من جديد تَظهر في خلفية مَشاهد حادثتَي تمزيق المصحف وحرقه في كل من السويد وهولندا، صورة جلية للتناقضات الناتجة من اختلال مفهوم الحرية بصفة عامة، ويشمل ذلك مفهوم حرية التعبير. فالمشكلة الكبرى لا تكمن في عدم ملاءمة ما يُبرَّر قانونيًّا لبعض أشكال التعبير عن الحرية لبعض المواطنين المتشددين أو المتطرفين، ولكنها تكمن في اختلال مفهوم الحرية في الغرب، الذي جاء في سياق محاولة تحرر العقل الغربي من قيود هيمنة المؤسسة الكنسية القروسطية، وهو ما جعل الشعور بالحرية ممزوجًا بالابتعاد عن الدين وتمثلاته القهرية المختلفة.
فنحن أمام نظرتين متعارضتين إلى العلاقة بين حرية التعبير واحترام الرموز الدينية: الأولى تقدِّس حرية التعبير وتضعها فوق الرموز والمقدسات الدينية، وتجعل ازدراء المقدسات أمرًا قانونيًّا ومشروعًا. والثانية تحترم حرية التعبير، وتضع لها حدودًا تنسجم مع احترام الرموز والمقدسات الدينية. إزاء ذلك التعارض يجب أن نحيي مفهوم "مسؤولية التعبير"، وأيضًا يجب تأكيد المنطلقات الأساسية في بناء مجتمعاتنا البشرية، وهي أن احترام الرموز الدينية بكل تجلياتها الروحية والتاريخية والجغرافية يمثل مُسلَّمة أخلاقية بدَهيَّة، لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها في منظومة القيم الإنسانية المشتركة، مع إدراكنا جميعًا بأن أكثر الدول تقدمًا في العلوم والتكنولوجيا يمكن أن تعاني بعض مظاهر الجهل والكراهية والتمييز، وهو أمر ينبهنا إلى أهمية الدين ودوره في الارتقاء بالسلوك الأخلاقي للإنسان.
في هذا المجال، أشير إلى أنني كنت قد حظيت في عام 2006 بشرف إطلاق مبادرة "رحلة العيش المشترك"، مع مركز الأبحاث "Monday Morning” (مقره كوبنهاغن)، جنبًا إلى جنب مع قادة من أنحاء العالم وخبراء وسياسيين، عملوا على تحديد وترتيب أولويات التحديات الرئيسية التي تهدد الجهود العالمية في العيش الديني المشترك. ومن بين التحديات الخمسة الرئيسية كان: تمكين الضعفاء، وضمان حرية الدين، وإيجاد فضاءات عامة للتعايش، وضمان استقلال القضاء، وتوسيع مفهوم الأمن الانساني. ولا بد من التنويه أيضًا بما صدر عن المجلس الأوروبي، من تشديد على أن النقد والتعبير عن الرأي يجب "أن لا يرقى إلى مستوى التحريض على الكراهية الدينية"، وأن أولئك الذين يمارسون حريتهم في التعبير، عليهم واجب ومسؤولية "أن يتجنبوا قدر الإمكان التعبيرات التي تسيء إلى الآخرين دون مبرر".
بعيدًا عن اختلاف وجهات النظر في مفهوم حرية التعبير، لا بد لنا أن نستوعب العوامل التي تعمق من الخلاف بين النظرة الغربية والنظرة الشرقية إلى الحرية. ومن تلك العوامل: عقدة المركزية والهيمنة الغربية، والخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، والمخلفات الصلبة لحقبة ما بعد الاستعمار، وغيرها من العوامل التي تجعل الحوار بين الطرفين أكثر تعقيدًا مما يبدو لنا.
يتمثل التحدي الأكبر بكيفية التعامل مع هذه الإساءات، والردّ عليها بطريقة تنسجم مع قيمنا الأخلاقية والروحية، التي جاءت بها تعاليم القرآن والكتب الإلهية. فالقرآن يعلّمنا أن رسالة الإسلام إلى البشرية لا تتحقَّق إلا بثلاث طرق لا رابع لها، وهي: ﴿ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ [سورة النحل: 125].
بحسب قاعدة التضامن الروحي، إنَّ الإساءة للكتب المقدسة والأماكن والرموز الدينية إنما تُسيء للقيم الدينية والروحية، التي يؤمن بها عموم أتباع الأديان من مختلف الأمم والشعوب. فالإساءة لدين واحد هي إساءة لجميع الأديان ومقدساتها، وذلك يتعارض والقاعدة الذهبية التي نادى بها المسيح بقوله: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم" (متى 7: 12). وقد أكد رسولنا محمد (ص) هذه القاعدة الأخلاقية بقوله: "لا يُؤْمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري).
إنَّ حرق الكتب -على العموم- ظاهرة قديمة في المجتمعات، أخبرنا التاريخ عن أمثلة متعدّدة لها، مثل ما قام به المغول في بغداد عام 1258م، وحرق الكتب في أسرة "تشين" الصينية في القرن الثالث قبل الميلاد، وحرق الفرنجة لمكتبة طرابلس الشام في بداية القرن الثاني عشر للميلاد، وحرق "أبو يوسف المنصور" لكتب ابن رشد في إشبيلية عام 1194م، وما فعلة الأسقف "خيمينيث" الذي أمر بحرق الكتب الإسلامية في غرناطة بعد استسلامها للقشتاليين سنة 1492م. لكن يعلّمنا التاريخ أيضًا أن الممارسات العنصرية تبدأ من الكراهية والتمييز، قبل اقتراف جرائم القتل والإبادة الجماعية. فإن معاداة وشيطنة أي عرق أو دين أو ثقافة، هو "معاداة للإنسانية" في معناها الأخلاقي العميق.
لم يعد أمامنا وقت لنضيعه في صراعات هامشية. فالعالم اليوم يواجه تحديات معقدة لا تبعث على التفاؤل، ومنها الصراعات العسكرية وتغير المناخ. يجب علينا العمل على تعزيز منظومة الحقوق العالمية، التي لا تقبل التنازل في جوهرها المتمثل بتحقيق الكرامة الإنسانية للجميع. فمن واجبنا جميعًا أن نقف صفًّا واحدًا ضد التعصب والعداء، وأن ندافع بدلًا من ذلك عن الوئام والتقارب الثقافي.
إنما يقوم بالتحريض على أعمال الكراهية أولئك الذين يعانون جهلًا عميقًا بالآخر، ويقعون في دائرة من اللوم المتبادل وتوجيه أصابع الاتهام. فالمطلوب اليوم هو نهج مركزُه الإنسان، يقوم على أساس "شمولية التعلم حول الدين وحقوق الإنسان"، بحسب ما جرى تأكيده في تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. يجب أن نصبح شركاء حقيقيين وفاعلين مؤثرين في الإنسانية، عوضًا عن الخوف من "الآخر"، ويجب علينا التركيز على الحوار والتعاون بين أتباع الأديان كنهجٍ للسياسة الخارجية وبناء السلام على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. وإذا تم تحقيق ذلك من خلال إطار حضاري يحترم الخلاف، فإنه سيؤسس لنظام إنساني عالمي جديد، تُحترم فيه الأديان وكرامة الإنسان.