وأسوق برهاناً على ما أكده الدكتور شعبان في كتابه من خطأ الظن باصطفاف العرب المسيحيين مع الغرب المسيحي فأقول: إذا كان للعرب المسيحيين أن يصطفوا دينياً إلى جانب الأعاجم المسيحيين كما يظنون، أليس خياراً واضحاً - إن صدق ظن هؤلاء المرجفين- أن يكون اصطفاف العرب المسيحيين وجلهم على المذهب الأرثوذكسي إلى جانب الشق الأرثوذكسي من الأعاجم المتمثل في روسيا وأوكرانيا وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا واليونان ومقدونيا والجبل الأسود  وسلوفاكيا وبيلاروسيا وجورجيا، وهي بلاد بريئة مما لحق بالعرب من أذى؟ ولا يكون اصطفافهم - لو صح ظن الاصطفاف مع الأعاجم- مع الغرب البروتستانتي - الكاثوليكي ؟ ثم ألا يتذكر هؤلاء أن دول الغرب هذه علمانية تفصل الدولة والسياسة عن الدين؟ ولو كان للمسيحية أثر في سياساتهم فأين دولهم من قيم المسيحية في المحبة والتسامح والتضامن مع الغير المحتاج؟

وفي بلاد العرب لم نسمع بحزب مسيحي أيام نهضة العرب، لم نسمع بإخوان مسيحيين منذ أن كان إخوان مسلمون، ربما لأن المسيحية تقضي أن" إعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وفي قول المسيح هذا فصل للدين عن السياسة. ولعل في دراسة أدب المهاجر، وأدباؤه مسيحيون عرب، دليل على اصطفافهم حتى في المهاجر الغربية إلى جانب أبناء جلدتهم في بلادهم الأصلية. فانظروا إلى قول الشاعر القروي رشيد سليم الخوري من مهجره في عيد المولد النبوي :

عيد البرية عيد المولد النبوي          في المشرقين له والمغربين دوي

بدا من الفقر نوراً للورى وهدىً         يا للتمدن عمَّ الكَون من بدوي       

يا فاتح الأرض ميداناً لدولته         صارت بلادك ميداناً لكل قوي

يا قوم هذا مسيحي يذكركم         لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي

فإن ذكرتم رسول الله تكرمةً              فبلغوه سلام الشاعر القروي

وقد أصاب الدكتور شعبان كبد الحقيقة في قوله إن للعرب المسيحيين دوراً مهماً في بناء جسر للتواصل الحضاري مع الغرب وأضيف: ومع الشرق المسيحي أيضاً. فالخط الفاصل بين الشرق والغرب تاريخياً هو خط التماس بين من اعتنقوا المذهب الأرثوذكسي (وهم الشرق) وبين من اعتنق المذهب الكاثوليكي (وهم الغرب) أيام انشقاق الكنيسة عام 1054.

وأسوق مثالاً حديثاً على اصطفاف المسيحيين العرب مما خبرته بنفسي في جامعة ولاية أوريغون الأميركية عام 2003 حيث كنت أقوم بتدريس طلاب الدراسات العليا في موارد المياه والبيئة. إذ دلف إلى مكتبي في فترة مراجعات الطلاب أحد طلابي واسمه Case Bowman واستأذن أن يسألني سؤالاً شخصياً فأذنت له فقال: "سمعت أنك مسيحي" وأجبت "ما سمعتَه صحيح"، وقال: "سؤالي هو كيف أصبحتُ أنا البعيد عن الأراضي المقدسة مسلماً في حين أنت المقيم هناك ما زلت مسيحياً؟" فاجأني سؤاله كما فاجأني إسلامه وهو الأشقر الشعر أبيض الوجه وسيمه، طويل الجسم نحيله. فوجئت بالسؤال إذ لم يسألنيه أحد قبل ذلك وكنت قد جبت بقاعاً من الأرض عديدة. فسألته: "كم لك من طول تاريخ في هذه الأرض؟" قال: "ثلاثة أجيال، إذ هاجر جدي من اسكتلانده إلى هنا." قلت: "أترى الفرق؟ إن جذورك في بلادك هذه ضحلة العمق، وبإمكانك أن تحفر حولها وتخلع شجرتك وتعيد غرسها وتعيش، أما أنا فلي في بلادي جذورٌ عمقها يصل إلى ما قبل ظهور الإسلام، فإن حاولت استئصالها لأعيد غرس شجرتي سأموت. وعلى كل حال إن صعب عليك فهم أي أمر في الإسلام أرجوك اتصل بي فبإمكاني مساعدتك."

