المنطلق الأساسي الذي انطلق القرآن منه لبناء الأمَّة هو منطلق الوحدة ونبذ الاختلاف، وحدة الدين، ووحدة التدين، والبعد عن النزاع في الدين أو التدين، وإذا كان الناس بطبائعهم يختلفون في قدراتهم العقليَّة والذهنيَّة ومستوياتهم في الفهم والتلقي؛ فذلك لا يعني أن ينال ذلك من ذلك المبدأ الثابت الأساس، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، قال (سبحانه وتعالى): ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة:213)، أي فاختلفوا، وهذا المعنى يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس:19)، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فتصبح كلمة فاختلفوا الظاهرة في آية 19 يونس كأنَّها مستبطنة في آية سورة البقرة، وعلى ذلك تكون النبوات والكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن الكريم جاءت لمعالجة اختلافات البشر لا لزيادة مادة الاختلاف، ولا لأن تكون نفسها موضع اختلاف أو مادة اختلاف، فالاختلاف مذموم، ولا يمكن مع الاختلاف أن نوجد أمَّة واحدة مؤتلفة قلوبها، موحدة كلمتها، مجموعًا شملها. وفي سورة هود جاء قوله (جل شأنه): ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (هود:118-119)، فهذه الآية الكريمة أساء بعض المفسرين فهمها، وفهم منها أنَّ الاختلاف والتفرق أمر طبيعي، وأنَّ الائتلاف والتوحد أمر استثنائي، مستدلًا بهذه الآية الكريمة، وأنَّ الله (جل شأنه) خلق الناس ليكونوا مختلفين، وهذا بالنسبة لاختلاف التنوع باللغات والألسن والألوان ومواقع السكن والديار أمر طبيعي وهو آية من الآيات الله (جل شأنه): ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:22)، فالعلماء يعرفون ويعلمون أنَّ اختلاف التنوع لا التضاد أمر طبيعي. في الوقت نفسه اشتد الله (جل شأنه) في كتابه العزيز في استنكار الاختلاف في الدين، أو الاختلاف في القرآن، فقال (جل شأنه): ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام:159)، وتوعد (جل شأنه) بعد أن برَّأ في آية سورة الأعراف رسول الله (صلى الله عليه وأله وسلم) من الانتماء إلى أولئك الذين يفرقون دينهم ويكونون شيعًا وأحزابًا وفرقًا، فهؤلاء كلهم لا يتصلون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يهتدون بهديه ولا يتبعون سنته، وهو منهم براء، فتوعدهم (جل شأنه) بقوله في سورة الأنعام: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65). ولذلك حين اقتضت إرادة الله أن يجعل من المؤمنين المسلمين أمَّة واحدة تولى بنفسه وبذاته العلية الشريفة التأليف بين قلوب المؤمنين، وقال (جل شأنه): ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:62-63)، وقال (تبارك وتعالى) في سورة آل عمران: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103)، فالتأليف بين القلوب أمر إلهي، وهو المدخل الإلهي الذي حدده الله (جل شأنه) لبناء الأمَّة المؤمنة الواحدة، التي لا يليق بها إلا أن تكون أمَّة واحدة، ولا يصلح لها التفرق، وإذا تفرقت حل بها البوار والخسار وخراب الديار؛ ولذلك قال (صلوات الله وسلامه عليه) في حديثه الصحيح، الذي أخرجه أحمد عن ثوبان: “يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ”[1]، إذن فوحدة هذه الأمَّة فريضة محتمة، على كل مسلم ومسلمة أن يسعى إليها، ويسأل الله على الدوام أن يؤلف بين قلوبها، وفرض عين على الجميع أن يعملوا على إزالة أسباب التنافر والفرقة والتخاصم والاختلاف فيما بينها، ونحن مأمورون بالتأسي بالأنبياء، ونؤمن أنَّ موسى وهارون أرسلا إلى فرعون وملأه، وهارون الرسول النبي حين دعى السامري بني إسرائيل إلى عبادة العجل الذهبي وعبدوه جميعًا وجاء إليه سيدنا موسى يلومه: ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ (طه:92-94)، فهذا يدل على أنَّ هذا النبي العظيم والرسول الكريم لم ينازع شعبه الذي ارتد ردة جماعيَّة وعبد العجل خوفًا من تفريق كلمتهم، مما يدل على أنَّ فريضة وحدة الأمَّة وجمع كلمتها تقف في أعلى سلم الفرائض المحتمة على كل مسلم ومسلمة، وأنَّ أي مسلم أو مسلمة يعمل على تفريق كلمة هذه الأمَّة وتشتيت جموعها وتحويلها إلى فرق وأحزاب إنَّما هو عدو لها، لا يمكن أن ينتمي إليها، أو يعد بين أبنائها. فتكوين الفرق فيما مضى والأحزاب في عصرنا هذا والمنظمات والفئات والأحزاب السياسيَّة في أمَّة المسلمين يحتاج إلى وقفة للنظر والتأمل، في ضوء ما