أكاديمي ومفكر عربي (من العراق)- نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان، لديه العديد من المؤلفات في قضايا الفكر والقانون والسياسة والثقافة والأديان والمجتمع المدني والنزاعات الدولية.
المقدمة
حين أهديته كتابي الموسوم " الجواهري – جدل الشعر والحياة" في أواخر العام 1996 أو أوائل العام 1997 تصفّحه وذهب إلى المحتويات مباشرة، ليفتح إحدى الصفحات ويقرأ قصيدة الجواهري عن جمال عبد الناصر:
أكبـرت يومـك أن يكـون رثــاء الخالـدون عهدتهــم أحيـــاء
حتى وصل إلى :
لا يعصـم المجـد الرجـال ، وإنما كان العظيـمُ المجــدَ والأخطاء
وإلتفت إليّ قائلاً: أرأيت أجمل من هذا وأعمق منه وأكثر واقعية، وبعدها علّق قائلاً: هي النجف البحر العميق الذي يخرج اللآلئ. من لم يمرّ بمدرستها كأنه لم يدرس الفقه. قلتُ له والذي درس في قم والأزهر والزيتونة والقيروان. قال هم علماء وتعلّمنا منهم أيضاً، محمد عبده والأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وعلي عبد الرازق ومحمود شلتوت وغيرهم، لكن للنجف طعم خاص، فمدرستها مضى عليها أكثر من ألف عام، وهي ليست مدرسة أو عدّة مدارس فحسب، بل إن المدينة بكل ما فيها معهد علمي عالمي، يدلّك عليها: قبّتها الذهبية ومقام الإمام علي ومكتباتها وجوامعها وأزقّتها التي لها عبقٌ تاريخي خاص، ولكنه يا حسرتاه علينا لأننا لم نستطع زيارتها بسبب تعقيدات الأوضاع.
النجف لم تكن في فكر السيد ماضياً يحنّ إليه، أي نستولوجيا، بل كانت كمستقبل بحكم تاريخها العريق وأفق لا بدّ أن يتجدّد، على الرغم من التباس أوضاع الحاضر، ولاسيّما بعد الاحتلال.
كان فضل الله صاحب رؤية متقدّمة، يرى ما قد لا يراه غيره، وظلّ مشدوداً إلى المستقبل وليس إلى الماضي، ... وفي كلّ مرّة ألتقيه لا أدري كيف يقفز إلى ذهني ما كتبه مكسيم غوركي الروائي الروسي المعروف وصاحب رواية " الأم" الصادرة في العام 1905، عن أحد الثوريين الكبار في عصره:، إن نصف عقله يعيش في المستقبل، بمعنى أنه سبق زمانه بتجاوز التفكير في الحاضر أو استلهام الدروس من الماضي، ولكن فرادته إنه كان يفكّر بالمستقبل من خلال قراءة الواقع لاستشرافه.
وأعتقد أن هذه المقاربة تنطبق إلى حدود كبيرة على السيد فضل الله الذي جاء بزمان غير زمانه، وما كتبه ونظّر له ودعا إليه كان متقدّماً على زمانه، خصوصاً على العديد من رجال الدين، لذلك وجد إعراضاً عنه وإهمالاً له، بل جحوداً وإساءة، بسبب أفكاره وآرائه، فقد اتخذ من التجديد نهجاً له ومن النقد وسيلة ومن أنسنة الدين طريقاً ومن خدمة الإنسان هدفاً.
حاول فضل الله نقد الفكر السائد التقليدي الماضوي، وتقديم رؤية بديلة عنه، وحتى وإنْ كانت هادئة لكنها صادمة ومستفزة للمؤسسة المحافظة السائرة على ضوء خطى السلف بإعادة أطروحاته العتيقة وتفسيرها أحياناً بمنهجه القديم، لا بمنهج عصرها، ودون مراعاة لما حصل من تقدّم وتطوّر في ميادين العلم والتكنولوجيا والاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية " الديجيتل".
ترك فضل الله بصمته الخاصة فيما يتعلق بالجدل بين الدين والعقل وبين الدين والعلم، وذلك بالسؤال من داخل الدين وليس من خارجه وتلك ميزته، بطرح إشكاليات العلاقة النقدية في ضوء أبحاث ودراسات مهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب الديني، إلى مهمة تجديد الفكر الديني ذاته، إذْ ليس بالإمكان تجديد الخطاب دون تجديد الفكر، لاسيّما بجعله يستجيب للتطورات والمتغيّرات ويتساوق مع روح العصر.
فرادة فكرية
أستطيع أن أتفهّم ما قاله السيد محمد باقر الصدر المفكر الإسلامي المرموق وزميل السيد فضل الله، عندما غادر فضل الله النجف ، في العام 1966 إلى لبنان امتثالاً لواجباته الدينية، قال: كلّ الذين خرجوا من النجف خسروها، إلاّ فضل الله فقد خسرته النجف.
قلت أستطيع أن أتفهّم ذلك بحكم القربى الفكرية والروحية والصداقة بين الرجلين، خصوصاً وأن الصدر يدرك فرادة فضل الله، مثلما يعرف فضل الله مكانة الصدر الفكرية المتميّزة ورياديته، ولكن أن يأتي صحافي كبير ملأ الدنيا وشغل الناس وهو محمد حسنين هيكل ليقول عن فضل الله " عندما زرت لبنان استفاد منّي الجميع، إلاّ فضل الله فأنا استفدت من لقائي به" ففي ذلك أكثر من دلالة:
الأولى إنه إقرار واعتراف بدور فضل الله ومنزلته الرفيعة ومشروعه الفكري التوحيدي والتسامحي، الذي يتميّز فيه عن الكثير من رجال الدين، خصوصاً اجتهاداته ذات الطبيعة الإشكالية.