عاد Case  إلى مكتبي بعد أسبوع ودعاني إلى ندوة نظمها هو للحوار بين اليهودية والإسلام تعقد في أحد مدرجات الجامعة بعد ربعة أيام من دعوته لي، فذهبت إليها ووجدت المدرج مزدحماً بالحضور فجلست في الصف العلوي من المدرج. نظرت إلى السبورة فوجدت جالساً أمامها شخص يحتذي صندلاً ويرتدي ثوباً شرعياً قدمه Case أول المتحدثين وكان كما ظننت المتحدث عن الإسلام، ولم يكن حديثه بأكثر مما تعلمناه في الصف الرابع الابتدائي عن آدم وحواء والجنة والنار ثم عن نزول الوحي وبدء الدعوة إلى دين الله. ثم قدم Case استاذاً أشيب الشعر هو أستاذ الاقتصاد في الجامعة لا تشوب حديثه لكنة من أي نوع وتحدث عن اليهودية بطلاقة. ثم بدأ الحوار. وغني عن القول إن الأستاذ بحديثه وحججه قلص حجم صاحبنا إلى الصفر وأخذ ذلك مني كل مأخذ. ثم طرح موضوع الصدقات للنقاش وقال الأستاذ اليهودي إن ليس في السلام قانون لإنفاق الصدقات كما هو الحال في اليهودية، وأسهب يفصل قانون الصدقات عندهم. وطلبت من تلميذي الرد عليه بدلاً من صاحبنا فوافق وقدمني للحضور بأنني أستاذ في الجامعة من الأردن. قلت مجيباً اليهودي: مع مزيد احترامي لليهودية وقوانينها إلا أن القانون الذي أشرت إليه هو قانون وضعي من جهد الحاخامات اليهود إذ اجتمعوا في طبريا ووضعوا العديد من القوانين بما في ذلك التلمود. إلا أن قانون الصدقات في الإسلام هو قانون رباني منزل، ولأنه كذلك سأتلوه كما أنزل ثم أقوم بالترجمة. وبدأت: " بسم الله الرحمن الرحيم. نما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل." صدق الله العظيم، وقمت بالترجمة ثم أضفت مخاطباً الأستاذ اليهودي، "وأنا متأكد بأن قولك بعدم وجود قانون للصدقات في الإسلام لا تقصد منه إساءة للإسلام وإنما مرد ذلك جهلك به، ونصيحتي لحضرتك أن تلم بالإسلام ما يكفي للحديث عنه."

فوجيء الأستاذ بمداخلتي وأجاب: " أنتم المسلمين تمارسون في بلادكم التمييز ضد المسيحيين واليهود فلا تعطوهم الفرص التي تعطونها لأبنائكم." وأجبت بعد الاستئذان من تلميذي عريف الحفل، وأخرجت هوية الأحوال المدنية من محفظتي وقلت:

"أيها الحضور الأكارم، هذه هويتي الصادرة عن حكومة المملكة الأردنية الهاشمية، وهي تقول في بياناتها الشخصية أن اسمي هو كما قدمني عريف الحفل، وتقول ن ديانتي المسيحية. فأنا محدثكم مسيحي، وقد بلغت في بلادي أعلى المراتب مما لم يبلغها أترابي. وأضيف أن لي ما لهم وعلي ما عليهم. وأنا أحاورهم في شؤون الدين وأتفوق عليهم They run for cover". وأضفت، أعيد نصيحتي لحضرة الأستاذ أن يقرأ ما يكفي عن الإسلام والمسلمين ليتحدث عنهم، فهو بالتأكيد لا يقصد إلحاق الأذى بسمعة الدين وأتباعه وإنما هو جهل لديه فيه." وقد استحسن الحضور مداخلتي وبالتأكيد استمع إليها كما لم يستمع أو يفهم كلام المتحدث عن الإسلام وقد كان شيخ المسجد في بلدة Salem عاصمة الولاية. وكان من ليبيا ورجوته بعد الندوة أن لا يقبل أية دعوة يحاور فيها غيره عن الإسلام والمسلمين.          

وأخيراً أعلق على التركيز على المسيحيين هدفاً للإرهاب المتخذ من الإسلام لبوساً فأقول إن خطر الإرهاب الماثل أمامنا هو أشد على الإسلام  وعظمته منه على العرب المسيحيين، فعقول الإرهابيين هؤلاء قد احتلها أعداء الإسلام ومهد لذلك الاحتلال سقوط الاتحاد السوفييتي الذي في أثره طفق مفكرو الغرب المعادون للإسلام يبحثون عن عدو جديد ووجدوا ضالتهم في الإسلام العظيم وفي المسلمين أصحاب التاريخ المجيد الرافضين لاحتلال إسرائيل فلسطين التي بارك الله حولها وإليها أسرى سبحانه بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنها بدأ الرسول العربي رحلة المعراج. واستوطن فكر أعداء الإسلام في عقول من يدعون الدفاع عنه.

وأرى أنه علينا جميعاً، مسلمين ومسيحيين، تحرير فكر هؤلاء من استيطان الفكر التكفيري في عقولهم وفهمهم المنحرف المغلوط للإسلام السمح، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة إلا من ظلم منهم فالله لا يهدي القوم الظالمين. وقد أنزل سبحانه هذا المصير بعدم الهداية لهم في الآيات (258 البقرة، 86 آل عمران، 19 التوبة، 109 التوبة، 7 الصف، 5 الجمعة، 51 المائدة، 144 الأنعام.) وقال أيضاً: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون (118 النحل).

