لا تكونُ الإساءة للّغة العربيّة من خلال الوقوع في الأخطاء اللغوية فقط، بل ربما تأتي الإساءةُ أحياناً ممّن يدّعون حبّ العربيّة والدفاع عنها والحرص على سلامتها، إذ توجد طائفة من الناس تبغّض الناس بالعربيّة وتنفّرهم منها، ربّما عن غير قصد، ولكنّ هذه الطائفة لا تراعي ما قد تخلّفه في نفوس الطلبة وسائر المتعلّمين من نفور واشمئزاز أحياناً، من خلال إصرارها على التكلّف والتشدّق والتصنّع الظاهر في حديثها وفي اختيارها لعبارات وجمل غير مستساغة ولا مألوفة لدى السامعين، مع ما يرافق ذلك من تجهّم وعبوس وتعالٍ وتفاصح.
ولو وقف الأمر عند هذا الحدّ لهان الأمر، ولكنّ بعض هؤلاء ينصّبون أنفسهم رقباء على المتحدثين من الناس في المجالس العلمية والمنتديات واللقاءات الثقافية، فيما لا يجدون ما يأخذونه على المتحدث أو المتحدثين نراهم يعمدون إلى عبارة أو كلمة تحتمل وجوهاً لغوية مختلفة استخدم المتحدث أحدها، فيخطّئون الوجه الذي استخدمه ويجعلون الوجه الآخر هو الصواب، فإن وصف شيئاً بأنه رئيسي قالوا له: إن كلمة (رئيسي) خطأ، والصواب: رئيس، وإن استخدم كلمة (رئيس) قالوا إنّها خطأ والصواب رئيسيّ.
وإن استخدم أحد المتحدثين عبارة (تعرّف عليه) قام أحدهم ليعلن على الملأ أنّ هذه العبارة غير صحيحة وصوابها (تعرّفه)، وإن استخدم كلمة تعرّفه خطّأوه وصوّبوا الوجه الآخر وهكذا إلى آخر هذه السلسلة من صور النقد اللغويّ التي لا تقدّم ولا تؤخّر ولا تضيف شيئاً في موضوع الندوة أو المحاضرة.
وحدث معي ذات مرّة أنني استخدمت في إحدى الندوات التي كنت مشاركاً بها عبارة (عاش كذا سنةً ونيْفاً) بتسكين الياء، فنهض من بين الحضور أستاذٌ معروف ليعلن أنني أخطأت في استخدام الكلمة على هذا الوجه وأن الصواب هو (ونيّفاً) بالتشديد، ولو رجع إلى معاجم العربيّة لوجد أنّ النيْف بتسكين الياء تعني الزيادة ويجوز تشديدها، ومعنى ذلك أن التسكين هو الأصل.
المهم في الأمر أنّ الذين يختصّون بتخطئة الناس على هذا النحو، إنّما يسيئون للغة أكثر ممّا يظنّون أنّهم يحسنون إليها، ويكشفون عن ضيق أفق، ولو أنّ انتقاداتهم ذهبت إلى التنبيه على أخطاء إعرابية فادحة، أو استخدام مفردة غير دقيقة للدلالة على معنى محدّد، أو إلى خطأ يغيّر المعنى المقصود، لكان ذلك أجدى لهم وأنفع لمن يستمع إليهم. أمّا الذهاب إلى تفضيل وجه من الاستخدام على وجه أو وجوه أخرى فهو مضيعة لأوقات الناس وإرباك لمن يريد أن يتعلّم العربيّة، ومثال هذا النهج في النقد اللغوي لا يخدم قضية اللغة العربيّة والدفاع عنها.
إنّ العربيّة أكثر سماحة وأوسع صدراً من هؤلاء الذين يحاولون خنقها ومنع كل هواء عنها بحجة المحافظة عليها والدفاع عنها، وليس من سماحة العربيّة وأعلامها أن يقتصر دورهم على تصيّد أخطاء الآخرين وتفضيل وجه على وجه آخر من الاستخدام اللغوي.