والثانية إن قراءة هيكل متميّزة وإلتقاطاته ذكية وهو الذي خبر ظروف الصراع والاحتراب في المنطقة، والتقى ملوكاً ورؤساء ومسؤولين من شتى المستويات، لكنه لم يقل عنهم ما قاله عن فضل الله.
والثالثة أن الجميع استفادوا من هيكل خلال زيارته للبنان، معلومات وأحاديث وحكايات ومقابلات، أما وأنه يقول أنه استفاد من فضل الله ، فهذا يعني أنه استمع من رجل دين إلى ما لم يقله أحد سواه، بصراحته ووضوحه وصدقيته، فقد ظلّ مهجوسأ بالقضايا الكبرى، ومترفّعاً عن الصغائر، يبحث ويقلّب الأمور ويستنبط الأحكام ويجتهد، وكل اجتهاد لديه هو جهد بشري قابل للخطأ والصواب، متمثّلاً قول الإمام الشافعي رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
التجديد والنهر الأول
من خلال متابعاتي أنه منذ أواخر الخمسينيات بدأت حركة تململ داخل مؤسسة الحوزة العلمية في النجف بالدعوة إلى تحديثها وتطويرها وتحسين مناهجها الدراسية بحيث تصبح قابلة للتطوّر الذي يشهده العالم، وقد برز خمسة شخصيات إسلامية تبنّت أطروحات التجديد في مدرسة النجف التي مضى عليها نحو ألف عام، وهؤلاء الخمسة من الشباب آنذاك هم: محمد باقر الصدر، محمد مهدي شمس الدين، محمد بحر العلوم، مصطفى جمال الدين ومحمد حسين فضل الله.
لقد ظلّ التجديد إرهاصاً في مدرسة النجف ذات الطبيعة الجدلية الحوارية غير المستكينة على الرغم من محاولات كبح عملية التجديد فيها لتعارضها مع بعض مصالح التيار التقليدي المهيمن. والنجف بما فيها مدرستها العلمية وحياتها العامة عصية على الترويض، فقد تآخت مع التمرّد وإنْ استكانت، فعلى الكراهة أحياناً.
في بدايات القرن الماضي تأسست في النجف وفي مدرسة الآخوند، حلقة تمرّد سمّيت "معقل الأحرار"، ضمّت خمسة شباب أصبح لكل منهم دورُ، لاحقاً هم: سعد صالح الأديب والحقوقي والوزير لاحقاً، وأحمد الصافي النجفي الشاعر المعروف الذي عاش مغترباً منذ عشرينيات القرن الماضي بين سوريا ولبنان حتى العام 1976، حينما أصيب آنذاك بشظيتين في الحرب الأهلية، فعاد إلى العراق بعد هجرة زادت على نصف قرن، ومات فيها العام 1977، وسعيد كمال الدين وعباس الخليلي، ولكل منهما مكانته ودوره في إطار المؤسسة الدينية وخارجها وهؤلاء الأربعة الذين عملوا على التجديد ورفض ما هو بالي وعتيق، وشاركوا جميعهم في ثورة العشرين، وبعد فشلها هربوا إلى خارج العراق (سعد صالح وسعيد كمال الدين إلى الكويت وأحمد الصافي النجفي وعباس الخليلي إلى إيران) وكان الشخص الخامس هو علي الدشتي (إيراني الأصل)، وغادر العراق قبل اندلاع ثورة العشرين، وأصبح له شأن في إيران وجادل وساجل وصارع وانقلب وسجن، ولكنه ظلّ مخلصاً لوسيلته الإبداعية وكتب عدّة كتب منها كتاب "23 عاماً - دراسة في السيرة النبوية ".
كانت البيئة النجفية البئر الأولى التي تذوّق منها فضل الله أولى قطرات الفكر باستعارة رواية جبرا ابراهيم جبرا " البئر الأولى"، ويمكن القول إن النجف هي النهر الأول الذي ارتوى منه فضل الله وظل ينهل من معينه. والنجف كما هو معروف مدينة أممية بكل ما تعني الكلمة وهي تجمع المتناقضات، للدين فيها مكانة متميّزة، مثلما للتيار المدني غير الديني دوراً بارزاً، ،وقد أثّر ذلك في ثقافة فضل الله والعديد من طلبة العلم الذين درسوا فيها، مثل حسين مروّة ومحمد شرارة والجواهري وعدد من آل الخليلي ومحمد مهدي شمس الدين والصدر وبحر العلوم وغيرهم.
وكان الجدل يستمر بين المتدينين وغير المتدينين والمؤمنين وغير المؤمنين، واليساريين واليمنيين، ويمتدّ إلى مجالات مختلفة ومتنوّعة، حتى وإن كان المتجادلون في الغالب ينتمون إلى عوائل دينية لكن جوار الأضداد وحوارها كان سمة للمجتمع النجفي في الفترة التي عاش فيها فضل الله وقبلها.