وبعد، ألا يكفي ما سردنا من محاسن الكتاب لنوصي باقتنائه، ونوصي مفكرينا بولوج درب مماثل تتبدى فيه شجاعة الموقف والكلمة؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

   د. م. منذر حدادين

 

مندوب صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه معالي السيد محمد أبو حمور المحترم.

اصحاب المعالي والعطوفة والسعادة.. أيها الحضور الكرام

السلام عليكم

بين أيدينا كتاب " أغصان الكرمة .. المسيحيون العرب "  للدكتور عبد الحسين شعبان وهو كتاب أنيق في الشكل والمضمون صادر عن مركز حمورابي للبحوث والدراسات الأستراتيجية في بغداد ويقع في بابين اولهما بعنوان الأبحاث والدراسات وهو منقسم الى خمسة أقسام والثاني بعنوان  المقالات ويقع في قسمين.

وأود ابتداء أن أشير بالأحترام العالي الى أستاذنا الدكتور عبد الحسين شعبان لشجاعته العلمية ولموقفه الأخلاقي الذي سجله في هذا الكتاب المهم وهو الباحث والأكاديمي والمدافع عن حقوق الأنسان في وقت تعصف الكراهية والأنشقاق والظلامية والسطحية  ببلداننا العربية ومنطقتنا وخصوصا فيما يتعلق بتلك المكونات الأصيلة من مكونات مجتمعاتنا ومنها المسيحيون العرب الذين ساهموا في الحضارة العربية الأسلامية مساهمة الأبناء المدافعين والمنافحين عنها والمحاربين من أجلها لأنها منهم ولهم. أقول أرفع يدي بالتحية والتقدير لأستاذنا في الوقت الذي لم نجد فيه مظاهرة أو صوتا أو صرخة أحتجاج على ما حصل لمسيحيي الموصل أو أزيديي العراق وكأن الشارع العربي الذي دأب على الحركة والحراك قد لمسته يد ادت به الى الشلل. وهنا أرى أنه لا بد من بحث هذه الظاهرة وهذا السكوت ولا بد من أن نرفع السؤال ورفع الأسئلة مشروع ومباح وقد أمسينا في هذه المنطقة بدون أجوبة على الأسئلة الكبرى التي ألمت بأمتنا وانسحبت على مجمل تاريخنا  وبقيت بدون أجابات لقرون وقرون وصرنا وكأننا لا نفهم ومن يفهم !!

ينسحب على مجمل هذا الكتاب قلق ينفلت أحيانا من بين السطور ويختفي تارة خلف معلومات بحثية  وتاريخية يجتهد صاحبها في استحضارها. هو قلق علىمشروع الدولة، وقلق على المواطنة، وقلق على التنوع الثقافي والعرقي والديني الذي أزدهرت به منطقتنا لقرون طويلة ويرفع المؤلف قلقه هذا على شكل أحالات الى التاريخ والأحداث الجارية  وهو المحيط أحاطة شاملة بما يحتويه التاريخ من شواهد وأدلة ومرجعيات لها أرتباطها بموضوع بحثه وأطروحته التي يضعها من أجل الأستدلال الى الفكرة الرئيسة التي يفصح عنها منذ الصفحات الأولى حيث يصف المسيحيين العرب بأنهم ملح العرب في أشارة الى مقولة السيد المسيح لأتباعه: " أنتم ملح الأرض فأذا فسد الملح فبماذا يملح؟ ". وهذه أشارة ذكية من المؤلف من  حيث الدلالة  والرمز  ومن حيث الأجماع العربي في فترة عصر النهضة الذي شهد التخلص من الحكم العثماني وفي سنوات النهوض الوطني أيضا ولا أقول القومي فقط في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هذا الأجماع الذي يشير باحترام وتباه ويعترف  بدور المسيحيين العرب الوطني والنهضوي والتنويري وحفاظهم على اللغة العربية ونسخ القران الكريم في الأديرة على يد الرهبان ومن ثم مشاركتهم في النضال الوطني ضد الأستعمار الكونيالي الحديث أضافة الى دورهم في الثقافة والفنون عموما. ويدل استخدام كلمة الملح هنا ايضا الى اشارة أخرى بالأضافة الى أعطاء الأستساغة والنكهة الى الحضارة العربية والأسلامية كما يفعل الملح بالطعام الا وهي الأشارة الى القلة والندرة في أشارة الى قلة عدد المسيحيين في العالم العربي الا أنهم مؤثرون في التنوير والنهوض والمواطنة. فالعرب المسيحيون كانوا دائما حماة الأسلام والمدافعين والمنافحين عنه ذلكأنهم وجدوا فيه هوية وانتماء ورفعة شأن قومي جعلهم يعتنقونه ثقافة وحضارة وأرثا ووجدانا.