أوردناه من آيات وحديث، وفي ضوء ونور القيمة العليا لوحدة الأمَّة وجمع كلمتها، ورص صفوفها. وجمع كلمة الأمَّة والإيمان بوحدتها والحرص على ذلك يقتضي البعد كل البعد عن الافتئات على الأمَّة، والنطق باسمها وادِّعاء تمثيلها من قبل أي حزب أو فئة أو حركة أو تنظيم، سواء انتخب لنفسه اسمًا وشعارًا دينيًّا، أو اسمًا وشعارات أخرى، فهذا كله يمثل خروجًا وشذوذًا عن تلك الأوامر الإلهيَّة الصارمة، ولقد توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان كل همه وهو يجود بأنفاسه الطاهرة في اللحظات الأخيرة من حياته، كيف يمكن أن تبقى كلمة هذه الأمَّة مجتمعة، فحذر من الفرقة، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا كتاب الله”. تخرج. ونستطيع أن نقول إنَّ هذا الحديث مع أصله الموجود في قوله (تعالى): ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103)، يدل على أنَّه ليس لأحد أن يستأثر بمجموعة من المسلمين يطلق عليهم اسمًا يخصهم، ويفصلهم عن أمَّة المسلمين، وشعارات تميزهم عن السواد الأعظم للأمَّة، وتجعلهم كيانًا مستقلًا عنها، تحت أي شعار وأي اسم، سواء سمي فرقة أو طائفة أو مذهبًا أو حزبًا أو حركة أو تيارًا أو أيَّة تسمية أخرى، فذلك كله يدخل في دائرة المنهي عنه، في أعلى درجات النهي، ويعرض القائمين به لخزي الدنيا وذلها وعذاب الله في الآخرة. إذن فوجود الفئات والتننظيمات والحركات والأحزاب والطوائف والمذاهب وما إلى ذلك كل ذلك يعتبر منافيًا لأوامر الله، وخارجًا عن وصيَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومتمردًا ومفتاتًا على أمَّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي يجب أن تكون أمَّة واحدة، ولا عز لها إلا بوحدتها، ولا بقاء لها إلا بوحدتها، ويفترض بطوائفها ومذاهبها وحركاتها أن تراجع مواقفها في نور كتاب الله (عز وجل)، وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتثوب إلى رشدها، وتجمع كلمتها من جديد، ففي ذلك عزها، وفي ذلك وحده سبيل استعادتها أمجادها، وحملها لرسالة ربها، وشهادتها ووسطيَّتها، وخيريَّتها. فيا أيُّها الناس اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أنَّ الانضمام إلى سائر الكيانات المفرقة التي تفصل مجموعة عن جسم الأمَّة وتضع لها عنوانًا يخصها وشعارات وسمات وصفات ذلك كله خروج على كتاب الله، وتنكُّر لسنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد. ————————- [1] الراوي : ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، المحدث : الألباني، المصدر: صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 4297، خلاصة حكم المحدث: صحيح. لسان القرآن ولسان العرب أ.د/ طه جابر العلواني من صفات هذا القرآن الكريم قدرته الرهيبة على الاستيعاب، والتجاوز، وقد استوعب القرآن الكريم لسان العرب بشكل من الصعب أن يوصف، لكن من آتاه الله شيئًا من التذوق للسان القرآن المجيد وشيئًا من المعرفة بلسان العرب يستطيع أن يدرك لماذا كان القرآن المجيد يميِّز نفسه دائمًا بالإبانة، فلا يطلق على لسانه لسانًا عربيًا إلا ويصفه بالبيان، والوضوح، والظهور؛ لينبه إلى مزاياه، وليشير إلى أنَّ نسبته إلى لسان العرب هي نسبة الاستيعاب والتجاوز، فهو مستوعب للسان العرب، بكل مادته، ومتجاوز لها، حتى لتبدو وكأنَّها حرف في جملته، وجانب في ركن من أركانه، وجزء من ذلك المركب العجيب الذي تحدى الله الخلق كافَّة أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88)، وأعلن عن عجزهم عن ذلك بعد وجود الدواعي الكثيرة وانتفاء الصوارف. وقد اخترت كلمة الكفر التي نسمع لغطًا كثيرًا هذه الأيام حولها، والتي عدَّها خصوم لسان القرآن من الألفاظ المشتملة على التحريض، والتحيز ضد ومع، بل من ألفاظ التوحش في معاملة الآخرين، وحاولت تبين ما في هذه اللفظة العجيبة التي اشتملت في القرآن الكريم على معاني هائلة متسعة، وكانت في لسان العرب تبدو وكأنَّها كائن صغير لا يكاد يلحظ، فالعرب بألسنتهم المختلفة القرشي والهذلي والتميمي والقيسي والنزاري ومن إليهم قد استعملوها بديلًا عن كلمة ستر، فعل ماض، يفيد التغطية، فإذا غطى الإنسان شيئًا فهو بالخيار أن يقول كفرته أو سترته، والغريب أنَّ هذه اللفظة حين نقدم عين الفعل الذي هو الفاء تصبح دالة على شيء لا علاقة له بالستر والتغطية إلا من بعيد، فإنَّها تكون فكَّر، والتفكير عمل ذهني، والكفر بمعنى