أما النهر الثاني الذي اغترف منه فضل الله ومن رأس العين كما يقال ، فهو لبنان حيث الانفتاح والتمدّن، فتوسّعت وتعمّقت ثقافته وازدادت إنسانية وتسامحاً. لبنان كان بحره الشاسع الذي يمتد بلا حدود. وتحسّس منذ مجيئه إليه حياة الفقراء والمحتاجين، وسعى بكل ما استطاع لإيجاد الوسائل المناسبة للتخفيف عنهم، سواءً بالرعاية أو التعليم أو التربية أو المؤسسات الصحية والخدمية الأخرى، مزاوجاً بذلك بين أفكاره وممارساته ومنتقلاً من الفقه إلى الفعل، إلى بناء المؤسسات.
وبالعودة إلى المنبع الأول، فالنجف التي نشأ وترعرع فيها فضل الله، مدينة دينية ذات وهج خاص، بقدر ما هي مدينة ثقافية ومدنية، إنها مدينة الوافدين وطابعها عروبي وهي سوق تتلاقى فيها عشائر الريف والبادية بأهل المدينة وزوارهم، وطابعها التجاري جعلها متسامحة مع الغريب، وإنها مدينة مدنية جامعية للدراسات الإسلامية، وحافظت على لغتها العربية، وكان الشعر متنفس المدينة، والمعارك الأدبية والمطاردات الشعرية هوايتها، والانفتاح الفكري المتنوّع من سماتها.
والنجف مدينة قارئة وثقافة الوافدين عامل رفد لثقافتها، ووجود نحو 40 مدرسة، وطلبة من مختلف بلدان لعالم يعني نشوء أواصر روابط وصداقات وجمعيات بينهم، وبعد كل ذلك، فالمدينة كلّها أقرب إلى معهد أكاديمي وملتقى ثقافي دائم ومستمر وليس موسمياً، يضاف إلى ذلك إن فيها أكبر مقبرة في العالم وهي "مقبرة الغري" ويتوافد عليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي لدفن موتاهم فيها، تبركاً بمجاورة قبر الإمام علي. هناك شبّ فضل الله وقوي عوده.
أممية فضل الله وانفتاحه!
يمكنني القول إن أحسن ما في النجف تجده لدى فضل الله، فقد امتلك فكراً وعقلاً منفتحاً بحكم اختلاطه بالوافدين من أمم وبلدان ولغات شتّى، وحافظ على عروبته بحكم طابع المدينة ومتطلّبات البحث العلمي واستنباط الأحكام والاستدلالات المنطقية، وكان مرناً ومتسامحاً مثل المدينة التي هي سوق عالمية، وعلاقات السوق بطبيعتها تميل إلى التفاهمات، وكان يميل إلى الآخر، فهو أممي في نظرته للدين، لأن دين الإسلام عالمي، حيث كان يدرس إلى جواره الإيراني والتركي والأفغاني والهندي والباكستاني والتبتي ومن دول آسيا الوسطى، تركمانستان وأذربيجان وغيرها، إضافة إلى أبناء العروبة من لبنان وسوريا والخليج، فضلاً عن العراقيين والنجفيين منهم بشكل خاص.
وتأثّراً بجيله وبأجواء النهر الأول طرق فضل الله باب الشعر، وهل هناك غير الشعر من متنفس في المجتمع المحافظ؟ حيث لا يوجد اختلاط بين الجنسين، وكان فضل الله أقرب إلى الشاعر منه إلى الفقيه أحياناً، لكنه كان فقيهاً شاعراً، وفي الشعر والفقه كان مجدّداً ومتنوّراً وعصرياً وحداثياً ويؤمن بالتطوّر، وكان مثل السيد محمد سعيد الحبوبي يلبس القبعتين، قبعة الشعر وقبعة الفقه. وكانت اللمعات الفكرية الأولى هادياً لفضل الله لاحقاً ليتخذ هذا المنحى ويكرّس له حياته غير هيّاب بما اعترضه وما وقف في طريقه محاولاً ثنيه عن مشروعه التجديدي.
وعندما اعتلى منبر الفقه وتوغّل في دروبه، واصل مشروع التجديد، وهو مسار طويل وتراكم كبير، منذ الإمام الطوسي ومروراً بمحمد مهدي بحر العلوم، وشملت بعض إضاءات السيد أبو الحسن الأصبهاني المتوفي العام 1946 وصولاً إلى محمد باقر الصدر.
وإذا كان مشروع محمد مهدي بحر العلوم الذي سمّي عهده بعهد " النهضة العلمية" قد ركّز على تجديد الحوزة في إدارتها وتنظيمها ومناهجها، وساعده في ذلك والشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي كانت علاقاته واسعة بالناس وحسين نجف المعني بشؤون الإمامة والمحراب وشريف محي الدين الذي اختص بالقضاء، فيما انصرف، بحر العلوم إلى الفكر والتدريس والزعامة العليا، فإن مشروع السيد محسن الأمين والصدر وفضل الله استهدفا إصلاح الفكر الديني الإسلامي ككل.
وظرافة السيد فضل الله انتقلت معه من النجف، حيث كانت المعارك الأدبية، أقرب إلى حفلات أو كرنفالات مصغّرة، بما فيها بعض القفشات والمقالب، وتقام في المناسبات الخاصة والعامة، وهي محفزٌ للشعر وجدانياً وسياسياً وفلسفياً واجتماعياً وثقافياً ، ولاسيّما للشعر الإخواني. وامتاز فضل الله بقراءاته المتنوّعة والمنفتحة، فهو لم يقتصر على الكتب الدينية المدرسية والتقليدية، بل كان يشغله الأدب الرفيع بغض النظر عن توجّهاته وخلفياته الفكرية والسياسية.