 ورغم ان المؤلف لا تروق له كلمة أقلية أذ أن المسيحيين  العرب في بلدانهم هم أغلبية لأنهم عرب كما يقول الأ انه يضطر الى استخدام مصطلح الأقلية في أكثر من موقع. فهو يقول: " على الرغم من أن الأمم المتحدة قد جاءت على ذكر حقوق الأقليات في أعلانها عام 1992 الأ أنه والحديث  للمؤلف : " شخصيا لا أنظر الى المسيحيين كأقلية، وأشعر بقدر من الأنزعاج عند استخدام مصطلح " الأقلية " على المكون الثقافي المسيحي أو غيره قوميا كان أم دينيا ... " انتهى الاقتباس.

يشير المؤلف الى هجرة المسيحيين المتزايدة من الشرق العربي ويتساءل : ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيين؟  والجواب على هذا التساؤل يقع على عاتق أقامة الدولة العصرية التي تقوم على المساواة وعدم التمييز كما يقول وهي في الدرجة الأولى  مسؤولية اسلامية وعربية بحسب المؤلف. وقد كنت أتمنى على أستاذنا وهو القادم من أصول يسارية علمانية لو أنه أفرد بعض الصفحات ليضع لنا تصورا في كيفية الأنتقال الى الدولة العصرية المدنية أو العلمانية أن شئت.

لقد استوقفني عنوان فرعي في القسم الخامس من الباب الأول في الكتاب وهو بعنوان : " الحق في الأيمان والحق في التسامح"، على الرغم من تحفظي على كلمة تسامح واؤيد هنا استخدام كلمات من قبيل المساواة أو العدالة، فتحت هذا العنوان يناقش المؤلف مفهوم التسامح ويشير الى التفاعلات التي حدثت في اوروبا بعد الحروب الطاحنة والتمميز والتعصب التي عصفت بالقارة العجوز. وأقول هنا أن ما يسمى بالتسامح هو مفهوم يعني أن هناك من هو أعلى مرتبة وأرفع شأنا وأقوى وأكثر عددا يتسامح مع من هو اقل شأنا وعددا وقوة ففي الدول التي تحكمها القوانين المدنية يتخذ مفهوم التسامح صيغا قانونية كالعدل والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص بحيث تحكم جميع مكونات المجتمع  القوانين والتشريعات.

 وعودة الى العنوان الفرعي المشار اليه فقد أعجبتني أشارة المؤلف الذكية حين قال : " أن نشر مباديء التسامح وسيادة روح الحق في الأختلاف تتطلب أعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وأعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة الخ..." ويأتي المؤلف في سياق اشاراته واستشهاداته بالمرجعيات الى القران الكريم والى سور وأيات بعينها تحض على التسامح. لكن هل الأستشهاد بالدين كاف لأثبات هذا الحق الأجتماعي الطبيعي والغريزي؟ ذلك أن القران حمال أوجه كما قال عنه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وأي نص ديني سواء كان اسلاميا او مسيحيا او من أي دين اخر هو  أيضا حمال أوجه ما دام هذا النص مرتبط بالغيب وخاضع للتأويل والتفسير، وأسجل للمؤلف ذهابه باتجاه حلول الدولة  المدنية والأشارة الى القرن السابع عشر في أوروبا الذي شهد بروز الفهم القانوني والمدني لمفهوم التسامح . وهنا أضع السؤال عاليا : هل تبقى مفاهيم من مثل التسامح أو العيش المشترك أو السلم الأجتماعي أو عدم التمييز أو الحق في الأختلاف مفاهيم خاضعة لفهم كل فرد وكل جماعة على حدة؟ هل تبقى هذه المفاهيم تدور في أطار الفهم الغامض والمجاملات والعواطف التي سرعان ما تتغير مع فتوى فقيه او معركة ترحيل قسري أو حدث جلل مزلزل؟ وأذا كان باحثنا الكريم يقول بمليء الفم أن الحل أنما يكمن في الدولة المدنية العصرية فلماذا لا نقول بملء الفم أيضا بأننا نريد قوانين وتشريعات تعزز المساواة والعدل وحرية الفرد والمكونات الثقافية المختلفة وتحترم الأختلاف والتنوع وتحرّم وتجرّم التمييّز والطائفية وقد أشار باحثنا الكريم الى اقتراحه في وضع قانون يحرم الطائفية في العراق وتمنيت لو اسهب في وضع مقترحات تتصل بقوننة المفاهيم التي تدعو الى العيش المشترك والسلم المجتمعي ووضعها في أطر تشريعية تجرم من ينتهكها.

وأشير هنا الى قانون التسامح البريطاني الذي صدر عام 1689 وكتابي جون  لوك : " رسالة في التسامح" و " رسالتان في الحكم " بحيث أصبح هناك منظومة قانونية تجرم التمييز. وانسحب ذلك على أوربا بمجملها.