الستر عمل حسي، فاللفظة الساذجة البسيطة حين استعملها القرآن استوعب معنى الستر فيها، ومنحها مساحة واسعة للتعبير عن معان ما كان لها أن تعبر عنها لو بقيت حبيسة اللسان العربي، الذي حصرها في دائرة الستر. فقد يقول لليل: إنَّه كافر، أي ساتر للأشياء، وقد يقول للزارع: إنَّه ساتر أي ساتر للبذرة، لكن القرآن يستخدمها فيخرج بها إلى تلك الرحاب الواسعة فيستعملها في كفر النعمة أو كفرانها، إذا لم يشكرها المنعم عليه، فيقول: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ (الأنبياء:94)، فالأعمال الصالحة لا يمكن سترها، أو كفرانها، وكذلك النعم. ويستخدم الكفران والكفور في جحود النعم، وإنكارها، وعدم إعطائها حقها من الشكر، ولذلك يقول: ﴿.. قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل:40)، فهو هنا مقابل الشكر لله (جل شأنه)، ويقول (جل شأنه): ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152)، ويقول فرعون لموسى: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ (الشعراء:19)، أي تحريت كفران نعمتي، ويقول (جل شأنه): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم:7)، أي كفر النعمة، ثم يستخدمه في الجحود؛ لأنَّ الكفران لا يتوقف عند الستر، أي التغطية على النعمة، وعدم الإعلان عن شكرها، بل ينتقل إلى الجحود جحود النعمة، ولذلك يقول (جل شأنه) لبني إسرائيل: ﴿.. وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ (البقرة:41)، أي جاحد له، ويصف الإنسان كله بقوله (جل شأنه): ﴿.. إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾ (الحج:66)، وكأنَّه يريد بذلك المبالغة في كفر النعمة، ويقول: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ (سبأ:17)، ويقول: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾ (الزخرف:15)، تعبير عن استعداده لكفران النعم الإلهيَّة، وعدم شكرها، ويقول (جل شأنه): ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ (عبس:17)، ويقول: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان:3)، فهناك من يسلك سبيل الشكر، ومن يسلك سبيل الكفر، ويجعله مقابل في قوله: ﴿.. اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ:13)،فالناس صنفان شكور وكفور، ثم لا يقف الأمر عند ذلك، وذلك حين يستعمل في أعلى أنواع الكفر، وهو جحود الألوهيَّة والربوبيَّة والنبوة والشريعة، والكفر بالدين: ﴿.. فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ (الفرقان:50)، ﴿.. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا﴾ (الإسراء:99)، ﴿.. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ .. ﴾ (البقرة:102)، ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل:106)، ﴿.. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256)، ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر:3)، ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ (عبس:42). وهنا يفصل القرآن المجيد بين كفر يخرج من الملة، ويدخل الناس النار، وكفر أضعف وأقل منه لا يخرج من الملة، وإن كان سيئًا؛ لأنَّه يتعلق بشكر النعمة، وعدم جحودها، والثناء عليها، ووضعها مواضعها، وعدم التورط بجحودها، والمتتبع لآيات الكتاب العزيز يجد شبكة من المعاني ترتبط بهذا المفهوم، شبكة هائلة، تجمع من الصفات ما ليس من السهل حصره؛ ولذلك وددنا التنبيه إلى عبقريَّة ألفاظ القرآن الكريم ومفاهيميتها، واستيعابها للسان العرب؛ ولذلك فإنَّ من لا يعرف الفرق أو الفروق الدقيقة بين لسان العرب ولسان القرآن ولا يستطيع أن يدرك عمليَّات الاستيعاب والتجاوز في لسان القرآن فإنَّ ذلك قد يقوده إلى السقوط في معان تناقض مقاصد القرآن وغاياته. إنَّ كثيرًا ممن يتصدون في أيامنا هذه للدعوة ويتحدثون عنها قد يقعون في هذا الإشكال، ويتوهمون هذه الألفاظ ويخطئون في فهمها، فقد يخلط بين كفر النعم وبين الكفر المخرج من الملة، وقد يضع كل منهما في موقع الآخر، وقد يخرج من الملة من لا يخرجه ذلك الفعل منها؛ ولذلك فإنَّ الخبرة بلسان القرآن ومعرفة معانيه ضرورة حتميَّة للدعاة ولحملة الخطاب القرآني، لئلا يخطئ الإنسان في أمور كهذه لا يقبل فيها الخطأ، فحين يوصف إنسان بالكفر لابد أن نعرف أي نوع من الكفر يراد أن يوصم به، فليس كل كفر مخرجًا من الملة، ومبيحًا لدم الإنسان، أو حريَّته، ولا مسوغًا لمعاقبته، والله أعلم.