جامعة النجف التي درس فيها فضل الله تضاهي جامعة بولونيا (إيطاليا) وهي أقدم جامعة في العالم وتأسست في العام 1119، في حين أن جامعة النجف تأسست قبل العام 1027 المصادف 448-449 هـ وهو العام الذي التحق بها الشيخ الطوسي وأعاد النظر بمناهجها، وبهذا المعنى يمكن القول إن جامعة النجف تأسست حوالي العام 250 هـ، أما الأزهر الشريف فقد تأسس في العام 339، أي بعد النجف الأشرف بما يزيد عن 100 عام، وبعده جامعة الزيتونة (تونس) وجامعة القرويين (فاس).
ثمة مواصفات أخرى امتاز بها فكر السيد فضل الله ويعود جزء منها إلى تربيته الأولى في النجف، فالنجف كمدينة ومؤسسة لا تعرف الطائفية أو التمييز، ففيها يتعايش الوافدون من جنسيات مختلفة، وعرفت جامعاتها بالتعايش القومي والتآخي الأممي مع الوافدين، على الرغم من طابعها العروبي، الذي حاولت الاحتفاط به، وامتازت مدرسة النجف بحرّية التفكير والبحث العلمي والتعدّدية فضلاً عن الاستقلالية، أي عدم تلقيها مساعدات مادية أو غيرها من الدولة واعتمادها على دعم الناس، ولذلك ظلّت محافظة على استقلاليتها وكذلك مؤسسات فضل الله.
مشروع السيّد
مرّ مشروع فضل الله بثلاث مراحل، المرحلة الأولى – الإيمانية، اليقينية ، التبشيرية حيث كان داعية، همّه الأساسي تقريب الدين من الإنسان وهذه هي مرحلة الدراسة الأولى في المقدمات والسطوح وبحث الخارج. أما المرحلة الثانية، فهي المرحلة التساؤلية الشكّية الديكارتية، حيث بدأت بالأسئلة والشك طريقاً لليقين والأسئلة تولد أسئلة وهكذا. وهذه المرحلة وصل فيها السيد إلى عتبة الاجتهاد، خصوصاً بعد جهوده للاستدلال والاستنباط.
أما المرحلة الثالثة، فهي المرحلة النقدية، الاعتراضية، الاجتهادية، خصوصاً بعد أن اكتملت أدواته المعرفية وبلغ مرحلة من النضج والتجربة والخبرة والقياس للوصول إلى الأحكام التي يعتقد بصحتها.
ولم يكن ذلك دون معاناة خصوصاً، لمحاولات التيار التقليدي كبح جماح الومضات الفكرية والتأملات النظرية الوجدانية السردية للحداثة الدينية الإسلامية، التي أخذت طريقها إلى كتابات السيد، خصوصاً نقد الفكر اليقيني، التلقيني، الماضوي، السائد وإزالة الغبار عمّا علق بالدين من ترّهات وخزعبلات وهي ليست من جوهر الدين، بل من قشوره.
لقد عانى فضل الله كثيراً وهو يلج دروب الفكر الوعرة، ويتسلّح بالنقد في ظل ركود العقل وهيمنت التقاليد البالية التي مضى عليها قرون من الزمان، وكان عليه إخضاع كل شيء للعقل وللعلم وللمعرفة. وفي مشروعه هذا كانت مصادر قوته تتّسع باتساع نفوذه الفكري، وترسّخ قناعاته النظرية، خصوصاً أطروحاته التنويرية ودعوته لوحدة المسلمين والتآلف والتقارب بين المذاهب والتواصل مع الأديان الأخرى، والإقرار بحقوق الآخر، لاسيّما الحق في الاختلاف، واعتماد الحوار وسيلة للاقناع، واعتبار رجل الدين في خدمة المجتمع والجماعة، من خلال علاقته بالناس وخدمتهم، وليس بتبعية هؤلاء للمتنفذين من رجال الدين.
في هذه المنظومة الفكرية وضع فضل الله خمس ثوابت هي، الأول دفاعه عن الدولة الوطنية معتبراً الحفاظ عليها وتطويرها واجباً انطلاقاً من فكرة المواطنة والهوّية الوطنية العامة العابرة للطوائف، وهنا نستعيد كرّاس الوصايا للشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي مثّل هو أيضاً رؤية متقدّمة، حين دعا الشيعة للاندماج في مجتمعاتهم والتمسك بالمواطنة والمساواة أساسا الدولة العصرية.
والثاني إيمانه بالتغيير في كل شيء، لأن الحياة متغيّرة، ولذلك تصدّى للبدع والخرافات بجرأة وشجاعة ولم يستكين لبعض المقولات والأحاديث التي اعتبرها خاضعة لزمانها، وزماننا غير زمانها، الأمر الذي يقتضي بحثها من خلال المقاصد لا استنساخها، خصوصاً إذا كانت تتعارض مع كرامة الإنسان التي تمثل جوهر الإسلام، منطلقاً من قول الإمام علي" لا تعلّموا عاداتكم لأولادكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
والثالث ردّ الاعتبار للدين بالتمسّك بجوهره، وردّ الاعتبار للسياسة، بالتمسك بالمثل والقيم الإنسانية والأخلاقية، فالسياسة عنده ليست لعبة يلعبها اللاعبون، بل هي مسؤولية، ومن هنا نتفهم دعوته للتقوى السياسية، أي دمجها بالأخلاق.