أنني أرى أن مساهمة الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه هذا تعتبر لبنة أساسية في وضع بنيان متين لمستقبل بدون تمييز ولدولة مدنية قادمة تقف  مع الأنسان وتنحاز للحياة في مواجهة الظلامية والتطرف. وأشكره الشكر العالي على نضاله من اجل حقوق الأنسان ورفعه الأسئلة بجرأة وصدق وحيادية.  ويبقى من هذه الأسئلة السؤال الذي يطرحه المؤلف وماذا بعد ؟ وتبقى دعوته لمراجعة الميراث الثقافي والأجتماعي والديني للأمة مفتوحة وأضيف الى ذلك الدعوة الى ضرورة قيام الأحزاب العربية والجماعات الضاغطة والأفراد والمؤسسات التي تعنى بالعدل والمساوة والحرية لوضع أطار لمشروع الدولة المدنية القادمة. وقبل ذلك بكثير وبعده أيضا على المسلمين والمسيحيين معا أفرادا وجماعات العودة الى اصول وثوابت مشروع النهضة العربية وبلورة مفهوم الهوية الوطنية في أطار الثقافة العربية الأسلامية وفصل الدين عن الدولة من أجل الوصول الى مستقبل يصبح فيه الملح جزءا اساسيا من مائدة الوطن وتكون هذه المائدة متنوعة غنية زاخرة وفاكهتها العدل والمساواة والحرية.

     جريس سماوي

 

في حضرة المسيحيين العرب

ملخص محاضرة قدّمها

 الدكتور عبد الحسين شعبان

 في 1/تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

في منتدى الفكر العربي- عمان

 

هل يمكن تصوّر بلدان المشرق، وخصوصاً البلدان العربية ، بلا مسيحيين؟ وماذا سيعني ذلك؟ ثم من هو المسؤول عن استهدافهم وتهجيرهم؟ تلك أسئلة ساخنة كانت على لسان عدد من المفكرين والباحثين والمعنيين بالشأن العام، في ندوة معرفية فكرية وثقافية دعا إليها منتدى الفكر العربي في عمّان بمشاركة جمعية العلوم والثقافة الأردنية والمعهد الملكي للشؤون الدينية، وذلك بمناسبة صدور كتابي " أغصان الكرمة- المسيحيون العرب".

تساءلت مع نفسي حين استمعت إلى تقريضات قدّمها أربعة مثقفين أردنيين متميّزين وهم كل من سمير الحباشنة ومنذر حدادين وجريس سماوي ومحمد أبو حمّور: هل كان لنا أن نعقد مثل هذه الندوة قبل أربعة عقود من الزمان؟ أم إن ذلك سيكون تجنيّاً على الواقع كما سيقول كثيرون، فالعرب يشكّلون نسبة كبيرة من المسيحيين في بلدان المشرق ، فضلاً عن تأثّر الآخرين بالثقافة العربية – الإسلامية التي عاشوا في كنفها، وساهموا مساهمة متميّزة في تلقيحها بتراثهم وثقافتهم وحضارات البلاد القديمة.

فكيف يتم استهدافهم إذاً؟ وماذا يُراد من تهجيرهم؟ فهم ليسوا أغراباً في المنطقة، وليسوا "أقلية" لأن قسماً منهم من العرب، والعرب أغلبية ساحقة في هذه البلاد، يضاف إلى ذلك أنهم جزء من ثقافة وحضارة هذه المنطقة " العربية – الإسلامية"، ولكن اليوم هناك أكثر من ضرورة للحديث عن استهداف المسيحيين، خصوصاً  بعدما تعرضوا إلى الاستئصال هذه المرّة وليس إلى التهميش أو هضم الحقوق، فقد تجاوزت المسألة التمييز وعدم المساواة وغياب المشاركة أو الشراكة الحقيقية، وعدم احترام الهوّيات الفرعية، وامتدّت إلى وجودهم وكيانيتهم، الأمر الذي لا بدّ من التفاكر والتباصر حول مخاطره الراهنة والمستقبلية، انطلاقاً من معيار أساسي، هو مرجعية الدولة باعتبارها فوق جميع المرجعيات، ناهيك عن مبادئ المساواة والمواطنة والاعتراف بالآخر والإقرار بالتعددية والتنوّع دون تمييز.

لقد برزت منذ أربعة عقود من الزمان ظواهر جديدة سلبية وإيجابية أثرت على نحو كبير في مسار توجهات دول المنطقة، وهي:

1- بروز ظاهرة الإسلام السياسي وصعود التيار الإسلامي بعد إخفاق أو عدم نجاح التيارين القومي العربي واليساري الماركسي، ووصول الأنظمة والممارسات التي استندا إليها إلى طريق مسدود. وقد كان ظهور التيار الجديد (الإسلامي) والذي اكتسح العديد من البلدان بعد تطورات مهمة منها:

       أ- الغزو السوفييتي لأفغانستان العام  1978

       ب- الثورة الإيرانية العام 1979

      ج- تبنّي حركة الأخوان في مصر في الثمانينات الأسلوب العنفي في مواجهة السلطات وصعود تيار إسلامي في الجزائر، اتخذ من العنف وسيلة لحسم الصراع، وذلك في التسعينيات، راح ضحيته نحو 100 ألف إنسان .