والرابع الدفاع عن الحق ولاسيّما الحق في مقاومة المعتدي، ولذلك وقف داعماً للمقاومة الفلسطينية ولحقوق شعب فلسطين في أرضه، ولحق المقاومة اللبنانية في التصدي للعدوان الإسرائيلي، ولذلك حاولت القوى الاستكبارية كما يسميها معاقبته، حيث جرت محاولة مدبّرة لقتله، إضافة إلى قصف منزله في الضاحية خلال العدوان الإسرائيلي العام 2006.
والخامس وهو الأساس ردّ كل شيء إلى الإنسان وحريته وكرامته، بالمساواة والعدل اللذان كانا هاجسان مستمران في منظومة أفكاره، فالإنسان مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس .
صحيح أن فضل الله درس وتطوّر داخل المؤسسة التقليدية واستطعم من زادها، لكنه خرج عليها وتمرّد على سكونيتها، فقد امتاز بالحركية والديناميكية، ولم يكن رجل دين تقليدي، بقدر ما كان الجانب الاجتماعي والقيمي والإنساني هو الذي صاحبه على مدى أكثر من نصف قرن من نشاطه وسلوكه اليومي.
لقد حاول فضل الله استبدال الصورة التقليدية لرجل الدين المنعزل، المنغلق على نفسه، المرتاب من الآخر، العبوس، المكفهر الذي لا يعرف الابتسامة، المستكين لبعض كتبه القديمة والتي عفا عليها الزمن، ليخرج من هذا القمقم الذي وضع فيه بعض رجال الدين أنفسهم في هيبة زائفة، وليعمل بمنطق الحياة في التواصل والتفاعل والتكامل وإبراز الجانب الاجتماعي في رجل الدين بالانفتاح والتواضع ، مقدماً قراءات جديدة للدين والتاريخ والصراع، بعقل منفتح وفكر واقعي ووجدانية حميمة وإرادة لا تلين، محاولاً فهم الدين عن طريق العقل، وليس إغلاق العقل، بزعم النص الديني، وهذا الأخير حاول فهمه ليس بالنص فحسب، بل بالروح أيضاً.
العقل هو طريق فضل الله مستلهماً قول الإمام علي " العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة النفوس، والنفوس أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء"، أي جمع العقول والأفكار والقلوب والنفوس والحواس والأعضاء في هارموني منسجم ومتراتب.
درس فضل الله على يد علماء منهم السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي، ولاحظ بعض نقاط ضعف المؤسسة التي ينتمي إليها، فسعى لتخليص فقهها وأصوله من تعقيدات التفسير واضعاً الإنسان وحب الخير في الصدارة من خلال رؤية عصرية واعية، متّخذاً عدداً من وجهات النظر الاجتهادية الجريئة مخالفاً الواقع السائد، فلم يقبل " الغالب الشائع" وهو ما استقرّ عليه السلف، بل سعى للبحث عن " النادر الضائع"، وسعى بكل ما يستطيع إلى تقريب الدين من الناس لكي يقبلوا عليه، مثلما عمل على تقريب الإنسان من الدين ليقبل عليه، في إطار مرن وواقعي لأنسنة الدين وعقلنة الواقع، بحيث يمكن المواءمة بين النص والواقع، لاسيّما إذا كان الجانب الإنساني هو الأساس. فالأنسنة هي القاعدة العلوية التي لا تسمو عليها قاعدة أخرى لدى فضل الله.
والأنسنة حسب فضل الله من أصالة الدين والوعي به، لأن الدين لخدمة الإنسان وليس العكس. والأنسنة التي بحث فيها فضل الله، تذهب إلى فهم الدين والنص الديني، وهذه مجرد اجتهادات بشرية، تحتمل الخطأ والصواب، وبهذا المعنى حاول نزع العصمة من رجل الدين برفض تقديسه، فهو مثل غيره يجتهد ولا يملك الحقيقة. واستناداً إلى ذلك دعا فضل الله إلى إلغاء كل تشريع يمتهن كرامة الإنسان ويحطّ من آدميته، لأن الله كرم بني آدم، فكيف يحق للبشر النيل منها، ولذلك كان خطابه الديني مؤنسناً، لأن فكره إنساني. وحاول أن يقدّم خطابه بلغة العصر.
وفيما يلي بعض ملامح اجتهادات السيد التي خالف فيها السائد من الفهم المهيمن منذ قرون:
1- دعوته حذف شروط الذكورة من مرجع التقليد حسب الفقه الشيعي.
2- دعا إلى مساواة الرجل والمرأة معتمداً بذلك على حقوق وواجبات كل منهما كإنسان محفوظ الكرامة.
3- شدّد على طهرية الإنسان، فالبشرية تعني الطهارة والإنسانية هي الأساس، ولا يدنّسها شيء المستوى المادي، وقال أنه لا يوجد دليل على نجاسة أحد، المسلم طاهر والملحد طاهر، والبوذي طاهر وكل البشر أطهار حسب هذا المنطق.
4- اعتبر المسيحية اجتهاداً لاهوتياً إيمانياً مثلما الإسلام كذلك، وهما طريقان خاصان للوصول إلى الله، أي العقيدة لديه وجهة نظر تاريخية، وقد كان متحمساً لفكرة الشراكة الإيمانية. يقول فضل الله "عش إنسانيتك وستصل إلى الله".
5- حرّم إيذاء النفس والتطبير في مواسم العزاء أيام شهر محرّم، ولاسيّما العشرة الأولى منه.
6- اعتمد الحسابات الفلكية لتحديد الأشهر القمرية، أي إثبات الأهلة في علم الفلك، وبذلك قدّم رؤية علمية توحيدية للكون.
7- استشكل الحكم على المرتد، فلا يقتل الإنسان بسبب أفكاره أو آرائه، واعتبر ذلك يتماشى مع روح القرآن.
الحرية والحوار
كان فكر فضل الله تربوياً وثقافياً ومعرفياً وكونياً، قدّم فيه تفسيرات للدين والقرآن والإسلام بشكل عام، وقد سعى لتحرير النص الديني من الشروحات المملّة مقدماً قاعدة "يسّر ولا تعسّر".
كان فضل محاوراً من الطراز الأول، يستمع إليك ويصغي دون ملل أو ضجر، ويناقشك في أدق التفاصيل، ويظل يسأل، والفلسفة عنده أولها سؤال كما يُقال، على الرغم من كوننا نسكن جوار بعضنا في النجف، لكن عالمينا كانا مختلفين، لم ألتقِ به في النجف، في حين التقيت بالكثير من أقرانه ومجايليه بحكم علاقات اجتماعية وجيرة وروابط دينية وعائلية وغير ذلك.
لكنني التقيت به في لبنان وفي دمشق وفي طهران، وعند عودتي من لندن التقيت به أكثر من مرّة، وقد فاجأني في إحدى المرّات بسؤاله متى تكتب عن النجف، وهو السؤال الذي لا يزال الشيخ حسين شحادة يلاحقني به منذ ثلاث سنوات أو أكثر، حتى أنه تبرّع جمع ما كتبته ليصدر في عدد خاص من مجلة المعارج، ودائماً أتذرّع بالوقت، وكنت قد أطلعته على ما كتبت بعنوان "هذه النجف التي توشوشني" وزاد إلحاحه عليّ وهذه مناسبة للتعهّد بإنجاز هذه المهمة قريباً. لا أتذكر إن كان فضل الله قد اطّلع على كتابي عن سعد صالح، أم لا، فقد كان أكثر من فصل فيه عن النجف والعلاقات النجفية والحوزة العلمية والروضة الحيدرية والمؤسسة الدينية والدولة.
إن نزوع فضل الله إلى الحرية والتمرّد على القوالب التقليدية دفعه للانشقاق، ولأنه مثقف فهو لا يخشى الانشقاق، والمثقف بطبعه بحاجة إلى فسحة كبيرة من الحرية، لاسيّما عالمه الروحي الكثير الألغاز، والحرية بالطبع لا يرتضيها، مثلما لا يمنحها القابض على أمور المؤسسة، خصوصاً إذا استهدفت التجديد وتعرّضت لنفوذه وسلطاته التي لا حدود لها.
وبقدر نزوعه إلى الحرية كان لديه نزوع إلى المعرفة، التي يجدها الطريق إلى الله عبر العشق الإلهي – الصوفي. ولا معرفة بدون حوار، ولا حوار ديناميكي إلاّ مع الآخر، المختلف ولم تكن خطوط حمراء لديه في الحوار.
يقول فضل الله في البدء كان الحوار، مثلما هو في البدء كان الكلمة، وكلّما تعدّدت الأصوات انفتح الحوار. ويضيف: القرآن حاور الملائكة وعرفهم أن هناك صوتاً يختزن عقلاً وروحاً وحركة وإحساساً وأعطاهم الحرية في قول ما يفكّرون، وهو ربهم، لم يقل لهم ألاّ يتناقشوا، وهو القادر على ذلك. ومثلما كان يحث الناس على الحرية فهو سيحثهم على الحوار.
وحسب الإمام علي وهي المقولة التي طالما يردّدها فضل الله " لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً" فحرية الإنسان هي إنسانيته، وبفقدانها أو التنازل عنها يفقد الإنسان إنسانيته، ولذلك يقول فضل الله : كن سيّد نفسك، بمعنى حرّاً ولديك القدرة على الحوار والاختلاف مع الآخر والتكامل معه. إنه يعتبر الحرية أمضى سلاح والاستبداد أشد مظاهر التخلف، وهذا الأخير هو العدو الأول للإنسان، بهذه الطريقة التقدمية العصرية يفكر السيد فضل الله.
وبقدر إيمانه بالحرية ، فهو يؤمن بالتجديد، وهذا الأخير يحتاج إلى عقل ومرونة وانفتاح ومعرفة، سواء للدين أو المذهب، اللذان ينبغي أن يتخلصا من العصبيات والأحقاد.
هو يتمثل كلام الإمام علي حتى فيما أصابه من أذى باقتباسه وتكراره " احصد الشر عن صدر غيرك بقلعه من صدرك" والحقد لديه موت، أما الحياة فمحبّة، وحسب قوله إنه يريد أن يحيا ولا يريد أن يموت، وكانت تلك فلسفته البسيطة والعميقة في آن، لكن إشراكتها الإنسانية بائنة وظاهرة، ولذلك كان يدعو لعدم الإساءة إلى أصحاب رسول الله أو السيدة عائشة زوجته، لأن في ذلك إساءة للرسول وآل البيت.