       د- ظهور أحزاب إسلامية سياسية من الباكستان وحتى المغرب وشملت معظم بلدان المشرق والتي تعزز نشاطها في أواسط السبعينيات من القرن الماضي: العراق (حزب الدعوة  تأسس في أواخر الخمسينيات وأحزاب إسلامية أخرى) وسوريا (حزب الأخوان) ولبنان (حزب الله الذي  تأسس في العام 1982) والاردن واليمن والخليج وفلسطين (حماس والجهاد تأسسا عشية وخلال الانتفاضة الأولى أواخر الثمانينيات)، والسودان، بإعلان الرئيس جعفر النميري في أواسط الثمانينيات تطبيقه لمبادئ الشريعة، ثم مواصلة حكومة الرئيس عمر البشير العام 1989 توجّهاً إسلامياً واضحاً، إضافة إلى السلطة الإسلامية في كل من إيران وأفغانستان . وفي المغرب العربي كان للتيار الإسلامي حضور قوي في : تونس (حزب النهضة) المغرب (حزب العدالة والتنمية) وحركات إسلامية في ليبيا وموريتانيا وغيرها.

2- بروز الظاهرة الطائفية وقد لعب الإعلام، وخصوصاً الفضائيات دوراً كبيراً في الاستقطابات والاحترابات الطائفية وتأجيج نار الخلافات ، فضلاً عن الحروب التي شهدتها العديد من البلدان العربية . وقد اتّسعت هذه الظاهرة : 

              أ. ما بعد الثورة الإيرانية والتوجّهات المذهبية التي أخذت تتصاعد في المنطقة، لاسيّما من خلال محاولات تصدير الثورة.

              ب. خلال وما بعد الحرب العراقية - الإيرانية (1980- 1988) وعمليات التهجير لعشرات الآلاف من العراقيين إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية.

             ج. دور حزب الله في المقاومة ضد "إسرائيل" وفيما بعد في الصراع الداخلي اللبناني والإقليمي، خصوصاً بعد أحداث سوريا (2011 وما بعدها).

               د. الاستقطابات الطائفية في دول الخليج : المنطقة الشرقية (المملكة العربية السعودية) البحرين ، الكويت وغيرها، ومؤخراً في اليمن، لاسيّما في الحرب الداخلية بين حركة الحوثيين وسلطة علي عبدالله صالح (سبعة حروب)، وفيما بعد سيطرتهم على السلطة في اليمن واندلاع صراع إقليمي لا يزال مستمراً، تحت عنوان عاصفة الحزم .

                هـ. نظام المحاصصة الطائفية والإثنية في العراق، والحروب والنزاعات الطائفية ومحاولات التسيّد من جهة، والتهميش من جهة أخرى، لدرجة إن السنّة في مناطق غرب وشمال العراق، إضافة إلى بغداد ومناطق أخرى، يشعرون بالتمييز وعدم المساواة ويعانون من نتائجهما.

3- انتعاش ظاهرة الارهاب والارهاب الدولي وسيادة العنف، سواءً عبر اتهامات غربية للعرب والمسلمين، باعتبار دينهم يحضّ على العنف أو تشكّل منظمات إرهابية في عدد من البلدان العربية، وقيامها بعمليات إرهابية ، انتحارية وتفجيرية في الغرب أو في بلاد العرب والمسلمين، خصوصاً أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ، إضافة إلى أعمال قسوة منقطعة النظير، وهي موجة غير مألوفة من الفعل السياسي.

4- ازدياد واتّساع ظاهرة التكفير والتأثيم والتجريم والتحريم ضد الآخر، وقد اتخذت أشكالاً مختلفة، خصوصاً ما بعد احتلال العراق العام 2003 (تنظيم القاعدة، جبهة النصرة، داعش وأخواتها)، خصوصاً بعد احتلال الموصل العام 2014، وذلك برفض كل غريب واعتباره مريباً، والحديث عن الدولة الإسلامية النقيّة، ووجهها الآخر دولة "إسرائيل" اليهودية النقية، وهما وجهان لعملة واحدة.

5- استهداف المجاميع الثقافية والتنوّع والتعددّية الدينية والقومية واللغوية في العديد من البلدان العربية، وهو ما يطلق عليه مصطلح " الأقليات"، الذي أراه انتقاصاً من مبادئ المساواة والمواطنة المتكافئة، وقد شملت حملة الاستئصال والإجلاء والتهجير المسيحيين في فلسطين من جانب "إسرائيل" الذين تناقص عددهم من أكثر من 20% من سكان فلسطين قبل الاحتلال، إلى أقل من 1.5%، وكان عدد المسيحيين في القدس لوحدها قبل احتلال "إسرائيل" في العام 1948 والعام 1967 أكثر من 50 ألف، أما اليوم فإن عدد المسيحيين فيها لا يتجاوز الـ5000 .