كان فضل الله يدرك السطوة التي يمتلكها بعض رجال الدين، ولذلك حاول بهدوئه ودماثته ولكن بمبدأيته وبعد نظره تفكيك السائد، بمحاولة رفع التقديس الكاذب عنهم وإزالة الغشاوة والجمود عن أعين الكثيرين الذين يتعبّدون في محراب نصوص أكل الدهر عليها وشرب، ويتعاملون مع بعض الأشخاص كأصنام، وهؤلاء يحاولون تملّق الجمهور ومحاباته في خرافاته وخزعبلاته وما هو موروث من تراث لا علاقة له بالإسلام، وذلك لأسباب اقتصادية، خوفاً من أن تذهب الحقوق " الشرعية"، كما يُطلق عليها مثل الخُمس والزكاة إلى غيرهم، فضلاً عن الامتيازات، وهذه يمكن لبعض التجار ورجال الأعمال، ناهيك عن الحكومات التلاعب بها وتوجيهها بمنحها لرجل الدين هذا، وحجبها عن ذاك، بهدف الضغط لمجاراة السائد والراكد والساكن والوقوف ضد التجديد أو التغيير، ونعني بها امتناع بعض رجال الدين من اتباع سبيل التجديد وقد يكون لذلك أسباب أخرى:
أولاً- لعدم القناعة بالتجديد.
ثانياً- الاستكانة لما هو قائم
ثالثاً- انخفاض درجة الوعي بأهمية التجديد
رابعاً- عدم القدرة على الاستدلال والاستنباط
خامساً- الخشية من الانفتاح بزعم الحفاظ على العقيدة ونقاوتها ومنع اختلاطها بالعقائد الأخرى.
سادساً- التعارض بين التجديد ومصالح وامتيازات يتم الاستحواذ عليها باسم الدين، وأحياناً باسم المذهب أو الطائفة.
وهذا يؤدي إلى التقوقع والانغلاق، والنظر بعين الريبة إلى الآخر، باعتباره خصماً أو عدواً، حتى وإنْ كان من أتباع الدين ذاته أو ذات الطائفة التي تتحكّم السياسة بها وتلعب بالعقول لتقوم بحجب روح التجديد بحجة الثقافة الغازية أو الغزو الثقافي، وهي الصورة النمطية ينظر إليها عكسياً من جانب بعض القوى العربية، المتنفّذة تحت عنوان "الإسلامفوبيا" "الرهاب من الإسلام" ويقابلها في عالمنا العربي والإسلامي "الوستفوبيا" " الرهاب من الغرب" واعتبار كل ما فيه شرٌ مطلق.
لقد طرح فضل الله منهجاً جديداً أساسه أسئلة الجدل بين الدين والعقل، وهو سؤال الدين من داخل الدين، وهو لا يستهدف تجديد الخطاب الديني، بل ينصرف إلى مهمات تجديد الفكر الديني كما أشرنا في المقدمة.
وإذا كان الأمر قد اقتصر على تفسير العقائد الدينية ، سواء ما يتعلق بالظواهر الغيبية وتعطش البشر الروحي للشعور بالطمأنينة الداخلية، لاسيّما في ظل عجز الإنسان عن تفسير وحل الكثير من المشاكل التي تواجهه، لكن بعضها الآخر يتعلق بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي جزء من الصراع بين الإنسان والإنسان، والإنسان والطبيعة.
النصوص هي ذاتها لكن قراءتنا لتلك النصوص وتغيير فهمنا لها هو ما يستهدفه فضل الله بما يتناسب مع الحال المعاصر.
إن استثنائية فضل الله تقوم على إن أطروحاته تلك كانت تنمو وتزدهر خارج مقامات الحوزات، فقد أصبح فقه النقد لديه مراجعة لكل ما هو لم يتأكد عنده، وكان ذلك ينمو طردياً مع اتساع عقله وزيادة تجاربه وخبراته.
وبقدر رغبته في تحرير الدين فقد سعى لتهذيب السياسة، ولا سياسة خارج نطاق الأخلاق، وهو درس الأخلاق على حد تعبير الشيخ حسين شحادة. إن إنحسار دور الدين سار طردياً باتساع عدد رجال الدين، وانحسار دور الفقه كان طردياً مع انتشار الفقهاء.
لقد فاض كثيرون في ذكر محاسن السيد، ولا أستطيع أن أباري من هو أجدر مني وأكفأ مني وأقرب إلى السيد مني، لكنني كنت دائماً في كل لقاء أو مراجعة أو قراءة، أبحث عن تعمّق منظومته القيمية والروحية التي يراها في الأديان جميعها، الإسلام والمسيحية إضافة إلى مواقفه في دعم المقاومة ومواجهة العدوان الإسرائيلي، والدعوات العامة للحوار والتقريب، فتلك أمور عمومية وإنْ كانت مهمة وأساسية، ولكن دوره التنويري والإرشادي والمعرفي يتجلّى في جعل منظومة الأخلاق والقيم والسلوك قريبة من الناس، وهدف الدين ومعنى الحياة هو تحسين شروطها وتخفيف آلامها.
أنسنة الدين
ونعني بها الدعوة إلى الرفق والتواصي والتآزر والتعارف والمودة والرحمة واللين وتجنب العنف والقسر والتشارك، وهذه كلّها وردت في القرآن الكريم، وهي تدلّ على التسامح وإن لم يرد النص عليه، واعتبر العنف لا يحلّ المشاكل أو يزيلها وقد يعقّدها، واستخدام القوة ليس هو القاعدة، بل الاستثناء وذلك بعد استنفاد الوسائل الفعّالة الأخرى، وفي مقدمتها الحوار لاستعادة الحق.
لم يكن يبرّر العنف ، إلاّ عند الضرورات التي تبيح المحظورات، ولكل ضرورة أحكامها كما يقال، ذلك أن اللجوء إلى العنف، هو أقرب إلى عملية جراحية لا يلجأ إليها المرء، إلاّ بعد استنفاذ بقية الطرق الأخرى، وخصوصاً عند وجود خطر على الحياة.
اعتبر فضل الله كل دين ينبغي أن يخدم الإنسان، وليس على الإنسان خدمة الدين، لأن الأديان وجدت لخدمة الإنسان، والدين يتطور مثل كل شيء في الحياة، ويتغيّر مع تغيّر الظروف لأنه مرافق للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعسكرية، فمن قال " إن الدين ضد العلم"، وبمفهوم السيد فضل الله الإسلام هو كل شيء ينفع البشر، وعلى ذلك فليس من الإسلام بشيء ما يؤدي إلى عكس ذلك من إيذاء الناس أو إكراههم. والقيم هي الجامع الأهم للبشر، مثل المساواة والحرية والكرامة والعدالة والشراكة، والتعددية والتآخي وغير ذلك بما فيها بين الرجل والمرأة.
ولم يدعُ فضل الله لقيام دولة إسلامية، فقد دعا لقيام دولة الإنسان، والإنسان هو صورة الإسلام، والإسلام صورة الإنسان.
أما الحقيقة لديه فهي بنت الحوار، فقد حاور الله ابليس، كما حاور النبي المشركين، فكيف لا يتحاور البشر؟، كما يقول، والحوار يتطلّب: متحاورين، أي القناعة بالحوار، والتفكير بما سيؤول إليه الحوار، اتفاقاً أو اختلافاً، وبإدارة الحوار، وبأسلوب الحوار، وهكذا فالقرآن حسب وجهات نظره للمعرفة وليس للبركة.
خاتمة
كان فضل الله مثل غيمة فضية في سماء الثقافة الإسلامية، تشع ومضات بالتجديد محاوِلَةً أن تؤاخي بين الدين والحياة، وانتقل هذا النور واتسع من النجف إلى عيناتا ومن سوق العمارة وعكد السلام، إلى حي السلم وبئر العبد وحارة حريك، وكل لبنان والعالم العربي.
كان فضل الله مع رجال الدين شاعراً وأديباً، ومع الشعراء فقيهاً وعالماً ومع الفقهاء سياسياً ومع العلمانيين متنوراً ومنفتحاً، ولم تمنعه العمامة من المشاركة في الحياة العامة.
ليست لديه أحكاماً جاهزة، فالتراث حسب وجهة نظره هو جهد ونتاج وأفكار المجتهدين والفقهاء والمفكرين، لأن ما فكّر به الإنسان، والإنسان خطّاء بطبعه، أي أنه يخطأ ويصيب، وبالتالي ليس تراثنا مقدساً. إن محاولاته تلك كانت تنم عن فكر أصيل لإعادة النظر في الثقافة الدينية وتخليصها من التقديس.
كان السيد أقرب إلى الاستثناء، في حين أن الاستثناءات قليلة في عصرنا، واستثنائيته لا تكمن في أفكاره فحسب، بل في أخلاقياته، حيث جمع على نحو متوازن بين فكره وسلوكه وبين ظاهرة وباطنه، وبين علانيته وكتمانه، وكان واحداً ولم يعرف الازدواجية التي عرفناها لدى الكثيرين من رجال الدين، الذين كل ما كان يتعرّف عليهم العامة لا ينفرون منهم فحسب، بل أحياناً ينفرون من الدين، لأنه حسب وجهة نظرهم يمثلونه.
وكان الاجتهاد هو الأهم لديه وليس قدسية الأفكار، لهذا فهو الذي يستحثك ويدعوك للحوار ، بل والاختلاف، وحتى ولو وصل الأمر إلى الخصومة، فحسب وجهة نظره فإنها لا تنفي المشتركات، بل يراها مصدراً للخصوبة والابتكار، والحياة تغتني بالاختلاف لا بالتطابق.
لا تستطيع أن تحتسب فضل الله على حقل من حقوق المعرفة، فشخصيته متنوعة وثقافته موسوعية، تمتد من الدين والفقه إلى السياسة والفلسفة والثقافة والأدب، والعلم وغيرها، وكلها احتواها 90 كتاباً تمثل جوهر شخصية السيد.
صحيح إن فضل الله فرد لكنه، عندما يتصرّف فكأنه مجموع، لأنه يمثّل الضمير ويجسّد القيم السامية، هو سليل مدرستين الأولى مدرسة النجف وروادها من السيد أبو الحسن إلى الحكيم والصدر إلى محسن الأمين في لبنان . لعلّ قولاً واحداً شجاعاً يمثّل أغلبية، وقد كان صوت فضل الله أغلبية حتى لو كان فرداً.
هنا الوردة، فلنرقص هنا يقول ماركس.