وفي العراق فإن حملة منظمة طويلة الأمد استهدفت المسيحيين والمجموعات الثقافية الأخرى مثل الإيزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم. وقد كانت هذه الحملة هي الأخطر والأشمل سواء ما بعد الاحتلال، أو بعد سيطرة داعش على الموصل، حيث بدأت هجرة منظّمة تكاد تكون جماعية بإجبار المسيحيين، وغيرهم على التأسلم الداعشي أو دفع الجزية أو الرحيل، وإلاّ فإن التوابيت والقبور ستكون بانتظارهم.

والأمر على هذه الشاكلة كان في سوريا أيضاً، حيث تناقص عدد المسيحيين خلال السنوات الماضية من نحو 16%إلى ما بين 6 إلى 8% وهو في تناقص مستمر، ومثلما استهدفت الأديرة والكنائس ورجال الدين والمواطنين بسبب تحدّرهم الديني في العراق، فقد استهدفت كذلك بسورية. وفي لبنان هاجر أكثر من 700 ألف مسيحي خلال وبعد الحرب الأهلية ويشعر المسيحيون بالتمييز بغض النظر عن مصالح أمراء الطوائف.

وشهد السودان حرباً ضد جنوبه الذي يتكوّن سكانه من نسبة كبيرة من المسيحيين ، الأمر الذي ساعد على تعزيز نزعة المطالبة بالانفصال، وهو ما حصل فعلاً في العام 2010. وفي مصر لا تزال مشكلة الأقباط قائمة ومستمرة، وهناك شعور عام بالتمييز والتهميش.

وفي جميع هذه البلدان فإن عدم المساواة هي من الأسباب الأساسية التي امتازت بها علاقة الدولة بالمجموعات الثقافية. وقد لعب العامل الخارجي الدولي والإقليمي (القوى الاستعمارية وبعض دول الجوار غير العربي، ناهيك عن " إسرائيل")، دوراً كبيراً في تأجيج نار الصراع الداخلي، سواءً بالحروب والنزاعات الأهلية، أو من خلال استغلال ضعف المشاركة لتفتيت مجتمعاتنا، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر.

6- انبعاث ظاهرة الهوّيات الفرعية، وهي ظاهرة كونية، خصوصاً بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات. إن الالتباس في مفهوم الهوّية والتسلّط الذي مارسه الحكّام باسم الهوّيات الكبرى أو المتنفذة ضد الهوّيات الأخرى، باعتبارها صغرى، وعليها الإنصياع ، دفع أوساطاً غير قليلة من أتباع الهوّيات الفرعية إلى التمترس والانغلاق أحياناً للتعبير عن هوّياتها الفرعية، التي اتخذ بعضها طابعاً انفصالياً أو انشقاقياً لأسباب تتعلق بـ:

     أ- غياب أو شحّ الحرّيات، وخصوصاً حرّية التعبير 

     ب- انعدام المساواة أو انثلام بعض عناصرها

      ج- غياب أو ضعف العدالة 

      د – غياب أو وهن المشاركة أو شكلانيتها

وكلّ هذه العوامل تؤدي إلى ضعف الشعور بالمواطنة، خصوصاً في ظلّ استمرار التمييز والاضطهاد والقمع وعدم المساواة، ولعلّ هذا السبب كان واحداً من الأسباب التي تقود إلى انبعاث الهوّيات الفرعية بجانبها الإيجابي، وجانبها السلبي أحياناً، خصوصاً التقوقع حول الذات في مواجهة الآخر، ومحاولات الوقوف بوجه محاولات الاستعلاء والتسيّد التي يتبعها من هو أقوى، ومواجهة من يمسك بالسلطة السياسية أو المجتمعية، التي تبرّر إقصاء أو تهميش الهوّيات الفرعية، وبالطبع فإن مسألة الهوّيات الفرعية، ومحاولاتها للتعبير عن كيانياتها لمواجهة مساعي الهيمنة التي تقوم بها الهوّيات المتنفّذة أو من يمارس الدور باسمها، تنتعش في ظل التغييرات التي تحصل في النظام السياسي، وهو ما حصل بعد موجة  ما سمّي بالربيع العربي.

وبصدد الهوّية فهناك أربعة أوهام عاشت معنا طيلة العقود الماضية ، أولها أن البلدان المتقدمة حلّت مسألة الهوّية بالمواطنة والمساواة والديمقراطية، وإذا بالأمر يكاد يكون وهماً أو افتئاتًا على الواقع بدليل وجود أكثر من  مشكلة عويصة تتعلق بالهوّية في أكثر من 20 بلد غربي أبرزها بلجيكا، حيث تجري مساعي للانفصال بين الوالانيين والفلامانيين، علماً بأن نظامها ديمقراطي وفيدرالي ، لكن الهوّية هي السبب في الدعوة للافتراق، والأمر كذلك في إسبانيا (كتالونيا و...) وكندا (إقليم الكيبك) وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وبريطانيا (اسكتلندا) وغيرها.

وثانيها أن الدول الاشتراكية حلّت مسألة الهوّية القومية، وإذا بنا نكتشف بعد عقود من الزمان أن الأمر كان وهماً والمسألة أكثر تعقيداً من مجرد شعارات آيديولوجية ، فالهوّية ساهمت في اندلاع حروب وانشقاقات وقيام دول (في يوغسلافيا 6 دول ) وفي الاتحاد السوفييتي السابق (15 دولة) وانفصل التشيك عن السلوفاك . وقد برزت مشكلات جديدة لم نكن نتصوّر أنها موجودة في السابق.

        وثالثها أن مشكلة الهوّية هي في البلدان النامية بسبب شحّ الحريات وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب المواطنة المتساوية وهذا صحيح، لكنه غير كاف، فالهوّية مسألة أكثر حساسية وعقدية من ذلك، لأنها تتعلّق بالتعبير والشعور بالانتماء إلى جماعة محدّدة أساسها اللغة والدين، وتغليب أحدهما ليمثل الكينونة الوجودية للانتماء.

الأمر  إذاً لم يكن حكراً  على البلدان النامية، كما كنا نعتقد، بدليل أن الهوّية لم يتم حلّها حتى في بلدان متقدمة، ولكن الفارق بيننا وبين هذه البلدان ، أنها تلجأ إلى الحلول السلمية وهي القاعدة، في حين أن الاستثناء هو العنف، أما عندنا فالقاعدة مقلوبة، بحيث يصبح العنف هو السائد.

ورابعها أن بعض البلدان النامية نجحت إلى حد ما وإلى الآن في العيش المشترك باحترام الهوّيات الدينية والقومية والسلالية واللغوية والطائفية (الهند وماليزيا مثلاً) .

إن معالجة موضوع استهداف المسيحيين وإحداث التوازن بين الهوّية العامة، والهوّيات الفرعية يتطلّب العودة للدولة الوطنية وإعلاء مرجعيتها فوق جميع المرجعيات، سواء كانت دينية أو مذهبية أو عشائرية أو سياسية أو حزبية أو غيرها. وقد يكون ذلك من المفارقات، فالدولة القطرية التي اعتبرت من نتاج اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، تصبح اليوم مطلباً لا بدّ من الحفاظ عليه، لأنه يراد لدول المنطقة المزيد من التشظي والتفتيت والانقسام وتحويلها إلى كانتونات ودوقيات ومناطقيات، بحيث تضيع أية فرصة للتوحيد ولمجابهة التحدّيات الخارجية، لاسيّما من جانب "إسرائيل" والقوى المتنفذة، خصوصاً وإن الهدف الآخر هو أن يتحوّل الجميع إلى " أقليات" وتكون الدويلة المتقدمة تكنولوجياً وعلمياً هي " إسرائيل" التي يمكنها التسيّد على بقية الدويلات الأخرى.

ولا يمكن مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية دون إعلاء شأن المواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون واستقلال القضاء والانتقال الى الدولة العصرية الدستورية، خصوصاً وأن مشاكل المنطقة والأمة مترابطة، فلا بدّ إذاً من العمل على التقارب لإنجاز المشروع النهضوي العربي الذي يقوم على 6 أركان : 1- الوحدة أو الاتحاد أو أي شكل من أشكال التعاون والتنسيق الوثيق بين البلدان العربية .2- التحرر السياسي والاقتصادي 3- التنمية المستقلة 4- العدالة الاجتماعية 5- الديمقراطية 6- الانبعاث الحضاري .

ذلكم هو السبيل لمواجهة جادة ومسؤولة للمخاطر التي تعيشها مجتمعاتنا  ولمنع استهداف المسيحيين وسواهم من المجموعات الثقافية، وهو ما استهدفه كتاب "أغصان الكرمة"، ذلك أن استغلال الدين والإسلام في مشروع ظلامي بالضد من تعاليمهما السمحاء، ليس سوى تجنّي على الدين وجوهره وعلى الإسلام ومقاصده، التي لا تستهدف سوى خدمة البشر وتحقيق آمالهم وتطلعاتهم في حياة حرّة كريمة، بالتمسّك بكرامتهم الإنسانية، فليس من الدين بشيء إذا ألحق الأذى بالإنسان، أعزّ وأكرم المخلوقات .

 

 

exported: 
نعم
Printer Friendly and PDF
تصميم وتطوير شركة الشعاع الازرق لحلول البرمجيات جميع الحقوق محفوظة ©